الاعتراف بحسب جَدَّة من سيبيريا
نقلها إلى العربية الأب أثناسيوس بركات
منذ بضع سنوات، وعلى إذاعة راديو رادونيج الأرثوذكسي من موسكو، سأل مُتَّصلٌ على الهواء كاهناً: لماذا فقط النساء المُسنَّات يذهبن إلى الكنيسة. أجاب الكاهنُ بأن هذه ليست الحال، وليأتِ المتَّصل ويرَ بعينه. استحثَّ هذا الجوابُ إحدى النساء وتُدعى فالنتينا، وهي من سرجييف بوساد، لتبعثَ برسالة رائعة قُرِئَتْ في البرنامج في الأسبوع التالي.
“سبب هذه الرسالة”، كَتَبَتِ المستمعة، “كان الحديث الذي فيه أجبتَ على سؤال أحد المتَّصلين، ومن بين عدة أشياء قلتَها: `لا تذهب النساءُ المسنَّات، فقط، إلى الكنيسة، بل هناك العديد من الشباب. وما عليكَ إلا أن تأتي وتشاهد بنفسكَ`. إني أَعلمُ بأن جوابَك كان موجَّهاً إلى شخصٍ محَدَّد، لكنني أَودُّ أن أُضيفَ بأنه لا بأس حتى ولو أتت، فقط، النِّساءُ المسِنَّاتُ إلى الكنيسة. هذا يعني بأن الشباب الذين سينضجون تحت رعاية النساء المسنّات سوف يأتون بدورهم إلى الكنيسة عندما يحين وقتُهم. إنني أفكِّرُ، خاصَّةً، بجدَّتي التي كانت المصدرَ الرئيسي لتنشئتي الدينية.
“لقد قضيتُ طفولتي في الأورال، وهي إيكاتينبورغ اليوم. وكمثل العديد من الأولاد في أيام الحرب كنتُ في إيكاتينبورغ معظم الوقت(1)، ودخلتُ المدرسةَ بقلب مشوَّش وعقلٍ متحيِّر. في بعض الأوقات، ورغمَ ندرتها، كانت جدَّتي تأتي لرؤيتِنا فتأخذني إلى الكنيسة للمناولة. كان هناك، دائماً، الكثيرُ من الناس في الكنيسة، حتى كان من الصَّعب رسم إشارة الصليب، ولهذا لم يستطِع الكهنةُ سماع اعترافات عدد كبير كهذا من الناس(2). أتذكَّرُ “الأبونا” (باتيوشكا بالروسية) متوسِّلاً إلينا وهو يكاد يبكي: “أيها الإخوة والأخَوات، افحصوا ضمائرَكم، توبوا أمامَ الله، لا تُثقِلوا على نفوسكم. الله رحيمٌ وما أنا سوى خادمه الخاطىء. لا تتقدموا لتقفوا تحت البطرشيل دون توبةٍ داخلية عن خطاياكم”.
بعد الإعترافِ الجَماعي، كان “الأبونا” بالكاد عنده الوقت ليضع بطرشيلَه على رؤوس المعترفين ويتلوَ صلاة الحلّ. تضرَّعتُ بدموع مع الباقين لكي يُشفقَ الله علينا ويرحمَنا، كوننا نتوقُ لأن نكون أفضل مما كنا سابقاً. لَم يكن لدينا لا كُتُب صلوات ولا إنجيل، بل كانت صلواتُ الكنيسة أساس قانون صلواتي.
