القديس غريغوريوس النـزينـزي (اللاهوتي)
إعداد الأب باسيليوس الدبس
– حياته:
تنتمي عائلة غريغوريوس إلى العائـلات الملاّكة الكبيرة والغنية وكانت تسـكن في بلدة تسـمّى “ARIANDOS – Ariandos” بالقرب من البلدة الصغيرة نزينـز .
والدته (نونـا[1]) كانت مسيحية، أما والده غريغوريوس[2]، حاكم المدينة الأول ، فكان ينتمي في بدء حياته إلى فـرقة تسمى”YPSISTARION – Uyistarion”[3] وهذه الفرقة كانت تمزج العناصر اليهودية والوثنية، إلا أن الزوجة جذبت الزوج إلى المسيحية فاعتمد ولعله اخذ أيضاً اسم غريغوريوس في المعمودية وسقّف فيما بعد على نزينـز، وإلى غريغوريوس أنجب الزوجان الفاضلان بنتاً وصبياً وكلاهما قديس : غورغونيا (يعيّد لها في 23 شباط) و قيصر ( يعيّد له في 25 شباط).
هناك اختلاف في تحديد سنة ولادة غريغوريوس الإبن لكن العلماء يرجحون انه وُلد في الوقت الذي كان فيه أبوه اسقفاً ولذلك قد تكون ولادته عام 328م.
أحب غريغوريوس منذ صباه العلم وتلقى علومه الأولى على يد أقربائه المتعلمين ثم انتقل إلى قيصرية كبادوكية حيث تولى تنشئته كارتيريوس الناسك، الذي ترأس فيما بعد أديرة إنطاكية ، ومن ثم إلى قيصرية فلسطين وكان دائماً يدرس مع أخيه قيصر الذي اصبح طبيباً.
ثم ذهب إلى الإسكندرية وتعرّف إلى القديس اثناسيوس وانطونيوس ولعله سمع محاضرات ديدموس الأعمى وفي الإسكندرية ترك أخاه قيصر وانطلق إلى أثينا وفي البحر ثارت عاصفة هوجاء وهددت حياة الركاب فقرّر في ذاته أن ينفِّذ الوعد بأن يدخل في سلك الكهنوت مقدماً ذاته هبة لصانع الأرض والبحر.
ولما وصل إلى أثينا التقى من جديد بصاحبه باسيليوس ومع أنهما لم يتلقيا المعمودية في ذلك الوقت فإنهما انصرفا إلى الحياة الروحية والحياة العلمية وما عرفا إلا طريقَين ،واحدة تقود إلى الكنيسة وواحدة إلى الجامعة وهناك ألّفا أول رابطة طلابية مسيحية في العالم. يصف غريغوريوس علاقته بباسيليوس فيقول شعراً:
“فكل الأشياء مشتركة والنفس واحدة تنقصها (لا يفصلها إلا) بُعد الأجساد للإثنين”
“ta panta men di koina kai yhch mia duoin deousa swmatwn diasta_sin”
في أثينا تابع دراسة الخطابة والفيلولوجيا ،ولمهارته في هاتين المادتين أُختير ليكون أستاذاً فيما بعد في أثينا ، مما لم يسمح له بأن يغادر مع باسيليوس كما اتفقا وهما على مقاعد الدراسة. وقبل أن ينهي سنتين من التعليم أحسّ بالحنين إلى الوطن فترك عائداً إلى وطنه وهذا يعتبر الهروب الأول في سلسلة الهروب الذي مارسه.
وعند وصوله إلى نزينـز بدأ عمله هناك أيضاً كأستاذ للخطابة .ولكن ضجّة الحياة في هذه المدينة لم تناسب شخصيته المُحبَّة للهدوء والسكينة. ففضّل العيش بعيداً عن العالم وهذا كان هروبه الثاني.
فتنازعت في داخله أمور عديدة ، لكن الميل الأكبر كان للتوحّد أكثر من الخدمة في المجتمع أو في كنيسة العالم.
حاول كلٌ من غريغوريوس وباسيليوس أن يجذب الآخر إلى مملكته وأرضه، فوافق في بادئ الأمر باسيليوس على البقاء مع غريغوريوس لكن في النهاية جذب باسيليوس صديقه إلى ممتلكه الخاص قرب نهر ايريس في البنط، وهناك درسا اللاهوت معاً على أساس مؤلفات أوريجنس فوضعا الفيلوكاليا والقوانين الرهبانية، لكنهما اختلفا في نقاط معينة، فباسيليوس كان مؤيداً للعمل “Praxis” وغريغوريوس للنظر “Qewria” .فترك غريغوريوس البنط عائداً إلى وطنه.
