الطريق الأقصر إلى قلب الله
إعداد راهبات دير القديس يعقوب الفارسي المقطّع – دده، الكورة
أن نفتح أعيننا على بؤس البشر فنحاول تخفيفه بدلا من أن نغسل منه أيدينا، أن نجد فرحنا في بلسمة ألمٍ، أن نشترك في عناء الغير،أن نحمل للحظة على كتفنا صليب الآخر، أن نمسح دمعة ما، أن نرسم ابتسامة على شفاه محزون، أن نساعد طفلا على الحياة، أن نؤاسي شيخا أضنته السنون، باسم الرب ومن أجل مجد اسمه.
هذا هو نبع الحقيقة والحياة والفرح. إنه أمر لا يخضع لبرهان أو تفسير بل هو شيء نحياه ولا يمكن معرفته إلا بأن نتحمل العبء ونعيشه.
القديس بطرس الرحيم
عاش بطرس في القرن السادس للميلاد، أيام الإمبراطور يوستينيانوس. كان قيّما على الجباية في بلاد إفريقيا، وكان غنياً جداً وقاسياً جداً لا يرحم. وقد اعتاد الشحاذّون أن يخبروا، كلما اجتمعوا، كيف أنه لم يسبق لأحد أن حصّل منه شيئاً. فقام واحد منهم، مرة، وشارطهم أنه بإمكانه حمل بطرس على إعطائه حسنة ولو كان بخيلاً. ثم ذهب يبحث عنه، فإذا به يلقاه عائداً إلى بيته ومعه على دابته خبز كثير. فتقدم الشحاذ وأخذ يسأله صدقة، فانتهره بطرس وشتمه. فأعاد الكرة وألّح إلى أن عيل صبر بطرس واشتعل غضباً. وإذ أراد أن يرميه بشيء ما ليصرفه عنه، قبض سهواً، على رغيف وقذفه به، فاخذ الشحاذ الرغيف فرحاً ولاذ بالفرار.
ثم، وبعد أيام قليلة، مرض بطرس واشتّد مرضه. فرأى، ذات ليلة، في الحلم أنه مات وسيق إلى مكان الدينونة. وهناك شاهد ميزان العدالة وأعماله مشهرة أمام عينيه. وكانت الشياطين واقفة قرب الكفة اليسرى والملائكة قرب الكفة اليمنى. أولئك يكدّسون شرور بطرس في كفتهم، فيما الملائكة واقفون حزانى إذ لم يجدوا حسنة واحدة يلقونها في كفّتهم. ولما طال انتظار الملائكة وأوشك الحكم أن يصدر، إذا بملاك يقول: “ليس لنا ما نضعه سوى هذا الرغيف الذي رمى به بطرس أحد الشحّاذين منذ يومين، ربما ينفع”. ثم أسرع فألقى بالرغيف اليتيم في الكفة اليمنى، فارتفعت اليسرى وتساوت الكفتان رغم ذنوب
بطرس الكثيرة.
فاستفاق بطرس مرتعداً منذهلاً يتصبب عرقاً وقال لنفسه: “لقد أراني الرب خطاياي التي اقترفتها منذ صباي. ولكن إذا كان رغيف واحد قد تساوى وذنوبي كلها، مع أني ألقيته للشحّاذ رغماً عني، فكم من الخير سأجني إذا ما أكثرت من أعمال الرحمة بإرادتي؟!”
ومنذ ذلك اليوم تحول بطرس إلى أكثر الناس رأفة بالمساكين. فوزّع خيراته كلها عليهم، ثم باع نفسه عبداً بثلاثين من الفضة وأعطاها للمعوزين، باسم يسوع، فصار يُعرف منذ ذلك الحين ببطرس الرحيم.