لاحقاً، في الصَّفّ الرابع، تعلَّمْتُ الصلوات الأساسية، لكنني كنتُ في الصف الأول أتمتمُ بعضاً مما كنتُ أؤَلِّفُه فأصلي بحرارة من أجل الجميع. كانت روحيّة صلواتي تتغير بحسب مزاجي. لا أزال أذكر كم كنتُ هلعة عندما حان وقت اعترافي الأول. لم أفهم العديدَ من الخطايا التي كان باتيوشكا يَذكرها، وهنا لجأتُ إلى جدتي من أجل الاستفهام: “في الاعتراف تُذكَر خطيئةُ السرقة، فهل يجب أن أقول بأنني اقترفتُها، أم لا؟”، قالت جدتي: “يجب أن تَذكري بأنك اقترفتِها”. “لكنني لم أستولِ على ما يخصّ غيري”، قلتُها باندهاش. “كل شخص”، قالت الجدة “قد اقترف كل الخطايا، لكن بمستويات مختلفة. لنفترض أنك لم تسرقي شيئاً، لكنك لا بدّ أنكِ أخذتِ شيئاً صدفةً، مثل قلم رصاص أو ممحاة، ثم نسيتِ الأمر. استعملتِه دون أن تُعيديه، هذا يُعتَبَر سرقةً لأنك أخذت ما ليس لكِ. من المُحتمل أن ضميرك لم يوبِّخْكِ في الوقت الحاضر، فأنتِ لم تقصدي الاستيلاء عليه – لكن حاولي أن تنظري عن قرب إلى المسألة، فستكتشفين أنك قد اقترفتِ خطيئة السرقة”. فجأةً تذكرتُ بخجل أن صديقتي قد سمحت لي بأن أقتطع نصف ممحاتها، فأعطيتُها النصف الأصغر محتفظةً بالنصف الأكبر. رغم أن صديقتي لم تنتبه للأمر بسبب طيبة قلبها، إلا أن ضميري عذَّبني بسبب ذلك. اعترفت بهذا الأمر لجدّتي، فقالت: “حسناً، هل رأيتِ؟ لهذا السبب لا يجب أن يكون لديكِ أدنى شك، بل كوني نادمة على كلّ شيء”.
رغم ذلك، لم أكن في حالة سلام، “لكن يا جدتي، باتيوشكا ذكر أيضاً [قساوة القلب]. فهل لدي هذه الخطيئة أيضاً؟ إذ أنني أُشفق على الجميع”.
ارتشفت جدتي بعضَ الشاي من فنجانها، إذ كنا جالستين إلى الطاولة، وقالت: “بسبب حداثة سنك لا تلاحظين خطاياك، وأنا المَلومة على ذلك. فكيف سيكون جوابي أمام الله إذا كان، حتى النبي إيلياس في العهد القديم، لم يرحمْه الله بسبب تغاضيه عن أولاده الفاسدين؟ يقَظَتََُك وانتباهُك لا يجعلانك تتملصين من كونك الوحيدة التي تتناول الشاي مع السُّكّر. لبُرهة طويلة، أمكِ وأنا كنا نشربه ونحن فقط ننظر إلى السكر”. تكلمَتْ جدتي بلطف، لكن وجنتاي تورَّدتا خجلاً فدفعتُ السكَّر بعيداً عني. “حفيدتي العزيزة، لم أقصد الإساءة إليكِ، إذ أننا غير مهتمتَين بالسكر، لكنك طلبتِ جواباً وهذا مثال مناسب لذلك. بالأمس توسَّلتِ إلى أمِّكِ لكي تشتريَ لك حلوى وحصلتِ عليها، لكنها أنفقَتْ آخرَ ما معها من مال. ألم تكن تلك قساوة من قِبَلكِ؟ ألم يكن بمقدورك الاستغناء عنها؟ أين حبُّكِ لوالدتكِ؟ كيف تُظهرينه؟ أين هي أعمال المحبة؟ لو أطعتِها دون أن تُلحّي للحصول على ما ترغبين به، لكنتِ بالتأكيد قد أظهرتِ محبَّتَك”.
قمنا بتنظيف المائدة وغسل الصحون، ثم جلسنا أمام الموقد الدافىء. كانت كلمات باتيوشكا تتفاعل في رأسي، رغم أنها لم تكن مفهومة. فسألت جدتي ثانيةً: “يا جدتي، لقد ذكر باتيوشكا خطيئة [ال-زِنا]، فما هي؟ وهل اقترفتُها؟”. جذبت جدتي رأسي إلى صدرها وداعبت شعري، ثم جلسَتْ تفكر. “لا، من المؤكّد أنه ليس لديك مثل هذه الخطيئة”. فكّرتُ بذلك، ثم رميتها بنظرة ملؤها الاستفهام. “الكل اقترفوا هذه الخطيئة، لكن عليكِ أن تفهمي كيف تفعلُ فيكِ. بالأمس، ذهبتِ مع أمك إلى السينما. لقد قمتِ بعمْلِ جديلتين مع زينة لهما، ولكن لماذا؟ لتكوني جميلة؟ أجل. هذا يعني أنك تريدين أن ينظر الناسُ إليك بإعجاب ويقولون :أنظروا، يا لَلفتاة الجميلة، ما أجمل جديلتاها مع الزينة. لقد فعلتِ ذلك بدافع الغرور. لا تظني أنني ضد زينتك الجميلة، لكن عليك القيام بأي شيء باعتدال… أيضاً، منذ بضعة أيام، لاحظتُ أثناء قيامِك بالرسم، أنكِ طليتِ أظافركِ بالقلم الأحمر، ثم لوَّحتِ بيدك وقد تملَّككِ الإعجابُ بنفسك. ما الذي كان يجري في رأسك الصغير؟ الله وحده يعلم، من الممكن أن تكون هذه خطيئة”.