عند عودته وجد أن أباه وبسبب شيخوخته ، واهتدائه المتأخر إلى المسيحية، وقّع دستوراً نصف آريوسياً عن جهل ، فقرر الإبن أن يساعد أبيه ، فأقنعه أن يوقّع دستوراً آخر أرثوذكسياً.
الأب لم يرضى بعد هذا الحدث أن يكون أبنه مجرّد مساعد بل أراده كاهناً لله العليّ فرسمه في أواخر سنة 361م[4]. لكنه أيضاً هرب ولجأ إلى رفيق الدرب وهناك دوَّن كتابه الشهير “في الهرب”. وبقي عنده بضعة أشهر (لعيد الفصح)، بعدها أقنعه باسيليوس بالعودة، فعاد لتقع مسؤولية العمل في نزينـز عليه.
بقي هناك عشر سنوات استطاع أن يعيد أبناء الرعية الذين تركوا الكنيسة بسبب توقيع أبيه الدستور الآريوسي.وعندما أبعد الإمبراطور يوليان المسيحيين عن التعليم المسيحي وفرض التعليم الوثني في المدارس، حينها وضع غريغوريوس عدّة مؤلفات وكتب الشعر لينشر التعليم المستقيم الرأي.
بعد موت افسافيوس انتخب باسيليوس اسقفاً على قيصرية بمساعدة والد غريغوريوس، فبدأت مرحلة جديدة في حياة غريغوريوس اللاهوتي عندما رسمه باسيليوس اسقفاً عن طريق الضغط سنة 372م. وهذه المرحلة كانت صعبة في حياته لأن باسيليوس كان يعمل على أساس مخطط لمقاومة تقسيم كبادوكية لذلك اختار غريغوريوس اسقفاً على ساسيما “Sasima” وهذه المنطقة كانت تقع تحت دائرة السلطة[5].
عارض غريغوريوس الإنتخاب لأنه:
أولاً: لا يريد أن يكون أداة للصراع الناشب بين باسيليوس والإمبراطور لتقسيم المنطقة.
وثانياً: لأنه لا يحب لأن يقيم في منطقة صاخبة وثالثاً لأن المسؤولية الإدارية غريبة عن صفاته.
رغم كل معارضته رُسم أسقفا وأعلن في العظة عن قبوله لتسلّم المسؤولية رغم التعبير عن حزنه وأسفه لهذا الإنتخاب. زار ساسيما دون أن يبقى فيها وفشلت كل المحاولات لإقناعه بالعودة اليها. عندما رقد والده البالغ المئة من العمر(سنة 374م) ووالدته بعد بضعة أشهر من ذلك، أدار أبرشية أبيه، وعندما أدرك أنه سينصّب عليها اسقفاً ترك المكان إلى دير القديسة تقلا حيث بقي سنوات.
في عام 378م قتل الإمبراطور الآريوسي فالنس في معركة أدريانوبوليس فدُعي غريغوريوس إلى القسطنطينية لمقاومة الآريوسية[6] المستفحلة في البلاط والجيش.
في القسطنطينة كان المؤمنون المستقيمو الرأي يجتمعون في كنيسة صغيرة ، بسبب استفحال الآريوسية وسيطرتها على أغلب الكنائس، هناك بدأ غريغوريوس يلقي عظاته فتزايد عدد المؤمنين شيئاً فشيئاً[7].
وهناك ألقى غريغوريوس كلماته اللاهوتية الخمسة “في الثالوث” والتي لاقت استحساناً من الشعب لدرجة أنهم كانوا يصفقون له في الكنيسة عندما كان يلقيها والتي بسببها سُمِّيَ بـ”اللاهوتي”، وبما أن هذه الكنيسة أقامت الكلمة الإلهية دُعيت بـ “كنيسة القيامة – Anastasia”.
