مركز العلمانيين في الكنيسة
الأب أنطونيوس إليفيزوبولوس
أ – كهنوت ملوكي
اصطفى الله إسرائيل ليجعله “شعباً مختاراً…. مملكة أحبار… أمّة مقدّسة” (خر19: 5 – 6)، وقال بلسان أشعياء: “أما أنتم فتُدعون كهنة الرب ويُقال لكم خدّام إلهنا…” (أش61: 6). وقولوا “لابنة صهيون:هوذا مخلصك آتٍ، هوذا جزاؤه معه وعمله أمامه. وهم يدعون الشعب المقدّس، مفتدى الرب. وأنت تدعين المطلوبة، المدينة غير المهجورة” (أش62: 11 – 12).
هذه الشهادات المأخوذة في العهد القديم، التي تشير الى شعب الله المختار مهمّة جداً، لأنها تشكّل نموذجاً ورمزاً الى مكانة شعب الله الجديد، أي المسيحيين، لأن شعب إسرائيل ليس سوى صورة للكنيسة (أنظر غلا4: 21 – 31، رو4: 1 – 25، 9: 6 – 8).
ويقول الرسول بطرس:” وأنتم أيضاً حجارة حيّة فقدّموا أنفسكم لبناء بيت روحاني للكهنوت المقدّس كيما تقرّب ذبائح روحية مقبولة لدى الله بيسوع المسيح” (1بط2: 5). لا تشير هذه الآية الى فئة معيّنة من المسيحيين الى جميع المؤمنين الذين يتشكل منهم بنيان الكنيسة الروحاني، ويكون حجر الزاوية فيه يسوع المسيح نفسه، أخونا البكر (اف1: 22، 5: 23، كول1: 18). والمسيح هو “ملك ملوك الأرض… الذي جعل منا مملكة من الكهنة لإلهه وأبيه” (رؤ1: 5 – 6) لكي “نملك على الأرض” (رؤ5: 10).
تُظهر هذه المقاطع الكرامة السامية لكل مؤمن في الكنيسة، والمسؤولية العظمى الملقاة على عاتقه. وهما كرامة ومسؤولية فريدتان.
ب – كاهن للجسد نفسه
المؤمن المسيحي كاهن بجسده وكامل وجوده. وهو مدعو الى أن يقدّم ذاته وجميع أعماله ذبيحة لله، ومعها الخليقة بأسرها التي سلّطه الله عليها (تك1: 28 – 30). “فأسألكم إذن، أيها الإخوة، برأفة الله أن تجعلوا من أنفسكم ذبيحة حيّة مقدّسة مرضية عند الله. فهذه هي عبادتكم الروحية” (رو12: 1). وهكذا تصبح حياة الإنسان بكاملها تقدمة مستمرة لله وعبادة إلهية متواصلة. فـ”إنسان الله” ينقطع عن التفكير والعمل الأنانيين، ولا تكون أفكاره الخاصة ومصلحته الذاتية محور كيانه، كما فعل المخلوقات الأولان عندما سقطا في تجربة الشيطان، بل مشيئة الله ومجد الرب (1كو: 20).
الحياة الشخصية لكل مسيحي تغدو شهادة لحضور الله وعمله داخل الإنسان حتى أن كل من يرى طريقة حياته يستنتج بسهولة أن المسيح يحيا فيه، وأنه ليس إنساناً عادياً، بل مواطن في ملكوت الله. وبهذه الطريقة تصبح أعماله وحياته كلها خدمة إلهية دائمة، وتستعيد معناها الأول الذي كان لها في فردوس الله (متى5: 16، 1كو10: 3).
فإذا سيطر هذا الإنسان على الطبيعة، واكتشف جميع طاقاتها وأخضعها، وبدّل كل شيء حوله، فإنه لا يفعل ذلك لنفسه بل لإخوانه جميعاً، ويقدّم كل أعماله الى المسيح نفسه شكراً له (أم19: 7، متى25: 40، 2كو9: 12 – 15). “ومهما تفعلوا فاعلوه من صميم القلب كأنه للرب لا للناس، عالمين أن الرب سيجيزكم بميراثه، فللرب المسيح تعملون” (كول3: 23 – 24).
