لا تؤجّل
إعداد راهبات دير مار يعقوب المقطع، دده – الكورة
علا رنين الهاتف، وكأنّ رنّاته المتلاحقة تعدو مسرعةً لتوصل لأثناسيوس نبأ مرض صديقه نيقولاوس. وبسرعة البرق انبث الخبر بين الأقارب والأصدقاء، فإنّ نيقولاّوس حاصل في شدّة، إذ تعرّض فجأة ليل أمس إلى حادث قلبيّ جعل جسده يذوق خبرة الألم، فنقل على أثره إلى المستشفى. حامية هي المحاورات، وكثير هو القلق، وكبير هو الهمّ. فالواحد يرتئي قائلاً: “ترى أليس من الضروري أن نستدعي الكاهن ليصلّي له ويناوله الأسرار الطاهرة؟ ولكن كيف سنقول له؟ فيجيب الآخر، وهو يفرك بيديه: “آه، سوف يرتعد، ولكن أليست هذه القدسات هي زاد الحياة الأبديّة؟!!” فانبرى أثناسيوس مصرًّا: “يجب أن يعترف بخطاياه، فحياته لم تكن مرضيّةً لله تمامًا.” لكنّ أحدًا لم يحرِّك ساكنًا. لحظات من الفزع مرّت، وساعات من الصعوبات والاقتراحات ضغطت، والكلّ يترقّب بوجل. حقًّا كان يومًا صعبًا!! ولكن، ها شارات الفرح ترتقص على وجه الممرّضة، ما الخبر؟! لقد زال الخطر، ونجا نيقولاوس، وتوقّف خوف الأطبّاء، فتنفّس الكلّ الصعداء، وكأنّ غمامة ثقيلة انزاحت عن قلوبهم.
متأخّرًا في عصر ذلك اليوم الجميل اجتمع في غرفة نيقولاوس صديقان مع بعض الأقارب الأخصّاء. كان الجوّ مرحًا ومريحًا، نيقولاوس يبدو حيويًّا وفرحًا وهو يقول: “ها قد عدت أضحك وأفرح، وغدًا أو بعد غد أذهب إلى بيتي”. وهنا اعترضه أثناسيوس صديقه الودود، بلهجة يشوبها التهديد مع شيء من الفكاهة: “ها إنّك عوفيت، فلا تخطأ بعد لئلاّ يصيبك أعظم” (يو 14:5)، بينما تمتم آخر: “لقد أعاد الربّ إليه صحّته عساه يرعوي ويعود إلى أحضانه”. وهكذا، وبعد أن انقشع الهمّ عن الأفئدة، عادوا إلى منازلهم وبريق السرور يلمع في عيونهم.
بيد أنّ الجميع صعقوا متحيّرين من جديد، وقد سُلبوا النطق، إذا انقضّت عليهم مكالمة هاتفيّة تعلن مغادرة نيقولاوس لهذه الحياة مع الساعات الأولى للفجر. لقد أستلم تأشيرة سفره إلى السماء على حين غرّة وبسرعة غير متوّقعة.
لم يتجاوز نيقولاوس الخامسة والخمسين من عمره، وقد وصفه أصدقاؤه بأنّه ربّ عائلة صالح وناجح، وبأنّه صديق وفيّ مخلص حسن الطويّة، وبأنّه إنسان عصاميّ حيويّ. ولكنّ البعض، أيضًا، نعته بأنّه عصبيّ المزاج ونزق وجشع ووصوليّ، وقد محا من نفسه كلّ أثر لذكر الربّ.
تعرّض في الماضي، لحادث مماثل أوصله إلى أبواب المنون، وعندما اجتاز الخطر ظهر وكأنّه قد ثاب إلى رشده، وقرّر أن يغيّر حياته، فلم ينفكّ يردد: “لقد أفرطت في التنعّم، وتهت بعيدًا في وعورة الفساد أعبث بلذّات الحياة كيفما أشاء إلى أن كشفت لي صروف الدهر بأنّ الاحياة حلم قصير، وأنّنا لسنا شيئًا، فاليوم نحن هنا، وغدًا نوجد في الحياة الثانية حيث نتمتّع بالمجد الإلهيّ، أو نعاني القصاص الأبديّ. يجب أن نصحوا لأنفسنا، وأن نضع برنامجًا روحيًّا لحياتنا”. وهكذا أصبح يذهب بتواتر إلى الكنيسة، وأحيانًا يرضخ لطلب زوجته لحضور بعض المحاضرات الروحيّة حيث كانت نفسه القاحلة ترتوي، منتشيةً بتذوّق الحلاوة الإلهيّة.