كل هذا لا يلغي أن صعوبات عديدة واجهت قديسنا الكبادوكي في القسطنطينية منها أن صديقه الفيلسوف مكسيموس الكلبي قد جاء إلى القسطنطينية واعتمد فرسمه غريغوريوس كاهناً لكن مكسيموس كان يعمل بالخفاء لأجل أن ينصّب نفسه بطريركا، وقد ساعده في ذلك تيموثاوس بطريرك الإسكندرية.
في عشية عيد الفصح، عام 379م، هجم جماعة من الآريوسيين على كنيسة “القيامة” ورجموها بالحجارة.
في عام 380م دخل الإمبراطور ثيودوسيوس الشرق فخلع الأسقف الآريوسي ديموفيلوس وأعلن الإيمان الأرثوذكسي في الإمبراطورية وسلّم غريغوريوس الكنيسة الرئيسة في القسطنطينة. وأراد الإمبراطور أن يجعل من غريغوريوس بطريركاً على المدينة لكن هذا الأخير رفض معتبراً نفسه غير مستحق لهذا المنصب. لكن في 27 تشرين الثاني من السنة نفسها أُدخل غريغوريوس إلى كنيسة الرسل القديسين كبطريرك القسطنطينية.
بعد عام واحد (أيار 381م) التأم المجمع المسكوني الثاني[9] وأعلن غريغوريوس بطريركاً للقسطنطينية وسُلِّم رئاسة المجمع المقدس الذي ضمَّ 150 من الآباء الشرقيين (الغرب لم يمثّل لكن وافق على مسكونية المجمع فيما بعد).
لاحظ غريغوريوس ردّة فعل أساقفة مكدونية والإسكندرية تجاه تنصيبه بطريركاً على القسطنطينية “الذي حدث دون الأخذ برأيهم” لأن موافقة آباء المجمع على تنصيبه حدثت قبل وصولهم، لذلك وقبل انسحابه من المجمع ألقى خطاباً مهماً يعتبر من أمهات الأدب الخطابي، دافع فيه عن وجوده في القسطنطينية كأسقف عليها، ومن ثم ترك رئاسة المجمع لخلفه في الأسقفية نيكتاريوس.
بعد تركه المجمع انتقل إلى قيصرية ومن هناك إلى نزينـز ليدير شؤون الكنيسة التي بلا راعي إلى أن انتخب إبن عمه إفلاليوس اسقفاً عليها سنة 383م.
بعدها عاد لينشد الهدوء والسكينة، فسكن في مكان قرب الدير الذي أنشأه في منطقة أرينـز وبعد ذلك انسحب إلى كهف جبلي مساكناً الوحوش والضواري.هناك الّف قسماً من شعره وكتاباته لمواجهة الهرطقات إلى حين رقاده سنة 390م. بعدما أوصى بكل ما يملك لفقراء كنيسة نـزينـز[10].
تعيّد له كنيستنا في 25 و30 (مع الأقمار الثلاثة) كانون الثاني. الكنيسة القبطية في 4 تشرين الأول وتنسب إليه القداس الغريغوري المستعمل لديها، والكنيسة الغربية تعيّد له في الثاني من كانون الثاني.
– مؤلفاته:
أمضى غريغوريوس حياته يتحدث ويكتب وكانت مصنفاته عميقة وقلبية، وكتاباته تميّزت بالسمو والقوة والحرارة والخيال الخصب، ومعرفته بالخطابة والبلاغة جعلته خطيباً من الدرجة الأولى من حيث الصور والأمثال والاستعارة، حتى أنه كذّب المثل الشائع في عصره والقائل : “إنه يستحيل على المرء أن يجد خطيباً أو غراباً أبيضاً في كبادوكية”.
.وبعد رقـاد القديس باسيليوس الكبير في 1/ك2/ 379م أصبح غريغوريوس الناطق الرسمي[11]، البارز، في آسيا الصغرى من أنصار مجمع نيقية ودُعي آنذاك بـ “معلّم المسكونة”.
يمكن تقسيم مؤلفاته إلى ثماني فئات:
1. تجاربه المثيرة (الدفاع عن إعتزاله في البنط ، حيث يصوّر ببراعة مثال الإكليركي. “من هنا نهل الذهبي الفم ليكتب عن الكهنوت”).
2. إدارة الكنيسة.