وفي الكتاب المقدس آيات عديدة تؤكد أنّ “الرحمة ومحبة الأخوة تسبقان كل مظهر عبادي آخر، وبدونهما تغدو عبادة الله باطلة” (هوشع6: 6، الملوك الأول15: 22، متى9: 13، 5: 23 – 24، مر11: 25، يع1: 27، 15 الخ…). وقد أشار النبي أشعياء الى الصوم الحقيقي وشدّد على أهمية خدمة الإخوة: “أليس هو (الصوم) أن تكسر للجائع خبزك، وأن تُدخل البائسين المطرودين بيتك، وإذا رأيت العريان أن تكسوه وأن لا تتوارى عن لحمك. حينئذ يتبلج كالصبح نورك وتزهر عافيتك سريعاً ويسير برّك أمامك ومجد الرب يجمع شملك. حينئذ تدعو فيستجيب الرب وتستغيث فيقول: ها أنا ذا بقربك!” (أش58: 7 – 9).
ولذا يقدّم الإنسان خيراته وثمار أتعابه شكراً لله، كالخبز والخمر في سرّ الشكر الإلهي: “التي لك مما لك نقدّمها لك على كل شيء ومن جهة كل شيء”. الخبز والخمر عطيتان من الله، ولكنهما في القت نفسه من ثمار تعب الإنسان. وهذا التعب بالذات هو ما يقدّمه الإنسان لأخوانه كذبيحة الله (أمثال19: 17، متى25: 40). ويقول النبي داود في سفر أخبار الأيام الأول: وإنما الجميع منك، ومن يدك أعطيناك. لأننا إنما نحن غرباء لديك ونزلاء كجميع أبائنا، وأيامنا كالظل على الأرض وليس لنا قرار. أيها الرب إلهنا، إن كل هذه الثروة التي أعددناها لنبني لك بيتاً لاسمك القدوس إنما هي من يدك والجميع لك” (29: 14 – 16).
موقع الإنسان في قلب الخليقة يظهر أن الإنسان المولود جديداً (المعتمد) لا يمكن أن يكون ضد التقدّم والعلم. ولكنه يتجنّب، بكل وسيلة ممكنة، تجربة الشيطان في عصرنا الحاضر، والكامنة في استخدام الطبيعة وقوى خليقة الله بطريقة أنانية.
إن الإنسان ليس مدعواً للعودة الى طريقة الحياة الأولى، حيث كان المجتمع الزراعي سائداً، بل عليه أن يسخّر إمكاناته كلّها في سبيل تقدّم العلم والفن. ولكنه مدعو أيضاً الى أن يروي جميع أعماله من روح الله، وأن يجعلها ينبوع تمجيد لإسمه القدوس (1كو6: 20).
“إحذر أن تنسى الرب إلهك ولا تحفظ وصاياه وأحكامه ورسومه التي أنا آمرك بها اليوم، مخافة أنك إذا أكلت وشبعت وبنيت بيوتاً حساناً وسكنتها، وكثر بقرك ونمك وفضتك وذهبك وجميع مالك، يطمح قلبك فتنسى الربّ الهك الذي أخرجك من أرض مصر من دار العبودية. الذي سيّرك في الأرض الشاسعة المخيفة حيث الحيّات المحرقة والعقارب والعطش حيث لا ماء. الذي أخرج لك الماء من صخرة الصوان، وأطعمك في البرية المنّ الذي لم يعرفه آباؤك ليعنّيك ويمتحنك حتى يحسن إليك في آخرتك، ولئلا تقول في قبك أن قوتي وقدرة يدي هما أنشأتا لي هذا اليسار، بل تذكّر الربّ إلهك فإنه هو الذي أعطاك قوة تكسب بها اليسار لكي يفي عهده الذي أقسم به لآبائك كما في هذا اليوم” (تثنية8: 11 – 18، أنظر11: 16).