( نقلا عن السنسكسار)
“الإحسان ذبيحة نقدمها على مذبح قلوب الفقراء، علينا أن نحسن إلى المحتاجين ونحن ساجدون في قلوبنا لأننا نقدم ذبيحة ليسوع بواسطتهم”
( القديس يوحنا الذهبي الفم)
من أخبار القديس يوحنا الرحيم
(بطريرك الاسكندرية)
في إحدى الليالي ظهرت لي فتاة في الحلم، وكانت غاية في الجمال والطهر ومكللة بإكليل من أغصان الزيتون. (في اليونانية عبارة زيتون أو زيت تعني رحمة) فدنت مني ووخزتني في جنبي. فاستيقظت مرتعداً، وإذا بي أشاهد الفتاة عينها لا في حلم بل في اليقظة. فسألتها: “من أين أنت ومن أين جئت، وكيف تجرأت على الدنو مني وأنا نائم؟!”
فتطلعت إليّ بهدوء وبشاشة وقالت لي: “أنا أولى بنات الملك العظيم، إذا اتخذتني صديقة لك جعلتُك من أخصائه، إذ ليس لأحد دالة مثلي عنده، وأنا التي حملته على النزول من السماء إلى الأرض ليتخذ جسداً آدمياً “. وما إن انتهت من كلامها حتى اختفت عن الأنظار. وبعد تفكير طويل استنتجتُ أن هذه الفتاة إنما هي فضيلة الإحسان التي دفعت الله كي يأتي إلى الأرض متجسداً.
فقمت للحال منطلقاً إلى الكنيسة وقد بزغ الفجر. وفيما أنا ماضٍٍ التقيتُ بفقير يرتجف من شدّة البرد، فخلعت عني المعطف وأعطيته إياه وتابعت السير مفكراً وقائلاً: “سأتأكد إن كانت الرؤيا حقيقية أم هي خدعة من الشيطان”.
وقبل أن أصل إلى الكنيسة دنا مني رجل يرتدي لباساً أبيض، وسلّمني كيساً يحتوى على مئة ليرة ذهبية قائلاً: “خذ هذا الكيس يا صاحب “. ومع إني قبلته بفرح، ندمت بعدها حالاً وبادرت إلى ردّه إذ لست بجاجة إلى المال. أما صاحبه فقد اختفى. عندئذ أدركت أن الرؤيا لم تكن خيالية بل حقيقية برمّتها.
وهكذا كلما أحسنت إلى فقير، كنت أقول لفكري، سأرى إن كان المسيح سيرد لي مئة أضعاف ما أعطيه حسب وعده (متى 29:19). وبعد أن تأكدت فعلاً مئات المرات من هذه الحقيقة، قلت لنفسي: “كفى، إلى متى ستجرِّب من لا يُجرَّب؟ “
“تأمل من تعطي وارتجف، لقد كساك الرب برداء الخلاص أفلا تكسوه بواسطة قريبك”
( القديس يوحناالذهبي الفم )
إن أحد الأجانب المقيمين في الاسكندرية فكّر أن يمتحن صلاح القديس الذي لا يُمتحن. فارتدى ثياباً رثة وانتظره عند المستوصف حيث اعتاد البار أن يزوره مرتين أو ثلاثاً كل أسبوع. ولما أقبل القديس صرخ نحوه بصوت يثير الشفقة: “إرحمني يا سيّد أنا الشقي”. فأشار إلى خادمه ليعطيه ستة نقود. فأخذها وانطلق بسرعة إلى مكان آخر وغيّر زيّه وانتظر القديس ولدى اجتيازه من هناك أمر بإعطائه ثانية.
أما تلميذه فدنا منه وأسرّ إليه: “إنه هو الذي أعطيناه ستة نقود منذ قليل”. ولما ظهر لهما المرائي لثالث مرّة، حثه تلميذه قائلاً: “هو نفسه، هو نفسه”. فأجابه: “أعطه إثني عشر نقداً “. ثم نطق تلك العبارة المأثورة: “لعلَّ ربي نفسه يجربني.”
