الطريق العسر والضيق
للقديس الأسقف ثيوفانس الحبيس
تعريب الأب أنطوان ملكي
كثيراً ما نسمع الناس يقولون: “الرب عند خلقه الإنسان، أدخله إلى الفردوس وأمّن له كل شيء ليتمتع به”. بعد السقوط، وبالرغم من أن الإنسان طُرد من الفردوس، إلاّ إن قدرته على التلذذ بقيت: الأزهار قدمت متعة الشم، الثمار قدمت الطعم الطيب، السماء بنجومها قدمت لذة النظر، غناء الطيور حمل جمال السمع. بعدئذ، في السياق نفسه، اخترع الإنسان الموسيقى. كل ما في الطبيعة يتحدث عن صلاح الله الخالق. وبالرغم من إرادة الله الفاضلة، هناك مَن يريدون أن يضعوا العوائق والقيود في كل مكان. إنهم ينتهكون الطبيعة، يتطاولون على الله، ويقدّمون صورة مشوهة عنه.
إنها حالة مزرية بالحقيقة! لقد كتبتُ لكِ في رسالتي الأخيرة أن العلمانيين، إذا أرادوا أن يكونوا مسيحيين حقيقيين، يجب ألاّ ينقبضوا من الصراحة الرهبانية. وفي ما كتبت، ظننت أني أقنعتك وأن كل ارتباكاتك قد تبددت. ولكن أي لخبطة عندنا هنا؟ لماذا وضعتِ نفسَك في هذه الورطة، وكأن الحقيقة إلى جانبهم؟ عليكِ أن تقولي لهم: “استمروا يا أصدقائي وامرحوا وتلهّوا، افتحوا أبواب اللذة واسعة وانتَشوا وعربدوا في مأدبة هذه الحياة… لا أحد يمنعكم، ولا أحد يضع أي حاجز في طريقكم. عيشوا كما تريدون. لقد أُخبِرتُم، بكلمات السيد، أن هناك طريقين لبني البشر: الطريق الضيق والطريق الواسع، وأن الأول يقود إلى الحياة بينما الثاني فيؤدي إلى الهلاك. أقرؤها بأنفسكم، إذا رغبتم. إنها هنا صريحة في الإنجيل: “ادخلوا من الباب الضيّق لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك وكثيرون هم الذين يدخلون منه. ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي غلى الحياة وقليلون هم الذين يجدونه” (متى 13:7-14).
إذا أردتم أن تسمعوا فاسمعوا، وإن لم تريدوا فافعلوا ما تريدون. هذه ليست تأليفاً بشرياً. إنها وصية الرب، لا أقل. جاهدوا كي تدخلوا من الباب الضيق، يقول الرب في مكان آخر، لأن كثيرين سوف يحاولون الدخول ولن يستطيعوا. جاهدوا، يعني، أسرعوا وكأنكم في سباق تتبارون مع آخرين لدخول هذه البوابة الضيقة العسرة، مهملين الآخرين، لا بل مغتصبينها منهم: دعوني أدخل، دعوني أدخل! وكأنكم خائفون من أن تُغلَق هذه الأبواب.
ليس لنا أن نخمّن السبب في كل هذا، فالله وضعه بهذه الطريقة وهكذا هو. نعم، وأي إله هو هذا؟ هو الذي، لخلاصنا، تقدّمَنا بنفسه في هذه الطريق الضيقة، وبعد كل أنواع العذابات، قدّم نفسه على الصليب قائلاً للص المصلوب: “اليوم تكون معي في الملكوت”. بالنهاية، هو مخلصنا! على كل الذين يريدون أن يخلصوا أن يتبعوه. واتِّباعه ممكن فقط بحمل الصليب. “مَن أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني” (مرقس 34:8). هذه هي درب الذين يشتهون الخلاص: الرسل والشهداء والرؤساء والقديسون، وكل الذين حصلوا على الخلاص ويقطنون الآن مدينة الله أورشليم العلوية.