ج – كاهن خليقة الله
يظهر ممّا ذكرناه أن الإنسان يشعر أنه مسؤول عن خليقة الله، ويسمع مجدّداً صوت الله الذي جعله في الفردوس وأمره وأوصاه أن يعمل فيه، ويضع عمله في خدمة إخوانه، أي أن يجعله أداة لمجد الله (تك2: 15). والإنسان الروحي، إنسان الخليقة الجديدة الممسوح ملكاً وإبناً للملكوت، لا يجد نفسه بعد ذلك في خلاف مع خليقة الله، بل يستعيد مركزه الصحيح في وسطها، أي المركز الذي كان لآدم قبل السقوط.
يقول بولس، أحد آباء البرية: “إذا حصل أحد على النقاوة، فإن كل شيء يخضع له، كما كانت حال آدم في الفردوس قبل أن يخالف وصية الله”. ويذكر القديس اسحق السرياني أن إيمان الصدّيق بالله “يحوّل وحوش الغاب الى حملان وديعة بريئة”.
ونحن نلمس سلطة الإنسان الملوكية والكهنوتية على سائر مخلوقات الله وشعوره بالمسؤولية العظمى نحوها، في سٍيَرْ قدّيسي كنيستنا. فقد ذكر السنكسار الحادثة التالية عن البار كوبريوس: “فيما كان هذا البار صاعداً الى الجبل مع حمار الدير ليحتطب، عضّت دابّة الحمار في فخذه، فأمسك البار بالدابة وحملّها الحطب قائلاً: “لن أتركك أبداً، بل ستخدمين وتقومين بعمل الحمار الذي جرحته الى أن يتعافى”. فخضعت الدابة له وحملت الحطب.
ونذكر أيضاً الحادثة التي رواها تلاميذ أنطونيوس الكبير للقديس ايلاريون أثناء زيارته حديقة دير القديس: عندما بدأ أبونا المغبزوط أنطونيوس يزرع هذه الأشجار، كانت الوحوش البرية تتلف منها نصوباً كثيرة، لأنها كانت تدخل البستان وهي في طريقها الى النهر لتشرب. فرآها القديس مرة وهي تدخل البستان فأمسك بيده عصا واقترب من الحيوان الذي كان يسير في طليعتها، وأمره أن يهرب. ولكن الوحش توقف. فضربه القديس برفق على جنبه قائلاً: “لماذا تظلمونني، أنا الذي لم أظلمكم أبداً؟ لماذا تأكلون الثمر الذي لم تعتنوا بزراعته؟ إذهبوا ولا تتجرأوا فيما بعد على الدخول الى هذا البستان”. ومن ذلك الحين كانت الوحوش تأتي الى النهر لنشرب، ثم تعود دون أن تدخل البستان”.
د – بشير ملكوت الله
قال الرب يسوع: “أما أنت فامضِ وبشّر بملكوت الله” (لو9: 60). فحياة المسيحي يجب أن تكون فعل تمجيد لإسم الله بين البشر (متى5: 16، 1كو10: 31، 10بط2: 11 – 12) حتى يأتي أولئك الذين خارج الكنيسة الى الإيمان القويم. وهكذا تصبح حياة المسيحي دافعاً للعالم ودعوة له الى معرفة الحقيقة.
