كيف نتعلّم محبة الرب
عظة للقديس ثيوفانس الحبيس
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
في الأسبوع الماضي علمتنا حاملات الطيب المحبة، واليوم يعلّمنا القديس يوحنا اللاهوتي الموضوع نفسه. فهو قد أحبّ الرب أكثر من كل الآخرين وكان محبوباً منه. فلنطبع في ذهننا صورة المحبة هذه، ولنبدأ بتحويل أحاسيسنا وموقفنا من الله بحسبها. كيف بلغ القديس يوحنا اللاهوتي إلى هذه المحبة النبيلة للرب وصار مثالاً للمحبة عندنا جميعاً؟ أظن أنّه قام بذلك بالطريقة ذاتها التي يتّبعها الناس ليحبّ أحدهم الآخر. إنهم يرون جمال شخص ما أو طيبته فينشدّون إليه بكل قلبهم. على المنوال نفسه، رأى القديس يوحنا جمال الرب وصار مشدوداً إليه. لقد أحسّ بمحبة الرب الخاصة له، وتالياً اشتعل بالمحبة إليه. لقد رأى أعمال الرب العظيمة الرائعة والمثمرة فتحرّك بتقوى متّقدة وصار مكرّساً فيها وارتاح إليها. هكذا هي طريق الصعود بمحبة الرب. فلنتبعها حتى نكتسبها في النهاية.
أولاً: القديس يوحنا رأى حلاوة الرب وانشدّ إليها. على المنوال نفسه، تنشأ المحبة بين الناس. إنهم يرون جمال شخص ما، الجمال الروحي أو الجسدي، فتنشأ محبة بعضهم لبعض. إذا رفعنا فكرنا إلى معاينة جمال الرب، فبالتأكيد لن نبقى باردين لا مبالين به. جمال الرب هو مجموع كل كماله. يقول القديس تيخن الزادونسكي: “انظر وتمعنْ، ماذا ينقص الرب؟”. كل ما تشتهيه موجود في ملءٍ لا يُوصف ولا يُحَد. أتطلب البركة؟ فعنده البركة الأبدية الحقيقية. أتطلب الجمال؟ فهو بهي بالحسن أكثر من بني البشر (مزمور 3:44). أتسعى إلى النبل؟ فمَن هو أكثر نبلاً من ابن الله؟ أتسعى إلى الشرف؟ فمّن هو الأشرف أو الأرفع من ملك السماوات؟ أتسعى إلى الحكمة؟ إنه أقنوم حكمة الله. أتسعى إلى السعادة؟ إنه فرح الأرواح المباركة ومختاري الله وسعادتهم. أتحتاج التعزية؟ مَن يستطيع أن يعزيك أكثر من الرب يسوع؟ أتسعى إلى الراحة؟ هنا الراحة الأبدية للنفوس التي تحبه. أتريد الحياة؟ إنه نبع الحياة. أتخشى الضياع؟ إنه الطريق. أتخشى الخديعة؟ إنه الحق. أتخاف الموت؟ إنه الحياة كما يؤكّد بذاته: “أنا الطريق والحق والحياة”. باختصار، كل ما تحبه النفس البشرية، من الكمال والجمال والصلاح، موجود فيه. أرغِم فكرَك على إدراك هذا وسوف لن تستطيع ألاّ تحب الله. القديسة كاترينا الشهدة كانت وعدت بأن تحب مَن تجد عنده مقدار غناها وجمالها وحكمتها، متوقعةً أنها لن تجد هذا الشخص في كل العالم. رأت أن ما عندها ليس شيئاً بالمقارنة مع جماله وحكمته وغناه. فأعطته نفسها بالكلية متشبثة به ومقدمة نفسها إليه.
