بيان صادر عن شِركة الجبل المقدّس أثوس
نقله إلى العربية الأب أنطوان ملكي
إن زيارة البابا بندكتوس السادس عشر منذ مدة قصيرة إلى البطريركية المسكونية بمناسبة عيد الرسول إندراوس (الثلاثين من تشرين الثاني 2006) والزيارة الأخيرة لصاحب الغبطة رئيس أساقفة أثينا خريستوذولوس إلى الفاتيكان (الرابع عشر من كانون الأول 2006)، أثارتا الكثير من الانطباعات والتقييمات وردّات الفعل. بصرف النظر عّما قيّمته وسائل الإعلام على أنّه إيجابي أو سلبي، سوف نركّز على الأمور المتعلّقة بخلاصنا الذي من أجله تركنا العالم لنعيش في برية الجبل المقدّس.
إننا، رهبان الجبل المقدّس، نحترم البطريركية المسكونية التي نتبعها قانونياً. نحن نوقّر ونجلّ الكلي القداسة البطريرك برثلماوس ونبتهج بكل إنجازاته المحِبّة للمسيح وعمله الجاد لخير الكنيسة. بشكل خاص، نحن نذكر في صلواتنا دفاعه القوي والمستمر عن البطريركية المسكونية، كما عن الكنائس الأرثوذكسية المحلية المستضعفة، وسط ظروف سلبية كثيرة، واهتمامه في إسماع صوت الكنيسة الأرثوذكسية في كل العالم. إلى هذا، نحن رهبان الجبل المقدس، نُجِلّ كنيسة اليونان التي يأتي أغلبنا منها، ونحترم صاحب الغبطة رئيسها.
ومع ذلك، الوقائع التي جرت خلال الزيارتين الأخيرتين، البابا إلى الفنار وصاحب الغبطة رئيس الأساقفة إلى الفاتيكان، حملت إلى قلوبنا حزناً هائلاً.
نحن نتوق ونجاهد طوال حياتنا لنصون تراث الآباء القديسين الذي تركه لنا مؤسسو أديارنا والآباء الراقدون قبلنا. نحن نبذل أقصى جهدنا لكي نعيش سرّ الكنيسة والإيمان الأرثوذكسي النقي، الذي نتعلّمه كل يوم من الخدم الإلهية والقراءات المقدّسة وتعاليم الآباء القديسين التي وضعوها في كتاباتهم وفي قرارات المجامع المسكونية. نحن نحفظ وعينا العقائدي “مثل بؤبؤ العين”، ونعززه بحثّ أنفسنا على الأعمال التي ترضي الله والدراسةِ الدقيقة لإنجازات الآباء القديسين المعترفين الذين قهروا الهرطقات المتنوعة، وبخاصةٍ أبينا في القديسين غريغوريوس بالاماس والقديسين شهداء الجبل المقدس والشهيد قوزما الأول الذي نوقّر رفاته المقدسة بكل إجلال ونحتفل بتذكاره المقدس باستمرار. نحن نخشى التزام الصمت عندما تظهر أمور تتعلّق بالميراث الذي تركه لنا آباؤنا. نحن نحسّ أننا مسئولون تجاه الآباء والإخوة الأجلاء في أخوية الجبل المقدس بأكملها، كما نحو أبناء الكنيسة المؤمنين الأتقياء الذين يرون في الرهبنة الأثوسية حارساً ثابتاً للتقليد المقدّس.
قد تكون زيارتا البابا إلى الفنار ورئيس الأساقفة إلى الفاتيكان قد أمّنتا بعض الفوائد الدنيوية. إلى أنّه، خلال هذه الزيارات جرى عدد من الأحداث التي تتنافر مع مناهج الإكليسيولوجيا الأرثوذكسية، وتَمّت بعض التعهدات التي لا تنفع الكنيسة الأرثوذكسية ولا المسيحيين غير الأرثوذكسيين.