ومرة أخرى فيما كان القديس ذاهباً إلى الكنيسة، دنا منه رجل من الشرفاء قد نهب اللصوص بيته وجعلوه على الحضيض. فلما رآه القديس تحنن عليه وأمر أن يعطوه خمس عشرة ليرة ذهبية. أما المسؤول عن التوزيع فلم ينفذ الأمر بحرفيته بحجة قلة المال، لأن القديس لم يتعوّد تكديسه. فبدل الخمس عشرة أعطاه خمس ليرات فقط.
وفيما كان البار خارجاً من الكنيسة دنت منه امرأة أرملة من الأغنياء، وسلمتّه صكاً بخمسمئة ليرة ذهبية موقعاً بيدها. ولدى استلامه شعر في داخله، بفعل النعمة الساكنة فيه، أن ما أمر به لم ينفَّّذ بحرفيته. فدعى المسؤولين وسألهم إن كانوا قد أعطوا خمس عشرة ليرة لذلك الإنسان المنكوب.
فأجابوه، كذباً، بأنهم أعطوه خمس عشرة ليرة. فاستدعى القديس الرجل المعني وبعد أن سأله عرف أنه أخذ خمس ليرات فقط. عندئذ أراهم الصك الذي أعطته إياه المرأة وقال لهم: “سيطالبكم الرب بالألف الباقي. فلو أعطيتم الرجل خمس عشرة كما أوصيتكم، لقدّمت المرأة ألفاً وخمسمئة ليرة. ولكي تصدقوا كلامي ادعو المرأة التقية للحضور الى هنا “.
فحضرت المرأة ومعها الذهب المنذور. فسألها البطريرك: “قولي لي، هل هذه هي الكمية التي نذرتها لله منذ البداية؟” وإذ شعرت أن القديس قد اكتشف أمرها، اشتملها خوف شديد وعزمت على الإقرار بالسر قائلة: “أيها السيد، كنت قد كتبت على الصك الذي أعطيتك ألف وخمسمئة، وقبل أيام فتحته فوجدت الكتابة ممحوة، لا أعلم كيف، فاعتبرت أن الله لم يشأ أن أقدّم أكثر من خمسمئة، هذه هي الحقيقة كلها “.
ولدى سماعهم هذا اشتملهم الرعب، فخرّوا عند قدميْ القديس ملتمسين مغفرة عصيانهم. وأما المرأة المحبّة المسيح فزوّدها بالدعاء والبركة وأطلقها بسلام.
كان كثير من مسيحيّي كنيسة الإسكندرية يرغبون بشدّة أن يطبقوا تقاليد الرسل. فكانوا يبيعون ممتلكاتهم ويضعون ثمنها بين يدي القديس يوحنا الرحيم، طالبين منه أن يوزّعها على الفقراء.
ومن بين أولئك المسيحيين رجل قدّم إلى القديس يوحنا سبعة مثاقيل ونصفاً من الذهب مؤكداً له أنه لم يبقِ منها شيئا لنفسه، وطلب إليه أن يصلّي من أجل خلاص ابنه وتوفيق سفينته المسافرة إلى إفريقيا وعودتها بالسلامة.
وبعد مرور ثلاثين يوماً من زيارته للقدّيس توفيّ ابنه، ثم في اليوم الثالث من وفاته، وبينما كانت السفينة عائدة من رحلتها تعرّضت لزوبعة بحريّة هائلة قرب منارة الإسكندرية، وبالكاد استطاعت أن تنجو مع ركابها، أمّا البضاعة فقد غرقت كلّها في البحر.
لم يمض على وفاة الابن فترة قصيرة، والحزن مازال يعصر قلب الوالـد، حتى فاجأته أخبار السفينة وما لحقها من أضرار جسيمة، فغرقت نفسه في لجة الحزن والكآبة.
إن خبر الكارثة الفادحة لم يدع البطريرك أقلّ أسىً من ذاك. لذا راح يتضرع إلى الله لكي يلطّف حزن المنكوب ويهدئ نفسه من عاصفة الكآبة المحيقة بها ويمنحها السلام والهدوء.