ثانياً: عندما أحس القديس يوحنا اللاهوتي بمحبة السيد له، اشتعل بمحبته. عندما تُختَبَر المحبة الصادقة غير الأنانية عند الآخر توحي دائماً بشعور مماثل. فلنختبر محبة الرب ونزكِّ محبتنا له. يسأل القديس تيخن: “ما الذي لم يفعله ابن الله لنا؟ ما الذي لم يوصله إلينا؟ ما الذي لم يحتمله ويتعذب منه من أجل الأنفس الفقيرة المحتاجة؟ ما هي الأعمال والعذابات التي لم يحتملها بنفسه لكي يجلبنا إلى أبيه السماوي، نحن الذين ابتعدنا عنه؟ لقد نزل من السماء لكي يرفعنا نحن المطرودين من الفردوس والملكوت. لقد وُلد بالجسد من أجلنا حتى يأتي بنا إلى عنده عبر إعادة الولادة الروحية. لقد واضع نفسه من أجلنا حتى يرفعنا. لقد أصبح فقيراً لكي يغنينا نحن البائسين. لقد تحمّل الإهانة والجراح لكي يشفينا ويؤلهنا. لقد مات عنا لكي يعطينا الحياة نحن الذين كنا أمواتاً. انظر إلى أي تنازل واتضاع حملته محبته الكاملة ورحمته العطوفة. ألم يختبر كل منا هذه الحركة من محبة الله؟ كم مرة ابتعدنا عن هذه المحبة بالخطيئة؟ وفي كل مرة نعود إلى الاتحاد به عبر رحمته بعبارة واحدة “أنا مذنب ولن أعيدها”. كم من المرات أغضبناه باستسلامنا لتجربة ملاذ هذا العالم. وعندما عدنا إليه مجدداً استقبلنا إلى مائدته لنشترك في جسده ونشرب دمه. أليس هذا حنان محبته الرحومة؟ المسيح بيننا في حياتنا اليومية. مَن منّا لم يختبر اهتمامه وقربه في إنقاذنا من المحن والمرض والحزن والأوقات الصعبة، وفي كل حاجاتنا الروحية والجسدية؟ أمن الممكن ألاّ نتجاوب مع هذه المحبة العظيمة ونتوجه إلى الذي يحبنا بلا كلل؟ أمن الممكن أن ننسى محبة الرب لنا بسبب الانشغال وعدم الانتباه؟ متى عرفنا محبته وتذكرناها، من المستحل ألاّ نختبر شعوراً من المحبة للرب مهما كان قلبنا قاسياً. مَن يسير دوماً في حضرة محبة الله، سوف يكون دائماً مستنيراً بمحبته له. هذه هي طبيعة المحبة.
ثالثاً: تذوّق القديس يوحنا حلاوة المحبة للرب واتكأ على صدره بمنتهى السلام. المحبة بحد ذاتها هي عطية لا تُقارَن. إنها تجلب بركة أرفع من كل ما في السماء والأرض. يقول الرب: “الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني. والذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي… إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً” (يوحنا 21:14و23). كم من العزاء في هذه الكلمات! كم هي عظمة وسامية وعود ابن الله التي يعطيها لمحبيه: أن محبّ المسيح سوف يشارك الآب والابن بالصداقة. يعجز الفكر البشر عن سبر غور صلاح الله. الله العظيم الأبدي وغير المدرَك يشتهي أن يقيم صداقة مع الإنسان الذي خلقه والذي هو عبده. إنه يرغب بهذه الصداقة طالما أن الإنسان لا يرفضها… صداقة مع الآب ومع ابنه يسوع كما يكتب القديس يوحنا. حيث يكون الآب والابن فهناك الروح القدس أيضاً. انظر إلى ما يبلغ محب المسيح! مَن يحبه يستحق أن يكون مسكناً ومنزلاً للثالوث الفائق القداسة. الإله المثلث الأقانيم، الآب والابن الروح القدس، مستعد جداً لأن يسكن في الإنسان بالنعمة. “الله محبة ومَن يثبت في لمحبة يثبت في الله والله فيه” (1يوحنا 16:4). هذا القلب مبارك بالحقيقة! حتى هنا على الأرض سوف يحس الفرح المسكوب بوفرة في قلوب المختارين للحياة الأبدية. يتذوّق القلب جوهرَ صلاح الله ويمتلك ما يعبّر عنه في قول الرب “ملكوت الله في داخلكم”.