قبل كل شيء، استُقبِل البابا وكأنّه أسقف قانوني لروما. خلال الخدمة، لبس البابا أموفوريون؛ البطريرك المسكوني حيّاه قائلاً “مبارك الآتي باسم الرب” وكأنّه السيد المسيح؛ بارك البابا المؤمنين وذُكِر في الصلوات على أنّه “صاحب القداسة والغبطة أسقف روما”. أيضاً، أظهرت تلاوة البابا للصلاة الربية والسلامات الليتورجية مع البطريرك وكأن هناك ما هو أكثر من مجرد صلاة مشتركة. وكل هذا جرى من دون أن تتخلّى البابوية عن تعاليمها وسياستها الهرطوقيتين؛ على العكس، البابا يشجّع الإتحادية بشكل علني ويحاول أن يعزّزها؛ هذا بالإضافة إلى العقائد البابوية في الأولية والعصمة، و الصلوات المشتركة مع غير المسيحيين والسيطرة البابوية على الأديان.
في ما يتعلّق بزيارة البابا إلى الفنار، إننا نحزن لأن وسائل الإعلام رددت كثيراً المعلومة المغلوطة نفسها، وهي أنّ الطروباريات التي أُنشِدَت على نحو غير ملائم خلال الزيارة، هي من تأليف رهبان الجبل المقدّس. نغتنم هذه الفرصة لنعلِم كلّ المسيحيين الورعين أنّ مؤلّف هذه الترانيم ليس من رهبان الجبل ويستحيل أن يكون منهم.
نأتي هنا إلى محاولة صاحب الغبطة رئيس أساقفة أثينا لأن يستهلّ علاقات مع الفاتيكان حول قضايا اجتماعية وثقافية وذات علاقة بأخلاقيات الحياة، بالإضافة إلى تحقيق دفاع مشترَك عن الجذور المسيحية لأوروبا (وهي مواقف موجودة أيضاً في الإعلان المشترك بين البابا والبطريرك في الفنار). كِلا الأمرين قد يبدوان حميدين لا بل إيجابيين خاصةً وأنّهما يهدفان إلى تعهد علاقات بشرية مسالمة. إلا إنّه من المهم أن نتلافى بثّ الانطباع وكأن الغرب والأرثوذكسية قائمان، قبلاً والآن، على نفس الأسس. كما أنّه مهم ألاّ ندع أحداً ينسى المسافة التي تفصل التقليد الأرثوذكسي عمّا يُشار إليه عادة بـِ”الروح الأوروبية”. إن أوروبا (الغربية) مُثقَلَة بسلسلة من المؤسسات والأعمال المنافية للمسيحية، وقد اتّخذت شكل الانشقاق البروتستانتي، الحربين العالميتين المدمرتين، الإنسانوية التي مركزها الإنسان مع نظرتها الملحدة إلى العالم. كل هذه هي من نتائج انحرافات روما اللاهوتية عن الأرثوذكسية. رويداً رويداً، حلّت الهرطقات البابوية والبروتستانتية، بشكل تدريجي، محلّ مسيح الأرثوذكسية وتوّجَت الإنسان المتغطرس مكانه. يكتب المتقدّس نيقولا أسقف أوخريدا وزيكا: “ما هي أوروبا بعدَ هذا؟ البابا ولوثر… هذا ما هي أوروبا عليه، في الصميم، وجودياً وتاريخياً”. يقول القديس يوستينوس بوبوفيتش: “يشكّل مجمع الفاتيكان الثاني تجديد كل أنواع الإنسانوية الأوروبية… لأنّ المجمع التزم بإصرار عقيدة عصمة البابا”؛ ويستنتج: “من دون شك، سلطات وقوى الحضارة والثقافة الأوروبيتين (الغربيتين) هي طاردة للمسيح”. لهذا السبب، من الضروري أن نبثّ أخلاقية الأرثوذكسية المتواضعة وأن ندعم الجذور المسيحية الحقيقية لأوروبا الموحّدة، تلك الجذور التي كانت لأوروبا خلال القرون المسيحية الأولى، أي في زمن السراديب والمجامع المسكونية السبعة. من المستصوب ألاّ ترهِق الأرثوذكسية نفسها بخطايا غريبة ولا أن تعطي انطباعاً لأولئك، الذين صاروا مرتدين عن مسيحيتهم كردة فعل على انحراف المسيحية الغربية عن مسارها، بأن للأرثوذكسية علاقة بالأمر. كما من المستحسن ألاّ تكفّ الأرثوذكسية عن الشهادة بأنّها الإيمان الأصيل الوحيد بالمسيح، والرجاء الوحيد لشعوب أوروبا.