وفي تلك الليلة بالذات ظهر للمحسن في الحلم رجل يشبه البطريرك بشكله وقال له: “لماذا كل هذا الحزن والكآبة؟ ألستَ أنتَ الذي طلبت مني أن أصلّي من أجل خلاص ابنك؟ فها هوذا قد خلص بنعمة الله ناجياً من شرور العالم. فإنه لو طالت حياته على الأرض لغدا إنساناً شريراً غير مستحق لمحبة خالقه ومبدعه.
أما بالنسبة للسفينة فلا تغتمّ البتة. لأنه لو لم يستجب الله لطلبتي لغرقت السفينة وركابها كلهم مع أخيك أيضاً. فلا تكتئب بل بالأحرى واجه الأحداث بصبر وشكر، عالماً أنه لا يحصل شيء بدون إرادة الله”.
فلما استيقظ الرجل شعر بتعزية كبيرة تغمر قلبه، وأسرع إلى القديس المغبوط، وخرّ عند قدميه شاكراً ومعترفاً له بالجميل ومخبراً إياه ما رأى في الحلم. فلما سمع البطريرك ذلك قال له: “أدِ الشكر لله لا لي، لأنه يدبّر كل الأشياء بما يوافق منفعة النفس وخلاصها “.
وقد اعتاد المغبوط يوحنا الإطّلاع على حياة الآباء القديسين الذين اشتهروا في عمل الإحسان راغباً في اقتفاء خطواتهم، ومن بينهم سيرة القديس سيرابيون السيدوني الذي صادف يوماً فقيراً عرياناً في السوق فوقف يحدّث نفسه قائلاً: “كيف وأنا الذي يُقال عني أني راهب صبور مجاهد، أكون لابساً ثوباً وهذا المسكين عريان، حقا إن هذا هو المسيح والبرد يؤلمه.” فخلع معطفه وأعطاه إياه. وبعد أن سار مسافة صادف فقيراً آخر فخلع عنه القميص وأعطاه إياه، ثم جلس متقوقعاً ماسكاً الإنجيل الذي بقي له.
فسأله أحدهم: “من الذي عرّاك يا أبانا؟ ” فأشار إلى الإنجيل وقال: “هذا قد عرّاني “. وبعد أن باع الإنجيل أيضاً ووزع ثمنه للفقراء سأله تلميذه:
– أين الإنجيل الصغير يا أبت؟
– ثق يا بني، لقد أطعت كلام السيد القائل: “بع كل ما لك ووزعه على الفقراء (متى 21:19) وفكرت بأنه ينبغي ألا أعفّ حتى عن الكتاب الذي دوّنت فيه هذه الوصية “.
“لقد جعلك الرب مجيداً في السموات أفلا تخلّص أخاك من الارتجاف والعري والخزي”
( القديس يوحنا الذهبي الفم )
شاهد أخ الأب نيسثروس مرتدياً معطفين فقال له:
– إذا أتاك فقير وطلب منك رداء أياً من الإثنين تعطيه؟
– الأحسن.
– وإذا أتاك آخر ماذا تعطيه؟
– أعطيه المعطف الآخر، وأنزوي في مكان ما إلى أن يفتقدني الله ويسترني.
“إذا أحسنت إلى فقير لا تطلب أن يساعك في عملك، كي لا تخسر أجر ما صنعته معه”.
إن الأعمال التي غايتها الإحسان كثيرة ومتنوعة، فمنهم من يفعل إحساناً من أجل سفينته فيسهّل الله أمر سفينته. وآخر من أجل أولاده فيحفظ الله أولاده. وآخر لكي يتمجد فيمجده الله.