حيث يكون الله يكون كل ما له. إذا كان الله في داخلك بسبب محبتك، إذاً سوف يبررك من خطاياك، يحررك من أسرك، يهبك السلام بدل الضمير الشرير والفرح بدل بؤسك، التعزية بدل حزنك، التبرئة في يوم الرب، العون على أعدائك، الحكمة والمعرفة بدل التشوّش والجهل، والقوة في ضعفك (عن القديس تيخن). إذا سكن الرب بسبب محبتك، فمَن هو عليك، وأي أذى قادر أن يصيبك؟ إذا كان هو سلامك فمّن يستطيع أن يقلقك؟ إذا كان هو فرحك وعزاؤك فأي إنسان أو أي شيء يقدر أن يسبب لك الأسى؟ إذا كان هو قوتك فمَن يستطيع أن يغلبك؟ إذا كان هو مَلِكَك فمَن يستطيع أن يُخضعك؟ “إذا كان الله معنا فمَن علينا؟”، هكذا يصرخ الرسول بولس بقوة مع كل محبي الرب (روما 31:8). هذه هي المحبة وانظر ما تجلب معها! إن الذين يلجون إلى محبة الله يشعرون بأنهم أكثر كمالاً، لأن المحبة هي رباط الكمال (كولوسي 14:3).
إذا رغبتَ بمحبة الرب، فجاهد إلى معاينة جماله أو ملء كماله بعقلك، اشعر بدفء محبته وتذوّق حلاوة المحبة بذاتها في قلبك. لا يمكن للمرء أن يتعلّم المحبة، إنها تتم في الأماكن المخبأة من القلب. إنها تُبذَر سريّاً وتنضج غير منظورة، كما البذور التي تقع دون علم الباذر فتتبرعم وينمو لها ساق وسنبلة وبذار في السنبلة. المحبة تُبذَر سرياً كما تأثيرها في المحبوب. أدِرْ فكرَك في قلبك إلى وجه الرب المشع المليء بالمحبة والمستحق لها، ومن عينيه سوف تنزل شرارة إلى قلبك وتضيئه بمحبة الرب. مَن يقف بجانب النار يستدفئ بها، ومَن يتوجه إلى الرب بفكره وقلبه يستدفئ بحرارة محبته، ويتهيأ باستعداد دافئ نحو الرب “محبة الله قد انسكبت في قلوبنا” (روما 5:5)، هكذا يعلّم الرسول بولس. المحبة هي هبة، ولكنها هبة مهيأة لكل مَن يسعى إليها. اشتهيها واطلبها وسوف تحصل عليها. كما أن الله يتقبل كل إنسان بسرور، هكذا من المستحيل ألاّ نحبه. في أي حال، وبما أن الله لا يحبه الجميع إذ لا يتوجهون نحوه ويسعون إليه جميعاً، فقد أحبنا هو أولاً وعلينا بالتالي أن نحبه.
هذه هي الحال: لقد أحببنا شيئاً ما بدلاً منه، شيئاً لا يرضيه ولا هو يباركه، ونحن عاجزون عن محبته لأن لنا قلباً واحداً وليس اثنان. إذاً، لا نستطيع أن نعمل لله وللعالم. تذكروا أيها الإخوة أن محبة العالم عداوة لله (يعقوب 4:4). عداوة لله! هذا أمر رهيب! وأسوأ منه هذه الكلمات: “إن كان أحد لا يحب الرب يسوع المسيح، فليكن أناثيما، ماران أثا” (1 كورنثوس 22:16). هكذا كان تعبير الرسول بولس عن محبته الغيورة.
فلنمعن النظر في هذه الأمور، أيها الإخوة، ونلزم أنفسنا على محبة الرب من كل قلوبنا وكل نفوسنا وكل قوتنا. بل ما هو أفضل هو أن نوقظ محبته النائمة فينا ونفعّلها حتى نراها ويراها كل إنسان. آمين.
ألقيت في 8 أيار 1864