إذاً، ما العمل؟ بالتأكيد، لا يستطيع أحد أن يخلص يغير هذا، خاصةً أن أيّاً من المخلَّصين لم يبلغ إلى البركة الأبدية بغير هذه الطريق. أليس من الأفضل أن نستسلم لهذه الضرورة حتى ولو لم تكن كثيرة الحلاوة؟ إن العذاب الأبدي أكثر سوءً. فليضبط الراغبون بالخلاص أنفسَهم ولا يبحثوا عن أعذار. هذا صعب، ولكن ما العمل؟ الحياة تسمّى جهاداً، ليس بدون سبب، وكما يقول الرسول بولس: “جاهد الجهاد الحسن” (1تيموثاوس 12:6). أما بالنسبة للذين لا يرغبون بالاستسلام، ويتصرفون كما يحلو لهم، فيجب أن يعرفوا أن القوانين المختلفة والشروط ليست عمل الإنسان: إنها وصايا الله. قد تُضاف هنا كلمة شرح: ما هي ضرورة هذا الشرط أو ذاك؟ لماذا، مثلاً، نحتاج إلى الصوم؟ لمَ الوحدة؟ ولمَ الإكثار من الصلوات؟ وغيرها. على أي حال، لن أتابع في هذا. الذين يتبعون الطريق الخلاصية يعرفون كم أن كل هذا ضروري، بينما الذين يجتنبون هذا الطريق، فلن يسمعوا عن كل هذا. أظن أني قد كتبت إليك حول ما يختص بهذه التفسيرات المنحرفة للكتاب المقدس في رسالتك. صحيح أنه كان في الملكوت أمور عديدة جلبت المتعة للإنسان، لكن هذه الأمور لم تكن إلا زينة خارجية للحياة الفردوسية. لقد كانت عناصر خارجية. لم يكن هدف الإنسان الأول التلذذ بهذه الأشياء بل الشركة مع الله من خلال التطبيق الطوعي لإرادته. لو بقي الملكوت مكان سكن الإنسان، لكان الناس تمتعوا بهذه الخارجيات أيضاً، دون أن تشغل أفكارهم أو تكون همّاً لهم، كونها ظلاً وملحقاً طبيعياً للحياة التي ترضي الله.
إذاً أنتِ ترين أنه في الملكوت لا يناقشون ولا يتشاجرون حول اللذات، بينما نحن الذين فقدنا الملكوت فنرغب في جعل الملذات هدفنا الأساسي في الحياة. لو كانت المبهِجات قادرة على أن تكون شرعياً نصيب الإنسان الساقط، لما كان السيد طرد جديّنا من الملكوت. إذ، بطردهما، أظهر أن حياة السهولة والمتعة لا تناسب الإنسان المؤمن. كما تعلمين، بالسقوط تغّير نظام الأمور بأكمله. لقد أُضيفت إلى حياة الإنسان فترة قصيرة من الوجود الأرضي، مليئة بالأحزان والمتاعب، مصَمَّمة لإنارة الإنسان وإصلاحه وتطهيره وجعله مستحقاً للفرح الأبدي في ملكوت أبدي مختلف. حياة الإنسان الحقيقية تأتي بعد القبر، وبتحديد أكثر، بعد القيامة. أمّا الحياة الحالية فهي مجرد عتبة وتحضير للحياة الآتية. لقد قضى الله أن يكون في الحياة الحالية أحزان خارجية ومحن، وقد وصف لها قيوداً مختلفة كوسائل للتطهير. الشهداء سُلِخ جلدهم بمخالب حديدية وبها تهيئوا للملكوت. هذه صورة عن حياة الإنسان الحاضرة التي فيها يتهيأ لأبدية مبارَكة، من خلال القيود المطهِّرة والارتباكات التي هي كالسياط. إذا توصّلالانسان إلى فهم قصر هذه الحياة الحاضرة وكم من النفع هناك في قيودها ومخاضاتها للحياة الآتية التي لا تنتهي، سوف لن يتوقف فقط عن تجنبها ولكن على العكس سوف يطلبها ويسعى إليها كما وراء شيء صالح وإيجابي. هكذا يتقدّم كل الذين يفهمون جيداً معنى الحياة الحاضرة.