لا يظهر الكاثوليك أي رغبة بحلّ أنفسهم من قرارات المجامع (التي يرونها مسكونية) التي أعلنت عقيدة انبثاق الروح القدس، العصمة، سلطة البابا المدنية، النعمة المخلوقة، الحبل بلا دنس، الإتحادية. بالرغم من كل هذه، ما زلنا، كأرثوذكس، نتابع ما عُرف بالتبادل التقليدي للزيارات مانحين البابا من الشرف ما يليق بأسقف أرثوذكسي، مهملين كلياً عدداً من القوانين المقدسة التي تحرّم المناولة المشتركة، بينما يتخبّط الحوار اللاهوتي مرة بعد مرة، وبعد أن يُرفَع من الأعماق يعود فيغرق.
وهكذا علينا أن نستنتج أن الفاتيكان لا يوجّه نفسه نحو نبذ تعاليمه الهرطوقية، بل هو “يعيد تفسيرها”، أو بتعبير آخر، يسترها.
تختلف الإكليسيولوجيا الكاثوليكية من نشرة إلى أخرى: مما يسمى الإكليسيولوجيا “المنفتحة” في رسالة البابا “ليكونوا واحداً (Ut Unum Sint)”، إلى المقصورية الإكليسيولوجية في الرسالة “المسيح السيد (Dominus Jesus)”. ينبغي أن نشير إلى أن النظرتين المذكورتين (الإكليسيولوجيا المنفتحة والمقصورية الإكليسيولوجية) هما نقيضتا الإكليسيولوجيا الأرثوذكسية. إن الوعي الذاتي للكنيسة الأرثوذكسية المقدّسة بأنّها الكنيسة الواحدة الجامعة الرسولية الوحيدة لا يسمح بالاعتراف بكنائس وطوائف أخرى غير أرثوذكسية على أنها “كنائس شقيقة”. “الكنائس الشقيقة” هي الكنائس الأرثوذكسية المحلية التي تشترك بالإيمان الواحد نفسه دون سواها. لاهوتياً، ليس مسموحاً استعمال صفة “الكنائس الشقيقة” للإشارة إلاّ إلى الكنائس الأرثوذكسية.
يُقدّم الجانب الكاثوليكي عقيدته في انبثاق الروح القدس من الآب والابن على أنّها صياغة بديلة للتعبير، وعلى أنها صياغة مقبولة ومساوية لاهوتياً للتعليم الأرثوذكسي عن انبثاق الروح القدس “من الآب وحده”. والمؤسف أن عدداً من لاهوتيينا يدعمون هذه النظرة.
إلى هذا، يتمسّك البابا بأوليته على أنها امتياز غير قابل للتحويل، على ما يظهر من تخلي البابا بندكتوس السادس عشر مؤخراً عن لقب “بطريرك الغرب”؛ كما ويظهر من إشارته إلى الرسالة العالمية النطاق التي للرسول بطرس وخلفائه في الكلمة التي ألقاها في كنيسة البطريركية، وأيضاً من كلمته الأخيرة التي جاء فيها: “… في المجتمع، مع خلفاء الرسل، الذين يضمن وحدتهم المنظورة خليفة الرسول بطرس، تدبّرت الجماعة الكاثوليكية الأوكرانية أن تحفظ التقليد المقدّس حيّاً، بكماله” (Catholic Newspaper, No.3046/18-4-2006).
الاتحاديّة تتعزّز ويُعاد توكيدها بطرق شتى متعددة، بالرغم من الادّعاءات البابوية بالعكس. نشهد هذا الموقف المضلل، بمعزل عن المواقف الأخرى، في التدخل الاستفزازي الذي قام به البابا السابق، يوحنا بولس الثاني، مما جعل الحوار الأرثوذكسي – الكاثوليكي في بالتيمور كارثياً، وأيضاً في الرسالة التي وجهها البابا الحالي إلى الكاردينال ليوبومير هوسار، رئيس أساقفة اتحاديي أوكرانيا. ففي رسالته بتاريخ 22 شباط 2006، يضع بشكل لافت للنظر التأكيد على التالي: “من المُلِحّ تأمين حضور الحامليَن العظيمين (اللاتين والشرقيين) للتقليد الواحد… إن الرسالة التي أخذتها على عاتقها كنيسة الروم الكاثوليك، كونها في شركة كاملة مع خليفة الرسول بطرس، ذات وجهين: من جهة، عليها أن تصون بشكل منظور التقليد الشرقي داخل الكنيسة الكاثوليكية؛ ومن جهة أخرى، عليها أن تدعم دمج التقليدين، شاهدة على أنّ بمقدورهما ليس مجرد التناسق، بل أيضاً إنشاء وحدة عميقة وسط تنوعهما”.