إن الله لا يرفض طلبة أحد بل يمنح كل واحد ما يشاء إذا لم يكن في الأمر ضرر لنفسه. فهؤلاء جميعهم لن ينالوا أجرة فيما بعد لأن الله قد أعطى كلاّ منهم بحسب بغيته في فعل الإحسان، وهو بذلك ليس مديوناً لهم بشيء في الحياة الأخرى. أما أنت فإذا أردت أن تفعل إحساناً فافعله من أجل خلاص نفسك ومحبة بالله فقط،، والذي ترغبه سيعطيك الله إياه لأنه مكتوب” ليعطِِك الرب حسب قلبك” (مز5:19)
أخبر الأب دانيال كاهن الإسقيط قال: لما كنت شاباً ذهبت إلى طيبة لبيع أشغالي اليدوية، ونزلت في بيت منفرد يسكنه رجل يعمل في مقلع حجارة اسمه افلوجيوس (مبارك). هذا كان قد تمرس في مهنته منذ حداثتة ويعمل صائماً طوال النهار حتى المساء.
وبعد أن ينتهي من العمل، كان يخرج من بيته مفتشاً عن أناس عابري السبيل ويأتي بهم إلى البيت فيستضيفهم ويغسل أرجلهم بيديه.
وقد استضافني هذا الرجل مراراً مع أخوة كثيرين. فأذهلتني جداً
فضيلته، وأدهشني مزاجه المفعم بالعطف والتواضع والوداعة والإنسانية. هذا ما جعلني، بعد ما عدت إلى الاسقيط، أحبس نفسي في القلاية ثلاثة أسابيع صائماً ومبتهلاً إلى الله كي يزيده مالاً حتى يتمكن من عمل الخير لعدد أكبر من الناس.
فانهارت قواي من الصوم وانطرحت بين حي وميت. وفيما أنا على هذه الحال تملّكني النعاس، فشاهدت رجلاً جليلاً يقف أمامي قائلاً:
– ما بالك يادانيال؟
– لقد تعهدت للمسيح ألا أذوق خبزاً قبل أن يرزق إفلوجيوس قاطع الحجارة مالاً لكي يشمل خيره عدداً أوفر من الناس.
– كلا. إن هذا مضر لنفسه، وخير له أن يبقى كما هو الآن. وإذا شئت أن أزيده مالاً فتعهد أنت خلاص نفسه.
– أعطه يا سيدي وأنا أتكفل به حتى يمجّد الجميع اسمك القدوس.
– قلت لك خيراً له أن يبقى كما هو الآن.
– لا بل أعطه، وأنت ما عليك إلا أن تطالبني بنفسه.
وفجأة إذا بي داخل كنيسة القيامة أشاهد صبياً جالساً على القبر المقدس ومن عن يمينه إفلوجيوس. ولما رآني الصبي نظر إلى الحاضرين وقال لهم:
– أهذا هو كفيل إفلوجيوس؟
– نعم يا سيدي.
– إني مطالبك بالكفالة.
– نعم يا سيدي إني مستعدّ.
وفي الحال شاهدتهم يفرغون مالاً في حضن إفلوجيوس، وبمقدار ما كانوا يفرغون كان حضنه يزداد اتساعاً. وهنا استيقظت متيقناً أن طلبي قد استجيب فمجّدت الله.
وفي الصباح خرج إفلوجيوس للعمل. وفيما هو يضرب إحدى الصخور طن صوت صدى في مسمعيه إذ كان تحت الصخرة فراغ فاستمرّ في الضرب حتى كسرها. وإذا به أمام كومة من النقود الذهبية. فانذهل متحيراً من الأمر وبدأ يفكر ماذا سيفعل بهذا المال. فقال في نفسه: “إن أخذت المال إلى بيتي سيعلم به الوالي فيستحوذ عليه، وأتعرض أنا للخطر. فالأفضل أن أرحل من هنا وأذهب إلى حيث لا يعرفني أحد “.
وهكذا استأجر حيوانات وتظاهر بأنه ينقل عليها حجارة وانطلق قاصداً بيزنطية. وكان يملك عليها آنذاك يوستينوس الشيخ. وإذ بلغ إليها ذهب إلى الملك وقدم له ولكبار القصر ذهباً كثيراً. ولم تنقض فترة قصيرة حتى صار هو رئيساً للقصر الملكي، فاشترى بيتاً كبيراً لا يزال معروفاً حتى الآن ببيت المصري.
