حيث المحبَّة، هناك الله
ليو تولستوي
نقلها إلى العربية الأب أثناسيوس بركات
كُتبَت هذه القصَّة سنة 1885. وهي مأخوذة من ليو تولستوي: ” إمشِ في الظلام، وثلاث وعشرون قصة”.
في إحدى المدن، عاش إسكافيٌّ اسمه مارتن أفْداييتش .Avdeitch كان يملك غرفةً صغيرة تحت الأرض، لها نافذة واحدة تُطلّ على الشارع من خلالها يمكن رؤية أقدام المارَّة. كان مارتن يميِّز الناسَ من خلال أحذيتهم. لقد عاش طويلاً في ذلك المكان وأصبح لديه معارف. ليس من زوج أحذية إلا ومر تحت يديه مرَّة أو مرَّتين تقريباً، لذا، فغالباً ما كان يرى ما صنعته يداه عِبر تلك النافذة. البعض كان قد أصلح نعله والبعض قد قام بترقيعه، أما البعض الآخر فكان قد قام باستبدال “الفرعة” (القسم العلوي من الحذاء) بأُخرى جديدة. كان لديه الكثير من العمل، لكونه ماهراً في عمله، يستعمل موادَّ جيِّدة ولا يطلب أجراً عالياً، لذا كان يمكن الإعتماد عليه. لم يكن يستلم عملاً ما لم يكن بإمكانه إنهاؤه في الوقت المطلوب. أما إذا تعذّر ذلك فلم يكن يعطي وعوداً كاذبةً. لهذا كان مشهوراً وغير عاطل عن العمل، ولا لمرة واحدة.
كان مارتن رجلاً صالحاً. ومع تقدمه في السن، كان يفكر، أكثرفي خلاص نفسه وقُربه من الله. كانت زوجته قد ماتت تاركةً له ابناً بعمر الثلاث سنوات. حينها كان يعمل لدى رب عمل قبل أن ينشئ عمله الخاص. لم يحيَ أيٌّ من أولاده، فقد توفوا وهم صغار. في أول الأمر فكَّر مارتن بإرسال ابنه إلى أخته في الريف، لكنه، حينها، أشفقَ أنْ يجعل الصبي يرحل، ففكَّر: “سيكون صعباً على صغيري كابِّيتون Kapiton أن يتربّى لدى عائلةٍ غريبة. سوف أُبقيه معي”.
ترك مارتن ربَّ عمله واستقرَّ في مسكن مع ولده. لكن لم يحالفه الحظّ فيما يخص الأولاد. فلم يكد يصل الولدُ إلى سن يستطيع مساعدةَ والده فيكون له عضداً وتعزيةً، حتى أصابه المرض. وبعد أن سقط طريح الفراش لأسبوع، بسبب حمَّى مرتفعة، فارق الحياة. دفن مارتن ولدَه واستسلم لليأس الشديد، حتى أنه تذمَّر على الله. في يأسه، كان يصلي، مرة تلو الأخرى، طالباً الموت لنفسه، ومُلقياً اللوم على الله لأنه أخذ ابنه الوحيد، بينما، وهو المتقدّم في السن، قد بقي على قيد الحياة. وبعد ذلك توقف مارتن عن الذهاب إلى الكنيسة.
في أحد الأيام عرَّجَ على مارتن شيخٌ من أبناء قريته كان قد دخل الرهبنة منذ ثماني سنوات في دير ترويتسا Troitsa. فتح مارتن قلبَه للراهب، وأخبره بهمومه: “لا أرغب بالعيش بعد الآن أيها الرجل القديس”، “كل ما أطلبه من الله هو الموت بأسرع ما يمكن. فأنا، الآن، لا رجاء لدي في هذا العالم”.
أجاب الشيخ: “لا يحقّ لك قولُ مثل هذه الأشياء يا مارتن. لا يمكننا أن نحكم على طُرق الله. ليس منطقُنا الذي يقرر الأمور بل الله. إذا أراد الله بأن يموت ابنك وبأن تعيش أنت، فهو الأمر الأفضل. أما سبب همومك فهو لأنك ترغب أن تحيا من أجل مسرَّتك”.