3. مقاومة الآريوسيين: -يصف الآريوسيين فيقول:
“طُعم محلّى للبسطاء يخفي شصّ التجديف
وجه جذّاب يتلفت يميناً ويساراً ليوقع بالعابرين!،
حذاء لائق لكل قدم!، بذور تبذر في كل ريح!،
كتابات اكتسبت قوتها من دناءتها وتحايلها ضدّ الحق،
كانوا حكماء في صنع الشرّ، ولكن في الصالح لم يكن لهم معرفة أو نصيب”[12]
4. كلمات أُلقيت في الأعياد: (في الفصح، الظهور الإلهي، العنصرة، أحد توما).
5. كلمات اجتماعية وخلقية.
6. مدائح.
7. تأبينية : (أخيه قيصر، أخته غريغوريا، أبيه غريغوريوس، باسيليوس الكبير).
8. الكلمات اللاهوتية.
في الكلمات اللاهوتية الخمس يقاوم اعتقادات القائلين بعدم التشابه بين الآب والإبن. في الأولى، يتحدث عن حدود التكلم باللاهوت بطريقة سليمة، فيشدد على الإيمان والطهارة وعجز الجدالة (dialctique). في الثانية، يشدد على أن في العالم نشاهد عظائم الله فقط. في الثالثة، والرابعة يحارب مخلوقية الإبن عند آريوس. وفي الكلمة الخيرة يؤكد أن الروح القدس سرمدي كالإبن والآب.
– رسائله:
كتب غريغوريوس رسائل عديدة وصلنا منها 245 رسالة أكثرها شخصية، وقد تبادل الرسائل ليعبّر في الدرجة الأولى عن أفكاره ومواقفه وليجيب أيضاً عن حاجات كنسية واجتماعية. هذه الرسائل صورة صادقة عن إنسان شريف لا يتردد في قول الحقيقة. تتحلى رسائله بالإيجاز والتماسك والجمال.
– شِعره:
تنسب إليه أكثر من 400 قصيدة، كتب الشعر ليعبّر عن إحساسه وخبرته وليقدم للشباب ومحبي العلم والقراءة وليظهر أن المسيحيين لا ينقصون بشيء عن الوثنيين، وليقاوم قرار يوليان ويواجه شعر أبوليناريوس وتعاليمه.
قصائده تعبّر عن نفس دقيقة تطلب الراحة في أحضان الله. قصائده كلاسيكية في لغتها أيّ أنه يستعمل لغة يونانية قديمة جداً (لغة هوميروس)[13]، وشعره مصدر مهم عن حياته.
كتب غريغوريوس اللاهوتي معظم أبياته في أرينـز في سنواته الأخيرة حفظ منها 18000 بيت ذات فحوى عقدي، أخلاقي، تاريخي.
– مسرحيته:
ترك لنا القديس مسرحية بعنوان “صبر المسيح” وهي اقدم مسرحية مسيحية وصلتنا. أشخاص المسرحية البارزون هم يسوع والعذراء مريم ويوسف ومريم المجدلية ونيقوديموس وبيلاطس البنطي.
– “في الهرب”:
يبدأ غريغوريوس كتابه في الهرب بقوله أن افضل مثال للراعي هي سيرة يسوع الناصري الذي بذل نفسـه من أجل الآخرين وهذا يتطلب جهاداً في الصلاة والإغتذاء من الكلمة الإلهية. ينكب الكاهن على الكتب المقدسة فتفيض منه ينبوع حياة فيشفي ويعزّي ويخلّص.
يقول: “أنا لم أتوار في برية البنط، سوى لأنني غير مؤهَّل لسيرة قداسة مثل هذه وخوفاً من أن أُعثر الرعية إن قبلت كرسي الرعاية وأنا بعد لم أسلّم نفسي كلياً للمسيح، تواريت لأُسلِّم ذاتي للذي أَحَبَني، ليقدسني هو بنعمته، يعلمني كيف أصمت في الكنيسة وأكلّم نفسي والله (1كو 28:14) إلى أن أُمنح موهبة النبوة. أُصمت فيَّ كل اهتمام دنيوي، أُغلق أبواب حواسي وشهواتي لأنمو في النعمة فأستحق أن أكون مرآة صافية تعكس وجه السيد للآخرين.
