الرسالة إلى كريسبينيانوس
القديس بوليناس أسقف نولا
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
كان القديس بوليناس أسقف نولا (354-431) محامياً لامعاً شغل عدداً من المراكز في الدولة الرومانية. بعد وفاة ابنهما، بوليناس وزوجته ثيرازايا، تركا كل ممتلكاتهما وغناهما وكرّسا حياتهما للفقراء. اختير بوليناس أسقفاً على نولا بطلب من الشعب. من أقرب أصدقائه أوغسطينوس أسقف هيبوليتوس. من بين كتاباته رسالة إلى جندي روماني يُدعى كريسبينيانوس وقد كان مسيحياً. في هذه الرسالة يحضّه على ترك الجيش وتكريس حياته لله.
1. مع أنّك لا تعرفني شخصياً، إلا إني أعرفك بالروح. فيكتور، ابني المحبوب بالرب، أكّد لي أني أعرفك، بالرغم من المسافة التي تفصل بيننا، بإخباري عن كثرة شكوكك. لذا بدأت بمحبتك كرفيق سلاح مقبِل في المسيح، لأن فيكتور سرد لي كيف كان ارتبط بك ورافقك في عبثية الحياة العسكرية الدنيوية التي ما زلت منشغلاً بها. هذا أقنعني بأن أكتب لك بحرية من خلاله، لأني آمل أنك سوف تأتي إلى السبيل الصحيح عن نفس الطريق التي سلكها هو، إذ بهذا الطريق أنتَ أرسلت لنا أحد رفقائك قدامك والكنيسة تحتفظ به كعربون لك راجية أن تكسبك من بعده. ما من شيء يا بُنَيّ ينبغي تفضيله على السيّد الحقيقي، الآب الحقيقي والقائد الأبدي. فهو الذي يستحقّ أن نكرّس حياتنا التي منه أخذناها، ومن أجله ينبغي أن نحتفظ عليها إلى النهاية لأننا نحيا بلطفه. إذا كنا جنوداً له في هذا العالم نستحق عندها أن ننتقل إليه. لكن إن أحببنا هذا العالم أكثر منه، وفضلّنا أن نكون جنوداً لقيصر على التجنّد للمسيح، فلن نُنقَل من بعد إلى المسيح بل إلى الجحيم، حيث ينزل أمراء هذا العالم.
2. إذاً، علينا ألاّ نقدّم ولاءنا لوطننا وامتيازاتنا وثرواتنا على الله، فالكتاب يقول: “هذا العالم يزول”. والذين يحبون هذا العالم سوف يُبادون معه. لهذا السب يقول السيد نفسه هذه الكلمات شهادةً في الإنجيل: “مَن أحبّ أباً أو أمّاً أكثر مني فلا يستحقني. ومَن لا يحمل صليبه ويتبعني لا يكون تلميذي”.
أما عن ثروات هذا العالم التي يتمسّك بها البعض ويحبّونها على أنّها أكثر الخيرات سمواً وضرورة، فيقول: ” كُنُوزُ الشَّرِّ لاَ تَنْفَعُ، أَمَّا الْبِرُّ فَيُنَجِّي مِنَ الْمَوْتِ. 3اَلرَّبُّ” (أمثال 2:10). وأيضاً يقول على لسان النبي: “كل المستعلين بالذهب والفضة بادوا”. ويصرخ في الإنجيل أيضاً مديناً أغنياء هذا العالم: “وَلكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الأَغْنِيَاءُ، لأَنَّكُمْ قَدْ نِلْتُمْ عَزَاءَكُمْ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الشَّبَاعَى، لأَنَّكُمْ سَتَجُوعُونَ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الضَّاحِكُونَ الآنَ، لأَنَّكُمْ سَتَحْزَنُونَ وَتَبْكُونَ.” (لوقا 24:6-25).
3. لهذا لا تتعلّق من بعد بهذا العالم ولا بخدمته العسكرية، لأن سلطة الكتاب تشهد بأن “مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِلْعَالَمِ، فَقَدْ صَارَ عَدُوًّا ِللهِ” (يعقوب 4:4). مَن يتجنّد للسيف يكون خادماً للموت وعندما يسيل دمه أو دم غيره يستحقّ جائزة خدمته. لذا يُنظَر إليه كمذنب بالموت، لموته أو لخطيئته، لأن الجندي في الحرب، إذ يحارب لا من أجل ذاته بل من أجل آخرين، إما ينغلب ويُقتَل، أو يغلب كاسباً ذريعة للموت، إذ لا يمكن أن ينتصر من دون أن يريق دماً. لهذا يقول السيد: “لا يمكن أن تخدموا ربين”، الله والمال، المسيح وقيصر، حتى ولو كان قيصر نفسه متحمساً ليكون خادماً للمسيح، كما هي الحال اليوم، لكي يستحق المُلك على بعض الشعوب. إذ ما من ملك أرضي يحكم كل العالم، بل المسيح الإله لأن ” الرَّبَّ عَظِيمٌ، وَرَبَّنَا فَوْقَ جَمِيع ِالآلِهَةِ. 6كُلَّ مَا شَاءَ الرَّبُّ صَنَعَ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ، فِي الْبِحَارِ وَفِي كُلِّ اللُّجَجِ” (مزمور 5:135).