يقول المسيح: “إذهبوا وتلمذوا كل الأمم” (متى28: 19) وقد حدّدت الكنيسة قراءة هذا المقطع في الصلاة على الزيت المقدّس، إشارة الى أن دعوة المسيح موجّهة الى كل معتمد مسيحي. لأن المسيح لم يأتِ ليخلّص عدداً محدّداً من “المختارين” كما يدّعي رجال الضلال. لقد جاء لخلاص البشرية جمعاء (1تيم2: 4)، وجميع الناس مدعوون الى أن يكونوا أبناء ملكوت المسيح السماوي. وإذا كنّا نرغب في أن تتحقق مشيئة المسيح علينا أن نعمل لخلاص الإخوة. فالمسيح يقول: “ولي خراف أخرى ليست من هذه الحظيرة، فتلك أيضاً لا بدّ لي أن أقودها. وستسمع صوتي، فيكون هناك رعيّة واحدة وراع واحد” (يو10: 16، أنظر أش66: 19).
يجب أن يكون المسيحي “مستعداً أبداً لأن يردّ على من يطلب منه دليل ما هو عليه من الرجاء” (1بط3: 15)، ولكن ينبغي أن يكون ذلك “بوداعة ووقار. وإذا كنتم ذوي سيرة صالحة وافترى بعضهم الكذب عليكم، يخزى الذي عابوا حسن سيرتكم في المسيح” (1بط3: 15 – 16)، “وليكن كلامكم دائماً لطيفاً وظريفاً فتعرفوا كيف ينبغي لكم أن تجيبوا كل إنسان” (كل4: 6).
ثمة رجاء وحيد وأكيد للمؤمنين، وهو المسيح (2كو1: 6، تيطس1: 2 – 3، 1يو3: 3)، ومن دونه لا رجاء للإنسان (1تس4: 13، أف2: 12)، فكيف يمكن ألاّ يبالي المؤمن المسيحي بذلك، فيضع ثقته بالبشر الأقوياء؟ إن الرجاء في المسيح وحده لا يحقق إرادة الله حسب، بل هو أفضل مظهر لمحبة الله (1يو3: 7، 4: 7 – 8، 4: 20، حز3: 16 – 21، 33: 1 – 20). وهو شهادة على نقاوة الإيمان القويم والحياة المسيحية. فإذا بقينا ثابتين على هذا الرجاء، نلتهب شوقاً لخلاص إخوتنا، ولا نهدأ إذا رأيناهم يعيشون في اللامبالاة والضلال، ويستمرون خارج هذا الرجاء، وذلك عملاً بقول القديس يعقوب: “أيها الإخوة، إن ضلّ بعضكم عن الحق وردّه أحد إليه، فليعلم أن من ردّ خاطئاً عن طريق ضلاله خلّص نفساً من الموت وستر كثيراً من الخطايا” (يع5: 19 – 20، 1: 15، لو15: 24 – 32).
فإذا واجه أخونا خطراً كبيراً لا يسعنا أن ننظر الى خلاصه بلا مبالاة، أو أن نؤجل العمل من أجله، فكما يقول القديس أنطونيوس: “من قريباً تكون الحياة والموت. فإذا ربحنا أخانا ربحنا الله” (أنظر حز3: 16 – 21، 33: 1 – 20). أما إذا لم نحفل بذلك، فهذا يعني أن الشجلعة تنقصنا، فلا نعترف أن الرجاء ليس ثابتاً فينا.
ففي الحالة الأولى علينا أن نتذكر أقوال الرب بأنه سيعترف أمام أبيه بكل من يعترف به أمام الناس (متى10: 32 – 33، مر8: 38، لو9: 26، 12: 8 – 9، 2تيم2: 12). أما في الحالة الثانية، فعلينا أن نضع نصب أعيننا أقوال الرؤيا: “أريد أن تكون بارداً أو حاراً، ولكنك فاتر، لا حار ولا بارد، وقد أوشكت أن أتقيأك من فمي” (رؤ3: 16).
ونذكر أخيراً أقوال فيلاريت متروبوليت موسكو: “إذا رفضت أن تتعلّم أو تعلّم، فإنك لست تلميذاً للربّ. من أنت إذاً؟ لست أدري. ولا أدري أيضاً ماذا ستغدو في الحياة الحاضرة والآتية” (أنظر إرم20: 9، حز3: 16 – 21، 33: 1 – 20، 1كو9: 16).