نظرتُ باندهاش إلى جدتي. كيف يمكنها أن تُدرك وترى كلّ شيء؟ قلتُ صارخةً: “يبدو، بنظرك، أنني خاطئة كبيرة! ماذا أقول لباتيوشكا في الاعتراف؟”. “قولي وحسْب بأنك… بأنك خاطئة، وإذا تسنّى لك أن تذكري خطاياكِ فافعلي ذلك”. في ذلك المساء تضرّعتُ طويلاً إلى الرب لكي يغفر خطاياي التي كانت كثيرة حتى أنني لم أستطع تذكُّرَها بجملتها. قدّمتُ وعداً بأنني لن أُغضِبَ الله ثانيةً بخطاياي، وكذلك أمي أو جدتي أو أي إنسان. أخبرَتْني جدتي بأن مهمتي الرئيسية هي أن أكون مطيعةً وأن أسامح الجميع، “بالطريقة نفسها التي تريدين اللهَ أن يسامحكِ بها”، – وحينها سيحبني الله، وكذلك الملائكة وجدتي.
أذكرُ عندما ذهبتُ للإعتراف. كانت وجنتاي تلتهبان احمراراً بسبب خطاياي العديدة. لكن باتيوشكا كان لطيفاً للغاية، فقد منحني الغفران. وللمرة الأولى، اشتركتُ في القدسات بوعي. لا أزال أَذكر ابتهاجَ روحي بمجد الله اللامتناهي. كانت روحي تفيض فرحاً بكلمات طفولية نحو إلهها- وفي تلك المناولة انكشف لي الكثير، على غرار كلّ روح نادمة بصدق. من الممكن الكتابة والكتابة حول هذا الأمر، ذلك أن كل شخص يَضمُّ في قلبه عالَماً مدهشاً، حيث الصراع ضد الشر الداخلي يكون محتدماً، فيولد مُواطنٌ في ملكوت السموات. العجائز، كجدتي، تساعدن الكهنة على صنع ذلك الإنسان الجديد. لهذا، فالكهنةُ الذين لا يشاهدون عدداً كبيراً من الشباب في كنائسهم، كما يرغبون، لا ينبغي أن يصيبهم الإحباط. لا يضيع شيء عند الله. حتى بقايا وفتات الخبز والسمك جُمِعت من قِبَلِ الرسل ووُضِعت في سلال. لا يتخلّى الله عن روح إنسان قطْ، إذا كان الأخير يحبه ويصلي لينال الغفران. أشكر إصغاءكم طالبةً صلواتكم من أجل زوجي ومن أجلي.
خادمة الله فالنتينا
[1] خلال الحرب العالمية الثانية، كان يُطلب من العمال أن يعملوا لاثنتي عشر أوأربعة عشر ساعة يومياً في المعامل والحقول مساعدة منهم في المجهود الحربي. كان الأولاد يُترَكون في الحضانة المدرسية خلال عمل أهلهم.
[2] الإعتراف الجَماعي هو عندما يقوم الكاهن علَناً بتعداد مجموعة خطايا محتملة أمام أبناء رعيته. السامعون يفحصون ضميرهم فيما هو يَذكر الخطايا وهم يتوبون بشكل شخصي سرياً. ثم يحضر كلٌ منهم أمام بطرشيل الكاهن من أجل صلاة الحل، دون الإعتراف بالخطايا عن طريق ذكرها. رغم أن هذه الممارسة كانت تقام، في الماضي، لأعداد غفيرة من الناس حين كانت الاعترافات الشخصية ممنوعة من قِبَل السلطات السوفياتية، إلا أنها مستهجنة بشكل عام، وغالبية الكهنة الروس المعاصرين يقفون لساعات عديدة من أجل تقبُّل الإعترافات الشخصية بدلاً من الإعترافات الجَماعية.