ثم أنني خشيت إن تقبّلت المسؤولية قبل أن أدع السيد نفسه يؤهلني لها، خشيت أن أسير في خطى البعض الذين يُقبلون إلى خدمة المذبح بلا استحقاق كأن هذه الخدمة باب للارتزاق، وكأنها سلطان عوض أن تكون مثالاً للفضيلة يجتذب الآخرين بالمحبة (1بط 2 : 5) … إن أقبل أحد إلى الكهنوت، عليه أولاً أن ينقَّى بالنار مثل المعدن الثمين (1كو12:3). حياة الفضيلة أمر شاق ولكن مَن أقدم على خدمة القدسات من دون أن يقدِّس ذاته فهو لا يجلب فقط دينونةً لذاته بل دينونةً للآخرين أيضاً.
كيف نطبب الآخرين من دون أن نشفى نحن أولاً؟ ثم ماذا نقدّم للآخرين إن لم نُعط من عند الآب أن نتقدّم بالفضيلة؟ لا يكفي أن نبتعد عن الشرّ، علينا أيضاً كما يوصي الكتاب أن نسعى لفعل الخير.
العمل الرعائي يشبه عمل الطبيب ولكن النفوس تقاوم شفاءها لأن المرض الروحي خفي على خلاف الأمراض الجسدية ولأن الكاهن يستهدف ليس فقط حفظ الصحة واستعادتها ولكنه يسعى ليؤلِّه كل من يأتي إلى المضيف الإلهي. ثم أن الكاهن الطبيب يعالج نماذج مختلفة من البشر، من هنا عليه أن يغيّر اسلوبه وفقاً للزمن والظروف. البعض يعالجون ببسط العقيدة لهم وآخرون بحاجة إلى مثال حيّ يتبعونه، البعض بحاجة إلى رأفة وآخرون بحاجة إلى صرامة، البعض بطيئون في الفهم وآخرون يلتهمون التعليم التهاماً، البعض يبنون بالمديح وآخرون بالتأنيب، البعض بحاجة إلى احتضان وآخرون ليسوا بحاجة إليه، للبعض نضع لهم حدوداً ولآخرين نترك ملء الحرية. كل حسب شخصيته وظروفه ومجتمعه.
الراعي هو أمام آلة موسيقية لها عدّة أوتار ، عليه أن يضبط الأوتار فتتناغم معاً وتتوافق في لحن شجيّ.
الكاهن لا يُصنع بيوم واحد لما يقولب الخزاف إناء الخزف ، الكاهن يكتسب مهارة في الرعاية بفضل الممارسة والخبرة.
لا يجوز للكاهن أن يكون جاهلاً ولكنه أيضاً لا يتعلّم بحشو المعلومات وبنظريات لاهوتية فقط، فالرجاء بالجاهل أكثر من المحشو علماً (مع كبرياء)، الكاهن معلّم وشارح للكلمة وعليه أن يكتسب مهارة التعليم أي أن يحرر الناس من أفكارهم المسبقة ، عليه أن يهدم ما في النفوس ومن ثم يبني النفس ليقودها إلى صورة المسيح . فشفتاه تذرّان بالمعرفة الإلهية لأن الرب يضيء سراجه وبه يقتحم جيوشاً وأعضاؤه تصبح أداة بيد الله…”[14].
تعليمه
– الإيمان والعرفان:
يوصف الآباء الكبادوكيون بأنهم أفلطونيو المذهب لكن إذا درسنا فكر غريغوريوس فإننا نكتشف في النهاية أنه ليس أفلاطونياً ولا أرسطياً ولا رواقياً، أخذ من الأفلاطونية “العقاب” كوسيلة تربوية، وأخذ مبدأ التطهير ووجود عالمين مادي وروحي واعتبار الإنسان بأنه “عالم صغير – Mikrokosmos” واستعمل ألفاظاً رواقية مثل الفضيلة والرذيلة والألم والإمساك وأخذ من أرسطو بأن الله هو المسبب الأخير للكون.
لا يواجه غريغوريوس العرفان وكأنه قائم بذاته إنما يواجهه مواجهة اختيارية لأن العرفان لا يمكن أن يكون خالياً من التناقض والأخطاء. هناك عناصر إيجابية في العرفان لكنها لا تكتمل إلاّ بالكشف أي بالإعلان الإلهي. المشكلة ليست مشكلة العرفان بحدّ ذاتها إنما مشكلة الاختيار الموفّق له، واستخدامه الاستخدام الصحيح.
بناءً عليه، لا يعتبر غريغوريوس أن الفلسفة ضرورية بشكل مطلق فأحياناً الإنسان البسيط يكون مغتبطاً في حياته أكثر من الفيلسوف.