“هذا الكتاب مهمّ جدًّا” كان يقول وهو يشير إلى الكتاب المقدّس. وعندما اشتراه اختار نسخةً من أفضل النسخ جودةً وأجملها إصدارًا. وراح يقرأه في منزله، فكان كلّ أفراد عائلته يفرحون لتغييره، لأنّهم رأوا من كان عصبيّ المزاج، وعلى عجلة دائمة من أمره، ومهموكًا ومتذمّرًا يشتكي معبّسًا من كلّ أمر حوله، هذا الذي كان يدَّعي بأن لا وقت لديه يضيِّعه في قراءة الكتاب المقدس، ها هوذا يجلس من دون أيّ ظلّ للتبرّم ولا للتّشكّي، ليغترف، من ينبوع الكتاب الذي لا ينضب، هدوءًا وسلامًا لروحه، ثمّ يطبق دفّتيّ الكتاب، ويغمض عينيه هامسًا بعض آياته، ولا سيّما قول ابن سيراخ: “في جميع أعمالك اقتدِ بضميرك، فإنّ ذلك هو حفظ الوصايا” (27:32). حقًّا لقد تحوّل تراب نفسه إلى حقل خصب يزهو بأريج المحبّة الإلهيّة.
ولكن ما إن تملَّلك صحته، حتّى عاد الإهمال يناديه ثانية ليرتمي بين ذراعيه، متذرّعًا بضيق الوقت فلا يطالع الكلمة الإلهيّة، كما بدأ يتكاسل عن الذهاب كلَّ أحد إلى الكنيسة قائلاً لأثناسيوس صديقه الحميم: “يا صاح، لا وقت لديّ، ولا أستطيع أن أغضّ الطرف عن فرص عملٍ ذهبيّة تفرض نفسها عليّ بكلّ إغراءاتها”. فكان أثناسيوس يجيبه بهدوء: “أتعلم، يا نيقولاوس، لقد أبدى أحد الأطباء نصيحة غريبة لمريض غائصٍ في لجّة الطمع يمضي أيامه بالطيبات. هذا الرجل، علاوة على أنّه صاحب أعمال واسعة، ومنشآت كثيرة أفرغ فيها كلّ طاقاته وحكمته، لم يكن أحد يباريه بالهمة والنشاط. فقد قال يومًا لطبيبه بلهجة فظَّة: “لديّ أعمال كثيرة يجب إتمامها، ومن الواجب والضروريّ تنفيذها من دون تأجيل ولا إبطاء. وإلى ذلك، فأنا أرصد الأوقات لأجني أرباحي منها، ولذلك فأنا أعمل لساعةٍ متأخرة من الليل في منزلي”. فقال له الطبيب: “إنّ أهنّئك على همّتك ونشاطك. ولكن، ألا يوجد من يساعدك؟” فأجابه المريض: “كلا، فأنا، فقط، أستطيع إنجاز هذه الأعمال”. ثمّ ابتسم وقال بمرح: “لقد عقدت قراني على أعمالي، فلا أعطيها كتاب طلاق حتّى أنهيها بأكملها، وعلى أتمّ وجه، فأنا أحبّ السرعة في مثل هذه المواضيع”. فتفرّس فيه الطبيب وقال له بأسًى: “أطلب منك، وطبعًا حرصًا منّي على صحّتك، أن تتوقّف عن أعمالك بضع ساعات، فقط، في الأسبوع، وأن تذهب إلى إحدى المقابر حيث تتأمّل في تلك الأجساد الراقدة، التي كانت يومًا ما أجسادًا تنبض بالحياة والروح وها هي قد مضت وما عادت قطّ” (مز 39:77)، وأن تتذكّر، أيضًا، بأنَّ الكثيرين منهم كانوا يعتقدون بأنَّ العالم كلَّه يستند على أكتافهم، وبذلك تاهوا في مشورة قلوبهم. وتأمَّل أيضًا نهايتهم وكيف أنَّ العالم استمرَّ بعد غيابهم كما أن شيئًا ما لم يكن. فمهما تكن مهمًّا، فإنَّ الآخرين، أيضًا، ضليعون بالقيام بنفس الأعمال التي تقوم بها أنت. وأطلب منك، كذلك، بأن تجلس فوق أحد هذه القبور الحجريّة، وأن تكرّر قول المزمور‘ألف سنة في عينيّ الربّ مثل يومٍ يمرّ( مز4:9)، وأيضًا: ‘حياتنا مثل نسيج العنكبوت’ (مز 9:89).” راقت لنيقولاوس هذه الوصفة الطبيّة، وأخذت بمجامع قلبه حتّى صار