مضت سنتان دون أن أعرف شيئاً عن هذه الأحداث. إلى أن كان يوماً شاهدت نفسي، في الحلم، أنّي في كنيسة القيامة حيث كان الصبّي جالساً على القبر المقدس. فتذكرت إفلوجيوس وقلت في نفسي: أين هو يا ترى؟ وإذا بي أشاهد شيطاناً يجرّه إلى الخارج مقصياً إياه من أمام الصبي. فاستيقظت للحال. وإذ علمت مغزى الحلم صرخت: ويلي أنا الخاطئ لقد خسرت نفسي.
فقمت ماضياً إلى بيت إفلوجيوس راجياً ملاقاته. حل المساء وخيّم الظلام ولم أجد من يدعوني إلى الاستضافة. فبادرت إلى امرأة عجوز وطلبت منها شيئاً آكله، فأتتني بثلاث كعكات، ثم جلست قربي تحادثني بأقوال مفيدة قائلة:
– إنك شاب وينبغي ألاّ تدخل القرية، أوَلا تعلم أن السيرة الرهبانية تتطلب هدوءاً؟
– وماذا تنصحيني أن أعمل، فقد جئت إلى هنا لبيع أشغالي اليدوية؟”
– إنك وإن جئت لبيع أشغالك يجب ألا تتأخر، بل عد إلى الإسقيط بسرعة إذا كنت ترغب أن تصير راهباً كاملاً “.
– ألا يوجد إنسان يخاف الله في هذه القرية يستضيف الغرباء؟
– آه أيها الأب، لقد كان يقطن هنا حجّار يعمل حسنات كثيرة للغرباء. وإذ رأى الله فضله وهبه نعمة فصار، كما أسمع، من أشراف القسطنطينية اليوم.
ولما سمعت هذا الكلام، قلت في نفسي: “أنا الذي سببت الهلاك لهذا الرجل”. وللحال ركبت السفينة متوجهاً إلى بيزنطية. وبعد أن استهديت إلى مقرّ سكناه جلست عند بابه منتظراً عودته إلى بيته. وما إن شاهدته آتياً بمجد عظيم، حتى دنوت منه بوجل وقلت له: “عطفاً يا سيد، أريد مقابلتك ولو قليلاً”.
فلبثت أربعة أسابيع محاولاً ذلك، لكن محاولاتي باءت بالفشل، ولما عيل صبري بدأت أصرخ بصوت عال، فبادرني أحد خدامه وانهال عليّ ضرباً حتى أثخنني بالجراح. فقلت في نفسي: “هيا بنا يا دانيال نعود إلى الإسقيط”. وهكذا أقلع بنا المركب إلى الإسكندرية. ومن شدّة الألم والحزن غطست في نوم عميق.
وفي هذه الأثناء شاهدت نفسي مرة أخرى داخل كنيسة القيامة ورأيت الصبي جالساً كعادته على القبر المقدس يحدّق فيّ بنظرة تهديدية قائلاً لي: “لماذا لا تذهب لتوفي دينك؟” وإذ اشتملني الخوف لبثت مسمراً في مكاني غير قادر حتى على فتح فمي. فأمر اثنين من المحتفّين به أن يربطا يديّ إلى الوراء ويعلقاني رأساً على عقب. وبعد ما أتّما الأمر قالا لي: “لا تتكفلّ فوق ما تستطيع ولا تعارض إرادة الله”. أما أنا فلم أستطع من شدة الحزن والألم أن أجيب بكلمة.