المسيحي البسيط هو فيلسوف، لأن العرفان الذي بحسب العالم يقاوم صليب المسيح،ولذلك فالفلسفة الحقيقية هي الفلسفة بحسب المسيح. بالتعليم المسيحي لا يكتمل العرفان المسيحي فقط إنما تكتمل أيضا حكمة العهد القديم التي كانت تستند إلى الخوف، بالإعلان المسيحي تتجاوز الحكمة الخوف وترفعه إلى المحبّة، تجعلنا أصدقاء الله وابناءه بدل أن نكون عبيداً: “الحكمة التي بالمسيح يسوع أعظم من حكمة أهل هذا الدهر، حكمة المسيح نتشربها من خلال العيش في التقليد الشريف الذي يكشف لنا الحقيقة الأزلية المعلنة في الكتاب المقدس”.
المقياس الأخير ليس الإستدلال المنطقي إنما الوجود بحد ذاته، فالإنسان الذي يقوده المنطق فقط هو إنسان ارضي لأن العقل لا يحرر الإنسان ولا يقدّم له الحقيقة كاملة. الإيمان وحده يكمّل الإنسان ويجعله قادراً على رؤية الواقع الساقط. عندما يستنير العقل بقوة الإيمان يعي ما هو فوق العقل ويدرك جهله لذلك قال: “ليقِدْنا الإيمان أكثر من العقل”.
– معرفة الله: “معرفة الله ممكنة لكنها محصورة بأنقياء القلوب”
تتميز معرفة الله بشَكلَيْن : معرفة طبيعية ومعرفة فوق الطبيعية. مصادر الكشف الطبيعي هي الطبيعة والتاريخ ووعي الإنسان. والعرفان الذي يجيء من الكشف الطبيعي هو عرفان ناقص لأن الله البسيط واللامحدود يبقى غير مدرك، فعقل الإنسان يحاول أن يدرك الله بالجمال وبالتنظيم الذي يراه في الخليقة. لذلك تتعلّق معرفة الله الطبيعية بخصائص عمل الله، أما العرفان فوق الطبيعي فهو أسمى لأن الإيمان يدعمه.
اللاهوت ليس منهجاً عقلياً ولا يمكن أن يُحدّ ضمن الجسم العقلي ولذلك على الإنسان أن يُعيد صياغة فكره وأحاسيسه من خلال علاقته بالله، ومع ذلك فهو لا يتكلّم باللاهوت في شؤونٍ تخصُّ جوهرَ الله إنما فيما يدور حول الله أي أعمال الله وقواه.
الله لا يدرك بالعقل فما هو مدرك فيه هو لامحدوديته، يمكن أن يقول الإنسان عن الله أنه غير مدرك، لا بدء له، لا مولود، أي أن يظهر ما هو ليس الله[15].
عمل اللاهوتي محدود بطبيعة بحثه وبقناعته بأن معرفته لا تكتمل، حتى بولس الرسول أكّد على عدم الإدراك الكامل لله، يقول غريغوريوس: “إيليا كما نعرف من التاريخ لم يرَ طبيعة الله بل ظلالها، وبولس الرسول إذا كان يستطيع أن يعبّر عما رأى وسمع في السماء الثالثة، وبالصعود حتى ذلك المكان يمكننا أن نعرف شيئا أكثر عن الله، فلماذا لم يخبرنا عما هنالك إذا كان يعرف شيئاً من غاية الاختطاف؟
ذلك لأن بولس نفسه لم يدرك شيئاً. بل ترك لنا أن نكرّم بصمت ما عاينه وذكره، أي انه سمع كلمات سرية لا ينطق بها … إننا كمن يحاول أن يغرف ماء البحر بالوعاء … بكلامي حاولتُ أن أُبرهن أن العقل لا يستطيع أن يدرك طبيعة الملائكة فكم بالأحرى طبيعة الله التي تفوق كل شيء؟ له المجد والإكرام إلى أبد الدهور آمين”[16].
تكلّم غريغوريوس كثيراً عن الثالوث وقال أن الله واحد في ثلاثة أقانيم وإن هذه الأقانيم تتميز عن بعضها، فالآب مساوٍ للإبن دون أن يعني ذلك أن الابن هو الآب. الآب هو علّة الوجود، علة وجود الإبن وهو علّة انبثاق الروح القدس، وإن ما للآب هو للإبن والروح القدس : “لنا ربٌ واحدٌ الآب، الذي منه كل شيء، وربّ واحدٌ يسوع المسيح الذي به كل شيء، وروح قدوس واحد فيه كل شيء”[17].