“وما الأمر الآخر الذي على الإنسان أن يعيش من أجله؟”، سأل مارتن. “من أجل الله”، أجاب الشيخ. “لقد منحك الحياة، لذا يجب أن تحيا من أجله. لن يصيبَك الغمُّ بعد ذلك، و سيسْهُل عليك كلُّ شيء”.
صمت مارتن لبرهة ثم سأل: “لكن كيف للإنسان أن يحيا من أجل الله؟” أجاب الشيخ: “لقد أوضَح لنا المسيحُ كيف على الإنسان أن يحيا من أجل الله. هل تستطيع القراءة؟ إذن إشترِ الكتاب المقدس واقرأه: هناك سوف ترى كيف يريدك الله أن تحيا. ستجد كل شيء هناك”.
اخترقت تلك الكلماتُ أعماقَ مارتن، وفي اليوم نفسه ذهب واشترى لنفسه الكتاب المقدس بطبعة ذات أحرف كبيرة، وبدأ بالقراءة.
في البداية قرر أن يقرأ خلال العُطل، ولكن بعد أن بدأ، وجد أن المطالعة تجعل قلبه فرِحاً حتى أنه أصبح يقرأ يومياً. في بعض الأحيان كان يؤخذ بالقراءة لدرجة أن الزيت كان ينفد في القنديل قبل أن يُجبِرَ نفسه على ترك الكتاب. استمرَّ في القراءة في كل ليلة، وبقدْرِ ما كان يقرأ كان يزداد فهمه لما يريده الله منه، وكيف عليه أن يحيا من أجل الله. وأصبح قلبُه خفيفاً أكثر فأكثر. في السابق، كان يأوي إلى فراشه بقلبٍ مُثْقَلٍ بالغَمّ، وكان ينتحب فيما يفكِّر بصغيره كابيتون. ولكن، الآن، أصبح يردد مرةً تلو الأخرى: “المجد لك يا ألله، المجد لك يا ألله، لتكن مشيئتك”.
منذ ذلك الحين تغيرت حياة مارتن. في السابق، في أيام العُطلْ، كان يذهب إلى الخمَّارة ليتناول الشاي، حتى أنه لم يكن يرفض قدحاً أو اثنين من الفودكا. أحياناً، وبعد أن يكون قد احتسى شيئاً من الخمر مع صديق، كان يترك الخمَّارة غيرَ سكران ولكن شبْهَ فَرِح، ويتفوّه بأشياء خرقاء: يصيح بأحدهم أو يعامله بعنف. أما الآن فكل هذه الأمور قد توارت. لقد أصبحت حياتُه سلاميَّةً سعيدة. يجلس للعمل في الصباح، وبعد الإنتهاء من عمله النهاري يتناول القنديل عن الحائط واضعاً إياه على الطاولة، ثم يفتشُ عن الكتاب على الرَّف ويفتحُه ويجلس للمطالعة. كلما أكثَرَ من القراءة يزداد فهماً ويشعر بالفرح والاستنارة في عقله.