ينقلها إلى عدد من أصدقائه، ولكنَّه هو نفسه لم يتراجع عن عجيج عاداته السيّئة، ولا بدّل شيئًا من حياته. وكان لا يفتأ يُردّد: “مهلاً، علامَ العجلة؟!! فنحن ما نزال في عنفوان الشباب. لا بأس، العمر أمامنا. وقد يأتي يوم أتخلّى فيه عن رداء رذائلي المهلهل. نعم، في المستقبل سوف يكون لديّ، بلا شكّ، الكثير من الوقت لأسير في الدربّ الروحيّ، وأستأصل أشواك خطاياي بالتوبة. بالحقيقة، يا صديقي، إنَّ الحياة الروحيّة جميلة إن كان لديك متّسعًا من الوقت لتستمتع بها، فالكتاب المقدّس يحوي كنوزًا. الحياة قرب المسيح تملؤك سلامًا، فيشعر قلبك بالشبع والدفء.” ثم يسرح بنظره إلى البعيد، ويقول بصوتٍ رقيق: “أذكر أنّي بعد مرضي اهتممت جدًّا بهذه الأمور، وغدوت، يومها، شخصًا آخر بالكلّيّة، ولكن بعد حين ختلتني ترابية العالم وأوقعتني بشباكها فعدت والتصقت بها من جديد. ولكن عندي يقين بأن اليوم الموعود الذي سألتصق فيه بالروحيات آتٍ عما قريب. نعم سوف أنهل من نعيمها حتّى الثمالة”
هكذا اعتاد نيقولاوس أن يفكِّر، وبالرغم من أنَّه كان يحسب نفسه فائق الذكاء، كما هي حال الكثيرين أمثاله، فاته التدقيق في العديد من الحقائق الأساسيّة والمهمّة. فنسي بأنَّ اللحظة الحاضرة فقط هي ملكنا، وأنَّ الغد هو بيديّ الله، لا نستطيع امتلاكه. ونسي، أيضًا، “بأنّ حياتنا هي بخار يظهر قليلاً ثمّ يضمحل” (يع 14:4)، وبأنَّ مسكننا الأبديّ، والحقيقيّ، كائن وراء القبر. وما سنحمله معنا إلى هناك لا يوضع في حقائب ولا يؤتى به من المستودعات. لا هو موجود في المباني ولا في الحقول، ولا يُجمع في المصارف. ما سنأخذه معنا يتسامى على كلّ هذا، لأنّه محصول حياتنا الروحيّة، ونتيجة جهادنا في سبيل اقتناء الفضيلة والابتعاد عن منعرجات السيّئات. ما سنأخذه معنا هو ثمر إيماننا بالمسيح الحيّ المرساة الحقيقيّة، وثمار توقّدنا بالمحبّة الإلهيّة. ما سنأخذه معنا هو مدى معرفتنا لله، وكتابتنا لوصاياه على ألواح قلوبنا، ومقدار ما غدت هذه الوصايا أفعالاً مجسّدة في هذه الحياة الدنيا. وإن استعددْنا بحسب ما يوصينا الآب السماويّ، فإنّ منزلنا السماويّ لا بدّ أن يكون فائق الجمال بحيث لا تستطيع عين ولا أذن أن تتخيّله (1كو 9:2). وهذا ما أكَّده لنا الكلمة الإلهية بفم الرسول بولس حين قال: “لايخطر على قلب بشر ما أعدّه الله للذين يحبّونه”(1كو 9:2). ولكن متى وضعنا اهتماماتنا الدنيويّة في المرتبة الأولى، فإنّنا مهما شدّدنا على هويّتنا المسيحيّة وعلى إيماننا الأرثوذكسيّ، ومهما ادَّعينا بأنّنا مسيحيّون صالحون، فإنّ حياتنا الأبديّة ستكون كما خططناها نحن، لأنّه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك” (متى 21:6) بحسب قول السيّد المسيح في إنجيله المقدّس.
أرجو، يا صديقي، متى قرأت هذه الأسطر، أن تتمعّن فيها وتفطن إلى المعاني المذخرة بين طيّاتها. وإن كنت، حتّى الآن، لم تدرك ماذا أعني، هيّا افتح الكتاب المقدّس وباشر بالقراءة، وارتشف بغزارة من كأس تعاليمه العلويّة، وهو سوف يكشف لك كلّ شيء.