ويشهد غريغوريوس كما باسيليوس وأثناسيوس (والدمشقي فيما بعد)، أن النشيد المثلث التقديس لا يقال في الإبن فقط بل في الثالوث الأقدس، فإن السارافيم القديسين في تقديسهم يظهرون لنا الأقانيم الثلاثة للاهوت الفائق الجوهر وعليه يقول غريغوريوس: “… وهكذا إذاً، فإن أقداس الأقداس التي هي محجوبة عن السارافيم أيضاً وتتلقى التمجيد بتقديسات مثلّثة تجتمع في سيادة واحدة ولاهوت واحد”[18].
القدرة الإدراكية للعقل محدودة والكائنات التي تقع تحت تأثير الحسّ لا تستطيع أن تدخل إلى أعماق العقليات ، يقول غريغوريوس: “قل لي ما هي عدم الولادة وأنا سأعلّمك عن ولادة الإبن وانبثاق الروح القدس، الإنسان تتكاثر أسئلته مع كثرة معرفته، وهو يشبه من استنار لحظة واحدة ولكنه بقي في الظلام”. إلى جانب محدودية العقل وعدم قدرته على الدخول إلى سرّ الله، هناك الجسد الإنساني الذي يعيق القوّة النسبية الموجودة في العقل. فالجسد بعد السقوط صار أكثر كثافة والعقل نفسه صار كثيفاً ومادياً لكن هذه المحدودية في الجسد ليست عقاباً لإنسان بل تربية له.
– الخليقة والخالق:
يقسم غريغوريوس الخليقة إلى ثلاثة أقسام، فيقول أولاً، أقرب إلى الله الطبائع العقلية وأبعد منه الطبائع الحسّية، وابعد شيء هو الوجود الذي لا نفس لهولا حسّ، وأما أول الخلائق بالنسبة له فكانت الملائكة الذين وُجدوا قبل الخليقة كلها “لأن الله فكّر بالقوات الملائكية والسماوية فكان تفكيره عملاً”[19].
الإنسان مخلوق على صورة الله، ولا يقول رأي أوريجنس بان النفوس مخلوقة قبل الأجساد وإنما هو يؤمن أن النفس تأتي إلى الإنسان عند الحبل به، وإن هذه النفس لا تموت لحظة الموت وإنما ترتفع وتعود إلى خالقها. بسبب السقوط صار الإنسان يموت .الخطيئة أدخلت الموت، والموت بدأ يجعل الخطيئة عذبة وحلوة.
كل شيء في الكون يتغير من ساعة إلى أخرى، وكل شيء يجري ويفنى، فالحياة والموت اللذان يعتبران فكرتان متناقضتان هما يتواجدان ويتبادلان الدور. فالحياة تبدأ بالفساد والإنسان ينتقل من فساد إلى فساد حتى تنقضي حياته الأرضية، فالفساد هو انتصار الزمان لأن الحياة تمر عبر الولادة في اتجاه معيّن لا يمكن إعادته.
لكن الموت في حدّ ذاته يحمل عناصر إيجابية لأن الموت الحقيقي ليس انفصال النفس عن الجسد وإنما هو دمار النفس والمشكلة الأساسية عند الإنسان هو مشكلة التمييز بين الواقع والظاهر أي انه يخاف مما هو ليس مخيفاً.
المؤمنون في مسيرتهم نحو السيد الصالح يمكن أن يتحرروا من سيطرة الزمن الدائري لأنهم يتجهون نحو واقع ثابت متحرر من كل تشوّش أي نحو تجاوز العالم الحاضر. هذا لا يعني أن غريغوريوس يقلل من أهمية العالم وقيمته فالعالم الحاضر ليس عائقاً يحول دون اقتناء ما هو قائم وثابت، فما يجري ويتبدّل يمكن أن يكون وسيلة لاكتساب الحياة الجديدة.
أما المأساة الحقيقية فهي أن يصبح الإنسان محصوراً ضمن دائرة الولادة والموت، أي انه يصبح حلماً غير موجود في الواقع. لذلك يقول غريغوريوس على الإنسان أن يترك الأحلام والظلال وينعم بالحياة على أكمل وجه.