وفيما أنا معلق بهذا الشكل سُمع صوت يقول: “السيدة آتية “. فتشجعت فور مشاهدتي إياها وصرخت: “ارحميني يا سيدة العالم “. فالتفتت إليّ وقالت لي: “ماذا تريد؟ ” فقلت: “أنا معلق بسبب كفالتي لإفلوجيوس “. فقالت: “سأتوسل من أجلك “. وإذ قالت هذا توجهت نحو الصبي وخرّت عند قدميه وقبلتهما. عندئذ كلمني الصبي قائلاً: “لا تفعل ثانية ما قد فعلته”. فأجبته برعدة: “كلا، سماحاً يا سيدي”. فأمر بحلّي وقال: “اذهب إلى قلايتك وسترى كيف سأعيد إفلوجيوس إلى ما كان عليه”.
فاستيقظت ممتلئاً فرحاً لانعتاقي من هذه الكفالة. ثم توجهت إلى الإسقيط وفمي يقطر شكراً لله.
وبعد ثلاثة أيام من وصولي إلى الإسقيط بلغني أن الملك يوستينوس توفي وملك مكانه يوستينيانوس. وبأن أربعة من الشرفاء، من بينهم إفلوجيوس، قاموا بثورة ضد الملك، فقبض على ثلاثة منهم وقطع لهم رؤوسهم. وأما الرابع، إفلوجيوس، ففر هارباً أثناء الليل. فأصدر الملك قراراً بقتله أينما وجد.
فبدأت عندئذ أسأل عنه، وبعد الفحص والتدقيق علمت أنه رجع إلى قريته ليزاول مهنته الأولى دون أن يفصح لأحد أنه هو الذي صار بطريقا في القسطنطينية، كما كان يؤكد لأهل القرية أنه في السنوات التي خلت كان في القدس.
وزيادة للتأكيد على ذلك ذهبت أنا إلى قريته، وإذا به آت لدعوة الغرباء إلى بيته. ولما شاهدته تنهدت بدموع وقلت لله: “ما أعظم أعمالك يا رب كلها بحكمة صنعت، حقاً إنك تُفقر وتُغني، تُذلل وترفع وأحكامك لا يُستقصى أثرها”.
فأخذني مع بقية الغرباء وأتى بنا إلى بيته، حيث أضافنا وغسل أرجلنا. وبعدما انتهينا من الأكل انفردت به وقلت له: “كيف حالك يا إفلوجيوس؟ ” فأجاب: “صلِّ من أجلي أيها الشيخ فإني ذليل فارغ اليدين”.
عندئذ بدأت أسرد له كل ما جرى. فقال لي باكياً: “صلِّ من أجلي كي يعطينا الله ما نحتاجه فقط وإني من الآن سأصلح نفسي”. فقلت له: “لا تطلب شيئاً من المسيح، ما دمت في هذه الحياة، سوى أجرة أتعابك اليومية”. ثم ودعته عائداً إلى الإسقيط.
ولبث إفلوجيوس يعمل في تقطيع الحجارة ويستضيف الغرباء حتى نهاية حياته. ورغم أنه بلغ المئة سنة لم يبرح مهنته. فقد منحه الله قوة ليعمل طيلة حياته على الأرض.
“من الأفضل لكم أن تكونوا صغاراً في عداد قطيع المسيح، على أن تكونوا في أسمى مراتب التقدير، ولكن مستبعدين من الأمل الذي لنا فيه”
( القديس كليمندس الرومي)
””’
على أي شيء تتوقف المحبة المسيحية
(للذهبي الفم)
المحبة لا تكون بالكلام فقط أو بالترحيب البسيط، بل بالمناصرة والمساعدة، كتخليص الآخرين من الفاقة وإمداد المرضى ورد الرزايا عن التعساء والبكاء مع الباكين والفرح مع الفرحين. وهذا هو دليل المحبة الحقة خلافاً للظن أن الفرح مع الفرحين أمر قليل الأهمية مع أنه عمل عظيم بحد ذاته يتطلبه القلب المدرب في الحكمة. فإن كثيرين يتممون أعمالاً صعبة جداً ولا يقدرون أن يفرحوا مع الفرحين. كثيرون يبكون مع الباكين ولكنهم لا يسرون لسرورهم بل يبكون من سوء النية والحسد. لذلك إن الفرح لسرور الآخرين خدمة لا تنكر، وهي أهم من البكاء من أجل الآخرين. فأي فضيلة أعظم من إعانة المحتاجين؟!