حقيقة أن الإنسان، بعد طرده من الملكوت، لم يُجرَّد من كل وسائل المتعة، لا تعني أنه لا مكان للضيقات في نظام الحياة الحاضرة. للتوصل إلى شرح هذه النقطة، تأتي إلى الفكر كلمات معلمي العزيز أمفيتياتروف. كنت مرةً أسير إلى جانبه في مغارة وسألته: “لماذا توجد هذه التباينات في الطبيعة؟ هنا زهرة جميلة إلى جانبها قراص لاسع، والسماء أحياناً صافية وأحياناً أخرى ملبدة؟” أجاب: “أيها الصديق الساذج، هذه التفاوتات ليست أمراً تافهاً في تدبير الله وحكمته المتعلقة بخلاصنا. الرب الرحوم يقول للإنسان: إن من الحق ألاّ يغادر العرق جبينك، إن قدرك هو أن يرهقك الكدح. لكني أحياناً أعطيك تذوقاً لحلاوة الحياة، فأسمح لعينيك بأن تمتلآ بالنور، ولجبينك بأن يتلطف من التجاعيد، وللبسمة بأن تلعب على شفتيك، حتى لا تفقد الرجاء وتسقط في اليأس. إن العدل هو أن تُخرج لك الأرض شوكاً وحسكاً، لكني أمرت أن تنتج أحياناً وفرة من المبهجات حتى لا تفقد الثقة بأن استعادة البركة الضائعة ما زالت ممكنة. إنه لعدل ألاّ يكون في الهواء فوقك وحولك إلاّ العواصف والبرق والرعد، لكنك غالباً ما ترى الشمس اللامعة وتتمتع ببرودة الصباح اللذيذة وهدوء المساء المنعش، حتى تتذكر أن السماوات ليست مغلقة دونك بالمطلق، وأن صدري مفتوح دائماً لك، وأنني مستعد لقبولك في المساكن السماوية”.
إذاً، هذا هو سبب بقاء بعض المفرحات في الطبيعة، وليس السبب تحويل هذه الفتات إلى حفلة تدوم العمر، ولا هو أن نبني من هذه الكسرات معبداً للسعادة على الأرض. لكن الساعين بيننا إلى اللذة يفكرون بشكل مختلف. برأيهم، كل عائق وكل حاجز أمام التلذذ هو انتهاك لطبيعة الإنسان ومعاكس لإرادة الله. لقد سبق لي وقلت أن الأمر ليس كذلك وأن الله نفسه أمر بأن يسلك الإنسان الطريق الضيق، وما يلي يوضح أن هذا ليس بأي شكل من الأشكال انتهاكاً للطبيعة البشرية.
عندما سقط الإنسان لم ينزل فقط عن كرامته بل قبل أيضاً بعض المبادئ الغريبة عن طبيعته الأصلية، وهي بذور كل أشكال الشر. بالتالي، يجب أن نميّز في الإنسان الساقط بين ما هو أصيل لطبيعته وما هو دخيل عليها، مع أنه موجود فيها. كل القوانين والسبل التي تكبح الإنسان والتي وضعها الله وأسّسها، هي بشكل مطلق موجهة ضد بذور الشر الدخيلة حتى تسحقها وتخنقها، وبالتالي تحرّر طبيعة الإنسان الحقيقية.
وهكذا، فالقيود ليست انتهاكاً للطبيعة بل هي وسائل وأدوات نافعة. إنها كمثل العملية الجراحية لاستئصال ورم خبيث، أو مثل اللزقة لاستخراج شيء مضر. إن طبيعتنا هي في عبودية. إن الرب، بوضعه القيود المختلفة علينا، يريد تحرير طبيعتنا. لكننا نقاوم: “لا تقترب منا! لا تضع حولنا سياجاً من القوانين!” وبالتالي، بدل الدفاع عن أنفسنا، نحن نفتري عليها. إن السعاة إلى اللذة هم أنفس ضائعة. هذا لا يعني أنه ليس في الحياة مكان للمتعة. يجب أن نقبل كل شيء من يدي الله بشكر. في الوقت نفسه، يجب ألاّ نكافح وراء اللذات، وأكثر من ذلك، يجب ألاّ نثور ضد كل أنواع الوصايا الكابحة. فالرب لم يعطِ هذه الوصايا لهذا السبب. يظهر هذا التمرد لا فقط في قلة تفهم موضوع المسألة ولكن أيضاً في الإلحاد المحارب. أنتِ ترين إلى أين يقود كل ذلك. لكنهم يفكرون به بخفة. قد يكونون على حق في الوقت الحاضر، ولكن ما الذي سوف يجدونه في العالم الآتي؟ العُسر غير الطوعي سوف يكون بلا نفع لهم، وسوف يكون مرّاً وبائساً. فليرحمنا الرب ويخلصنا.