الفرق بين الإنسان والملائكة هو أن الكائنات اللاجسدانية لا تخضع للزمن الذي يحدّ الإنسان، فالزمن غير موجود بالنسبة للكائنات الروحية، لأن في الزمن يتحوّل الحاضر إلى ماضٍ ميْت.
– أسباب التربية:
إن المنطلق الأساسي للاهوت التنـزيهي هو ردّ على المسعى الهرطوقي الذي يهدف إلى تغيير الكشف المسيحي إلى تعليم فلسفي. فمعظم الهراطقة كآريوس، افنوميوس، صابيليوس، حاولوا أن يدرسوا الإعلان الإلهي ويبرهنوا بمقولات عقلانية البحتة، لكن هذا التطوير العقلي للأمور يُنزل الإعلان إلى المستوى الإنساني، فوجود الظلام الإلهي ضروري وليس له صفة سلبية فالظلام القائم بين الله والإنسان هو مثل الغمام الذي دخل فيه موسى وهذا الظلام يحميه من نار الالوهة مثلما يحمي الظلّ الإنسانَ من نار الشمس.
الإنسان مدعو للدخول في هذا الغمام الإلهي لكن هذا الأمر يتطلّب استعداداً خاصاً.
– في المعمودية:
إن خدمة تقديس المياه وصلوات طرد الشياطين (الإستقسامات)، لاغنى عنها في حياة الكنيسة فهي إلى جانب فعاليتها كصلاة تحوي أيضاً تعاليم أساسية تساعد المقبل إلى المعمودية (الموعوظ) على فهم بعض الحقائق اللاهوتية الضرورية وتعكس رغبة وصبر هذا الأخير يقول غريغوريوس ” لا تحتقروا دواء طرد الشياطين ولا تتعبوا من طول الصلوات لأن كل هذه هي إمتحان لصدق النفوس وإخلاصها وطلبها المعمودية باشتياق”[20].
لكن هذه الخدم والأسرار الكنسية لا تكشف إلا في حينها ولمن هو أهل لسماعها، يقول واعظاً للشعب: “لقد سمعت كثيراً عن السر حسبما هو مسموح لنا أن نتحدّث علناً وأمام الكل أما باقي الحديث فسوف تسمعونه في السرّ لكي يبقى هذا الكلام خاصاً بكم”[21]. وفي أيامه، ومع أنه وصديق العمر باسيليوس الكبير تأخرا في نيل سرّ المعمودية، كما شاع بعصرهم، إلا أن غريغوريوس يرفض أن تتأجّل مهما كانت الأسباب، يقول في ذلك:
“المسيح هو الله لذلك لم يكن محتاجاً للمعمودية ولكنه إعتمد لأجلنا نحن البشر، وحتى إذا أجّل معموديته لم يكن هذا خطراً عليه. كان للمسيح أسباب جعلته يعتمد في سنّ الثلاثين وليس أي من هذه الأسباب تخص البشر. وقد فعل الرب أموراً كثيرة لا يمكن لأيّ منا أن يقلّدها أو يتخذها مقياساً فليس كلما فعله الرب يمكن تقليده [22] ..البعض يقول إنه سوف ينتظر عيد الظهور الإلهي، أي اليوم الذي إعتمد فيه المسيح وظهر للعالم، والآخر يقول أنه يهتم بالفصح أكثر من غيره من الأعياد والثالث إنه سوف ينتظر العنصرة[23]. لا يجب أن يؤخر أحد المعمودية طالما هو مستعد لها لئلا يفاجئهم الموت في يوم لم يستعدّوا له وفي ساعة لا يعرفونها.المعمودية تسمى عطية لأنها أعطيت لنا دون أن ندفع فيها ثمناً، وتدعى ختماً لأنها ختم يؤكد ملكيتنا والسلطان الذي يملكنا ولأنها عربون الحياة الأبدية[24]. ولأننا من طبيعتين أعني الجسد والنفس، الأول منظور والثاني غير منظور لذلك التطهير، ليطال الكل، هو أيضاً مركّب من الماء والروح، التطهير المنظور من الماء للجسد والثاني المصاحب له غير منظور ولا يخص الجسد، الأول ظاهر والثاني حقيقي ويطهر الأعماق[25]“.