حدث، مرة، أن مارتن جلس للقراءة في وقت متأخِّر، وكان مأخوذاً بما يقرأ. في الإصحاح السادس من إنجيل لوقا وصل إلى الآيات التالية:”من ضربك على خدِّك فاعرُض له الآخَرَ أيضاً، ومن أخذ رداءك فلا تمنعْهُ ثوبَك أيضاً. وكلُّ مَن سألك فأعطه، ومن أخذ الذي لك فلا تطالبْهُ. وكما تُريدون أن يفعلَ الناسُ بكم افعلوا أنتم أيضاً بهم هكذا”، (لوقا6: 29-31). وقرأ أيضاً الآياتِ حيث يقول الرَّبّ: “ولماذا تَدْعونَني: يا ربُّ، يا ربُّ، وأنتم لا تفعلون ما أقوله؟ كلُّ من يأتي إليَّ ويسمعُ كلامي ويعملُ به أُريكم من يُشبه. يُشبه إنساناً بنى بيتا،ً وحفر وعمَّقَ ووضعَ الأساسَ على الصَّخرِ، فلمَّا حدثَ سيلٌ صدم النَّهرُ ذلك البيت، فلم يقدرْ أن يُزعزعَه، لأنه كان مؤسَّساً على الصَّخر. وأما الذي يسمعُ ولا يعملُ، فيُشبهُ إنساناً بنى بيته على الأرضِ من دونِ أساسٍ، فصدمَهُ النَّهرُ فسقطَ حالاً، وكان خرابُ ذلك البيتِ عظيماً!”، (لوقا6: 46-49).
عندما قراءة تلك الكلمات تهلَّلت روحُ مارتن في داخله. نزع نظَّارتيه واضعاً إياهما على الكتاب، ثم أحنى كتفيه على الطاولة متأمِّلاً بما كان قد قرأ. فحصَ حياتَه قياساً إلى تلك الكلمات، سائلاً نفسه:” هل إن بيتي مبنيٌّ على الصَّخر، أم على الرَّمل؟ إذا كان مؤسَّساً على الصخر، فهذا أمرٌ جيِّدٌ. هذا يبدو سهلاً عندما يجلس أحدُهم هنا بمفرده، ويفكِّرُ بأنه قد تمم كل وصايا الله. ولكن، بمجرَّدَ أن أتوقَّف عن الصَّحو، فإنني أعود إلى الخطيئة. ومع ذلك يجب أن أنتبه، إن الأمر يجلب فرحاً هذا مِقدارُه. أعِنِّي يا رب”.
فكر مارتن بكل هذا وهو على وشَك الذهاب إلى السرير، لكنه لم يرغب بترك الكتاب. لذا استمرَّ في قراءة الإصحاح السابع حيث الكلامُ عن قائد المئة وابن أرملة نايين والجواب على تلاميذ يوحنا المعمدان، فوصل الى الجزء الذي يتكلم عن الفريسي الغني الذي دعا الربَّ إلى بيته، وقرأ كيف أن المرأة الخاطئة أفاضت الطِّيْبَ على قدميه وغسلتهما بدموعها، وكيف أنه برَّرها. وعندما وصل إلى الآية 44 قرأ ما يلي:” ثم التفَتَ (يسوع) إلى المرأة وقال لسمعان: أتَنْظُرُ هذه المرأةَ؟ إني دخلتُ بيتَكَ، وماءً لأجلِ رِجلَيَّ لم تُعطِ. وأما هي فقد غسلَتْ رجلَيَّ بالدموع ومسحَتْهما بشعرِ رأسها. قبلةً لم تُقَبِّلْني، وأما هي فمنذُ دخلْتُ لم تكُفَّ عن تقبيلِ رجلَيَّ. بزيتٍ لم تدهن رأسي، وأما هي قفد دهنَت بالطِّيْبِ رِجلَيّ.” (لوقا 7: 44-47)
بعد أن قرأ تلك الآيات فكَّرَ: “لم يقَدِّم الماءَ لقدمَيِّ يسوع أو قبلة أو يدهن رأسه بالطيْب…” ومرةً أخرى، نزع مارتن نظَّارتيه واضعاً إياهما على الكتاب، ثم انحنى: “يبدو أنَّ ذلك الفريسي كان مثلي. هو، أيضاً، فكَّر بنفسه كيف يحصل على كوب من الشاي، كيف يَنعَم بالدفء والراحة. لم يفكِّر ولا مرَّةً في ضَيفِه. كان يهتمُّ بنفسه، أما فيما يخصُّ ضَيفه فلم يهتمَّ مطلقاً. علاوةً على ذلك، من كان الضَّيف؟ الربُّ نفسُه! لو كان قد جاء إليَّ، فهل كنتُ أتصرَّف كما فعل هو؟” ثم أراح مارتن رأسه على كِلْتَيْ يديه، وقبْل أن يدركَ ما حصل، استغرق في النوم.
