مكافأتي
القديس يوحنّا الذهبي الفم
تعريب الأخت ماريّا قبارة
من المفترض أنّ القدّيسين أنهم لا يخدمون اللّه من أجل مكافأة أرضية، فالعديد من الذين عاشوا حياة فسق، يُلامون ويُدعون للقيام بأعمال الفضيلة، ويُنصحون بوصايا القدّيسين من أجل سعادتهم. فعندما كان أيوب محاطاً بثروة كبيرة ويتمتع بثراء وفير، كان بالوقت نفسه رجلاً كاملاً مستقيماً يتقي الرب[1]. وقد وبَّخ اللّه الشيطان لأنه طعن بفضيلة هذا الرجل المستقيم الذي كان متمسكاً بإدعائه ومحاوراً اللّه[2]، ولكن ماذا فعل اللّه ليبرهن بأنّ القدّيسين لا يخدمونه من أجل المكافأة، وإنما هم تواقين لرؤيته؟ سلبَ أيوب ما كان يتمتع به من ثروة، وجعله يعاني من فقرٍ شديد، وسمحَ بوقوعه بكوارثَ متتالية[3]، ولكنّ أيوب بقي متمسكاً باستقامته. يكفي القدّيسين أن يخدموا اللّه، فللمحبّ مكافأة كافية وهي أن يُحبَّ مصدرَ حبِّه، وهو لا يُنشد شيئاً آخر ولا يعتبر أيّ أمر أعظم منها. فكما أنّ المقاتلين الأشداءّ المتدربين جيداً يكونون مستغرقين في لباس منقوع بالزيت وهم غير مرئيين للجماهير، ولكن عندما يطرحونها جانباً في ميدان القتال ويُصبحون عُراةً يسْلبُونَ دهشةَ المتفرجين لتناسِق أوصالهم، فلا يكون شيءٌ مخفي عن الجماهير. وهكذا كانت الحال مع أيوب الذي قال: “عرياناً خرجت من بطن أمي وعرياناً أعود إلى هناك، الرب أعطى والرب أخذ فليكن اسم الرب مباركاًُ”[4]، العديد من الناس لم يعرفوا أيّ نوع من الرجال كان أيوب وقت كان محاطاً بثروة، ولكن عندما تعرَّى منها أخذ دهشة كلّ من حوله، كالمصارع الذي رمى رداءه جانباً وأصبح عارياً في جهاده. فحشدُ الملائكةِ هتفَ لدى مشاهدة ثباته وجَلَدهِ، وصفقَ له عندما ربح إكليلَ المجدِ، وأُعجبَ لشجاعة روحه، ليس من أجل ثروته فقط التي سُلبت، ولكن لجهاده وصبره في احترام استقامته. أعطى اللّه الشيطان فرصة ليمسك قدّيسه من وسطه، ولكن بعد أن تغلّب قدّيسنا على الشيطان بعد ضرباتٍ متتالية ألقى عدوه أرضاً وحصلَ على إكليلِ المجدِ مظفراً.
إنّه ذهبٌ ممحص! امتحنْه كما تريد فلنْ تجد فيه أي شائبة، إن هذا لا يُظهر فقط استقامة الآخرين بل يجلبَ لهم تعزيةً كبيرة، كما قال السيد المسيح “طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين، افرحوا وابتهجوا فإن أجركم عظيم في السموات”[5]، ويقول بولس الرسول: أننا نعاني من شرور عديدة في هذه الحياة[6]، فحياتنا ليست مرتبطة بحدود هذه الدنيا وهذا ما يبدو واضحاً من خلال تجاربنا، لأنّ اللّه لا يمكن أن يعذب الذين تحمّلوا الشرور وقضوا حياتهم في التجارب والمخاطر التي لا تحدّ، بدون أن يعوضهم بعطايا عظيمة.
عندما ترى رجلاً تقيّاً معذباً حزيناً، وفي حالة مرضٍ وفقر ومصائبَ لا تحصى إلى نهاية حياته، قلْ لنفسك: إن لم يكن هناك قيامة ودينونة، فإن اللّه لن يسمح لشخص كهذا تحمّل الكثير من الشرور من أجل اسمه، أن يرحل بدون أن يحظى بشيء جيد. ومن هنا فإنّه من الواضح أنّه من أجل رجلٍ كهذا أُعدّت حياة ثانية أزلية أكثرَ حلاوة واحتمالاً. فالقدّيسون ليس هم الذين يتمتعون بالهدوء والسكينة، ولكن أيضاً الذين يتحمّلون المشاق والمحن من أجل اسم الرب[7]، ومن الممكن القول أنّ هذه المحن تجعل الذين يتعرضون لها أكثر استحساناً[i]، فالصبر والثبات في التجارب يجعلنا نمتلك رجاءً بالمستقبل.
إنّ هذه المحن ترسم لنا خطوطَ الأملِ للرجاء بالقيامة، وتجعل المجرّبون بحالٍ أفضل لأنّه “كما يُمحص الذهب بالنار كذلك الرجل المرضي لله يُمتحن بالهوان والذل”، ويقول الرسول بولس “أرى أنّ آلام الزمن الحاضر لا تعادل المجد الذي سيتجلّى فينا “[8]
فيا أيّها المحبوب إن رأيت رجلاً يسلك في سُبل الفضيلة متمسكاً بالحكمة الإلهية ومتضرعاً إلى اللّه، يعاني ويتألم من مِحن لا تحصى فإياك أن تتعثر!
-[1] انظر 1 أيو 9:8.
-[2] انظر أيو 1: 9- 11.
[3]- انظر أيو 1: 13.
[4]- أيو 21:1.
[5]- مت 11:5-12.
[6] – ا كور19:15.
[7] – انظر 1 كور 11:4-12.
[8]- رو 18:8.