عن عظمة فضيلة الإحسان
( للذهبي الفم)
الحسنة فضل جسيم وهبة من الله تعالى. فبإعطائنا الصدقة نماثل الله تعالى. الصدقة هي العامل الأكبر الذي يجعل الإنسان إنساناً. لذا قال أحدهم في وصف الإنسان: العمل العظيم هو الإنسان، والشيء الثمين هو الإنسان المحسن، وهذه نعمة أعظم من إحياء الموتى.
إن إرواء الظمآن إلى المسيح، أعظم من إحياء الموتى باسمه. لأنك إن أتممت الأمر الأول تحسن إلى المسيح وإن أتممت الثاني يكن المسيح قد أحسن إليك. فالجائزة لمن يفعل الخير، لا لمن يتقبله من الآخرين.
بصنعك العجائب تكون مديناً لله، أما بفعلك الرحمة فيكون الله مديناً لك. وقد يتكمل عمل الرحمة عندما نعطيها بطيبة خاطر وسخاء غير متوقعين أجراً ولا شكراً. فبهذه نحصل على نعمة لأنفسنا لا خسارة. وبغير هذه الصورة لا تكون الحسنة نعمة، فعلى من يصنع الخير مع الآخرين أن يبتهج لا أن يحزن.
إن تخفيف أحزان غيرك لا ينطبق مع حزن نفسك! فإذا حزنت لا يكون عطاؤك حسنة وإذا حزنت لإنقاذك غيرك من الحزن يكون عملك هذا قاسياً جداً وعديم الإنسانية. فالأفضل لك ألا تعطي من أن يكون عطاؤك على هذه الصورة. لماذا تحزن؟ ألأن ذهبك قد نقص؟ إن كان تفكيرك هكذا فلا تعط.
لا يجب أن تفكر بهيئة الفقير الرديئة. لا تنظر إلى هيئة المتسول الرديئة، بل تصور أن المسيح داخل بواسطته إلى بيتك. امتنع عن قساوة القلب وعن الكلام البذيء الذي تلوم به طالبي إحسانك مسمياً إياهم منافقين كسالى وغير ذلك من الألقاب المهينة.
أعط كسرة الخبز بمحبة بشرية لا بقساوة القلب! أعط كمحسن لا كمهين! أطعمه لأنه شحاذ لا لأنه يفوه بكلام إبليس الذي يشين حياته. أطعمه لأن المسيح يتغذى بذلك! لا تنظر إلى ابتسام الشحاذ الظاهري بل افحص ضميره تجده يلعن نفسه كثيرا ويتنهد ويأسف لحالته، ولا يظهر حقيقته من أجلك فقط.
علمنا يا رب أن نتخلى عن محبة أنفسنا وأنانيتنا، ولا نكتفي بمحبة أهلنا والمحيطين بنا،
علمنا يا رب أن نفكر بالآخرين وأن نحب أولاً من حُرم من المحبة،
أعطنا أن نتألم مع المتألمين ونبكي مع الباكين، يا رب هبنا أن نتذكر على الدوام أنه في كل لحظة من لحظات حياتنا التي تحميها بعيانتك، يوجد ملايين من البشر الذين هم أخوتنا وأبناؤك يموتون جوعاً من دون ذنب اقترفوه. يموتون برداً ولم يستحقوا الموت برداً،
ارحم يا رب كل فقراء العالم، واغفر لنا أنانيتنا وجهلنا اللذين أبعدانا عنهم زماناً طويلاً،
اغرس يا رب حبك في كل قلب لكي يعرف معنى التعزية الحقيقية يا إلهنا الكلي الاقتدار أبا المراحم وإله كل تعزية.