“مارتن!”، فجأةً سمع صوتاً، كما لو كان أحدٌ يتنفَّسُ فوق أذنِه. أفاق من غفوته سائلاً: “من هناك؟” أدار رأسه ونظر نحو الباب، لم يكن هناك أحدٌ. نادى مرَّةً أخرى. فسمع بوضوحٍ تامّ: “مارتن، مارتن! في الغد، أنظر عبر النَّافذة إلى الشارع ، فإنني سوف آتي”.
أستيقظ مارتن ونهض عن الكرسي وفرك عينيه، لكنه لم يكن على يقين فيما إذا كان قد سمع تلك الكلمات في الحلم أم في اليقَظة. أطفأ القنديل ثم أوى في فراشه.
أفاق، في الصباح التالي، قبل طلوع ضوء النهار. وبعد أن تلا صلواته أشعل النار وحضَّر حساء الملفوف وعصيدة دقيق القمح الأسود. ثم أشعل النار تحت إناء الشاي وارتدى مئزره وجلس قرب النافذة للعمل. عندما شرع بالعمل، فكَّر مارتن بما حصل الليلة الفائتة. أحياناً كان يبدو له الأمرُ حلماً، و أحياناً كان يرى أنه قد سمع، حقاً، ذلك الصوت. ثم فكَّر:”هذه أمور سبق حدوثها”.
جلس، إذن، بجوار النافذة وكان ينظر إلى الشارع أكثر مما كان يعمل. وحينما كان يمرُّ أيُّ شخص بحذاء غير مألوف لديه، كان يحدودب وينظر للأعلى ليرى ليس فقط القدمين بل، أيضاً، وجهَ المارّ. مرَّ البوّاب وهو يرتدي حذاءً جديداً من اللّبّاد، ثم حامل الماء. أما الآن فيمر قرب النَّافذة محاربٌ مسنّ من عهد القيصر نقولا وفي يده رفشٌ. عرفه مارتن من حذائه الذي كان من اللّباد القديم الممزّق، وكان مغطّى بالجِلد. كان الشيخ يُدعى ستيفانيتش وهو يأوي عند جار له كان قد قَبِله إحساناً منه. وكانت وظيفتُه مساعدة البوّاب. بدأ المحارب بإزالة الثَّلج من أمام شباك مارتن الذي ألقى عليه نظرةً ثم عاد إلى عمله.
“لا بدَّ وأنني أصبَحتُ مخبولاً بسبب كِبر سنّي”، قال مارتن ذلك في نفسه هازئاً من تخيُّله. “إن ستيفانيتش قد جاء لإزالة الثَّلج، وأنا بحاجة لأن أتخيَّل بأن يسوع قد أتى لزيارتي. يا لي من عجوزٍ خَرِفٍ!”. مع ذلك، وبعد أن قام بعمْل دزينة من القُطَب، شعر بشيء يدفعه للنظر، ثانيةً، خارج النافذة. فوجد أن ستيفانيتش قد أسند رفشه إلى الحائط، إما ليرتاح أو يحاول أن يدفىء نفسه. كان الرّجلُ طاعناً في السنّ ومُعتَلَّ الصحة، ومن الواضح أنه لم يكن يملك القوة الكافية لإزالة الثلج.
“ماذا لو ناديتُه ليشرب الشاي؟”، فكَّر مارتن. “لا يزال الإبريقُ يغلي”. علَّق مِخرزَه في مكانه ونهض واضعاً الإبريقَ على الطاولة بعد أن حضَّر الشاي، ثم نقر على الشباك بأصابعه. استدار ستيفانيتش واقترب من النافذة. أشار إليه مارتن لكي يدخل، ثم ذهب بنفسه ليفتحَ له الباب: “أُدخُل واستدفئ قليلاً. إنني متأكد من أنك تشعر بالبرد”.