على ضوء هذا، إن التبادل المهذّب، كزيارة البابا إلى الفنار وزيارة رئيس أساقفة أثينا إلى الفاتيكان، من دون استيفاء وحدة الإيمان كمتطلب أساسي، قد يخلق، من جهة، انطباعات مغلوطة عن وحدة ما، وبالتالي يبعد غير الأرثوذكسيين الذين قد يكونوا رأوا الكنيسة الحقيقية في الأرثوذكسية، ومن جهة أخرى يثلم التحسس العقائدي عند الكثير من الأرثوذكسيين. وأكثر من هذا، قد تدفع هذه الزيارات بعضاً من الأرثوذكسيين الأتقياء، القلقين جداً من الانتهاكات الأخيرة للقوانين المقدسة، إلى أن ينفصلوا عن جسم الكنيسة ويخلقوا انشقاقات جديدة.
وهكذا، بمحبة لأرثوذكسيتنا، وبألم لما يتّصل بوحدة الكنيسة، وكوننا مصممين على صون الإيمان الأرثوذكسي حراً من كل ابتداع، نكرر ما كان أعلنه التجمع الاستثنائي المزدوج لأديار الجبل المقدس في 922 نيسان 1980:
“نحن نؤمن أن كنيستنا الأرثوذكسية المقدسة هي كنيسة المسيح الواحدة المقدسة الرسولية التي تملك ملء النعمة والحق، ولهذا السبب هي تسلسل رسولي غير منقطع. بالمقابل، “كنائس” و”طوائف” الغرب، كونها قد حرّفَت إيمان الإنجيل والرسل والآباء في عدة نقاط، فهي محرومة من النعمة المقدسة ومن الأسرار الحقيقية ومن التسلسل الرسولي….
ليست الحوارات مع غير الأرثوذكس مُدانة إذا كانت تهدف إلى تعليمهم عن الإيمان الأرثوذكسي حتى متى صاروا متقبلين للاستنارة الإلهية وانفتحت أعينهم، يعودون إلى الإيمان الأرثوذكسي…
لا ينبغي أبداً أن تترافق مع الحوار اللاهوتي صلوات مشتركة، أو مشاركة باجتماعات ليتورجية أو عبادة لأي من الطرفين، أو كل النشاطات الأخرى التي قد تعطي انطباعاً بأن كنيستنا الأرثوذكسية تعترف بالكاثوليك ككنيسة كاملة وبأن البابا هو أسقف روما القانوني. إن هذه الأعمال تضلّل المؤمنين من الأرثوذكس كما من الكاثوليك، إذ تقدم لهم صورة مغلوطة عمّا تفكّر الأرثوذكسية…
بنعمة الله، يبقى الجبل المقدس، شأن كل شعب الله الأرثوذكسي، مخلِصاً لإيمان الرسل القديسين والآباء الأبرار. وأيضاً بنعمة الله، هذا البيان هو بدافع من المحبة لغير الأرثوذكسيين إذ إنّهم يستفيدون بشكل جوهري عندما يشير الأرثوذكسيون، بموقف مستقيم الرأي راسخ، إلى مدى اعتلال غير الأرثوذكسيين الروحي وطريقة شفائهم…
إن محاولات الوحدة التي فشلت في الماضي تعلّمنا أنّه، من أجل وحدة دائمة، وبمشيئة الله، وضمن حدود الحق الكنسي، المتطلب الأساسي هو نوع من التحضير والسلوك، مختلف عن ذاك الذي كان متّبَعاً في الماضي والذي يبدو أنّه ما زال متّبعاً اليوم”.
ممثلو ورؤساء مجالس الأديار العشرين المقدسة في الجبل المقدس أثوس.
كارياس، الثلاثين من كانون الأول 2006.