4. لنتبعنّه إذاً. لنكن جنوداً له. الجندي الذي يحمل درعه لا يُجرّد من سلاحه. فهو يبسط على الذين يقاتلون من أجله مجد الحياة الأبدية، وسام المملكة السماوية، ثروات ميراثه، وحصة في معرفة الله. لكن الكتاب يقول: “مَنْ يُحِبُّ الْفِضَّةَ لاَ يَشْبَعُ مِنَ الْفِضَّةِ، وَمَنْ يُحِبُّ الثَّرْوَةَ لاَ يَشْبَعُ مِنْ دَخْل” (جامعة 10:5). فالحكمة الإلهية تتكلّم على لسان سليمان في كتاب الجامعة: “كثيرون سقطوا من أجل الذهب، وجماله كان خرابهم. الذهب حجر ساقط وهو يوقِع كلّ الذين يجرون وراءه. لكن الحمقى وحدهم يهلكون به”. لذا اهرب منه يا بني كما من ظهور أفعى. ضع ثقتك في المسيح الذي يهيب بكل الناس في الإنجيل: “لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَان”.
مع هذا، قد تكون ثقة الشباب، أو تقليد عائلتك في الامتيازات، أو ثرواتك المتزايدة هي ما يدفعك إلى القول “ما زلتُ شاباً وعندي وأمامي متسع من الوقت لأنهي خدمتي العسكرية وأتزوّج وألِد ومن ثمّ أخدم الله”. لستُ أنا مَن يجيبك بل السيد على لسان أنبيائه ورسله. يقول النبي: “لا تتأخر عن التحوّل إلى الرب، ولا تؤجّل من يوم على يوم، حتى لا يأتي غضبه على حين غرّة”. والإنجيل يشير بأي لهفة يجب أن نطلب الاهتداء بقوله: “كَانَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ إِلَى يُوحَنَّا. وَمِنْ ذلِكَ الْوَقْتِ يُبَشَّرُ بِمَلَكُوتِ اللهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَغْتَصِبُ نَفْسَهُ إِلَيْهِ.”
إن هذا الاغتصاب مرحَّب به عند الله، لأنه لا يشوّش أحداً ويتحقق من دون أي أذى. مدّ يديك إلى الغنيمة التي بلا عيب والتي تجلب الخلاص. لماذا تضطر للاضطراب لما يوفّره أجر الجندي بما فيه من العنف الذي تشمئز منه، فيما أنت لطيف في جبايتك، حتى للضرائب العادية، بسبب استقامتك؟ أنت قادر على أن تكون متقّداً في إمساكك لملكوت السماوات بنعمة الله ومن دون أن تثير حقد أحد. يفرح المسيح بأن يكون مهاجَماً عند اتّجاه الأمور نحو العنف، لأنه بسبب فيض محبته وقدرته قادر على إعطاء ما يمسك به وعلى الإمساك بما يعطي. فهو، إذ يهب لقديسيه أن يسودوا في ملكوته، يسود بين الذين تبنّاهم رفاقاً له في ملكوته الأرضي. يقول الكتاب بأن قديسي الله يشتركون في ملكوته وبأنهم هم أنفسهم هذا الملكوت. إذا كان الله صالحاً وأنت تحوّلتَ فستكتشف هذا بالقراءة وتفهمه بالإيمان.
… (يناقش بوليناس مصاعب الحياة العائلية)…
8. اسمع إذاً، يا بنيّ وأعطِني أذُنَك. حطّمْ كل الرباطات التي تشدّك وتربِكُك في هذا العالم. بدّل خدمتك الدنيوية العسكرية بشيء أفضل. باشر لأن تكون جندياً للملك الأبدي. أسمع بأنّك تساعد المدنيين وتحميهم في هذه الأثناء؛ أُصلّي لكي تكون معتمَداً (كونت) للمسيح. مجدداً، أنتَ في الخدمة العسكرية ميّال للصلاة لكي تتقدّم إلى رتبة الحامي، لكن إذا أثبتّ نفسك أمام الله فهو سوف يكون لك حامياً. أنظر إلى أي خدمة عسكرية أنا أدعوك، حيث يكون الله لك ما أنت ترجو أن تكونه للناس. إذا ما باشرت بالسير وراءه، تبدأ مسيرتك كمعتَمَد (كونت)، وتكون نهاية خدمتك المُلك لا على الأرض أو في الزمن، بل في الأبدية في الملكوت.