“ليباركْكَ الله!”، أجاب ستيفانيتش. إن عظامي تتألم بالتأكيد…” بعد أن دخل بدأ، أولاً، بإزالة الثلج عن ثيابه، وخوفاً من أن يترك آثاراً على الأرض بدأ بنفض قدميه. ولكن، حين قيامه بذلك فقد توازنه وكاد يقع. “لا تُزعجْ نفسك بنفض قدميك”، قال مارتن، “سأنظِّف الأرض، هذا عمل يومي. تعالَ يا صديقي واجلس لشرب الشاي”. بعد أن ملأ الكوبين قدَّم واحداً لضيفه، ثم سكب كوبه في الصُّحفة وشرع ينفخ فيها. أفرغ ستيفانيتش كوبه، وبعد أن قلبه رأساً على عَقِب، وضع ما بقي من قطعة السكَّر خاصَّته على أعلاه. بدأ يُعَبِّر عن شكره، لكن كان واضحاً أنه يرغب بالمزيد.
“خذ لنفسك كوباً آخر”، قال مارتن ذلك وهو يعيد ملء كوب ضيفه وكذلك كوبه. لكنه، فيما كان يشرب شايه، استمر بالنظر خارجاً إلى الشارع. “هل تتوقَّعُ حضورَ أحد؟”، سأل الضيف.
“هل أتوقَّعُ حضورَ أحد؟ حسناً، أخجل أن أخبرك. ليس الأمر أنني أنتظر أحداً حقّاً. لكنني سمعت في الليلة الماضية ما لا أقدر أن أصرفه عن تفكيري. لا أستطيع معرفة ما إذا كانت رؤيا أم تخيُّلاً. في الليلة الماضية، أيها الصَّديق، كنت أقرأ الإنجيل، وكان يدور حول عذابات الرب يسوع، وحياته على الأرض. أظن أنك سمعت بهذا”.
“لقد سمعتُ بهذا”، أجاب ستيفانيتش، “لكنني رجل أمّي لا يعرف القراءة”.
“حسناً، لقد كنتُ أقرأ كيف عاش على الأرض. وصَلْتُ إلى الجزء حيث ذهب إلى الفريسي الذي لم يستقبلْه جيداً. إذن، يا صديقي، بعد أن قرأتُ ذلك، فكَّرتُ كيف أن ذلك الرجل لم يستقبل الرّبَّ يسوع بالإكرام اللائق. لنفرضْ أن أمراً كهذا حدث لرجل مثلي، فقد فكَّرتُ في ما يجب ألاَّ أفعله لاستقباله! لكن ذلك الرجل لم يُقِم له أيَّ استقبال. حسنا، يا صديقي، حين كنت أفكِّرُ بذلك بدأ يغلبني النعاس، فسمعتُ أحداُ يناديني باسمي. نهضتُ وأنا أفكر بأنني سمعت أحداً ما يهمس: <انتظرني، سآتي غدًا>. حدث ذلك مرتين. بالحقيقة، هذا الأمر، وبرغم خجلي من نفسي، نفد إلى أعماقي لدرجة أنني لا أزال أتوقع حضور الرب الحبيب!”.
هزَّ ستيفانيتش رأسه بهدوء، وبعد أن أنهى ما في فنجانه وضعه على جنبه، لكن مارتن أجلس الفنجان وأعاد ملأه ثانية: “هيا، تناول كوباً آخرَ، باركك الله”، وتابع: “وكنتُ أفكِّر، أيضاً، كيف عاش على الأرض دون أن يزدريَ أحداً، بل إنه غالباً ما كان يتواجدُ بين عامَّة الشَّعب. كان يتواجد مع الناس البسطاء، وقد اختار تلاميذه من بين مَن هم مثلنا، من بين العُمَّال الخطأة مثلنا. لقد قال: <من رفع نفسه اتضع، ومن وضع نفسه ارتفع> ، وكذلك قال: <أنتم تدعونني رباً، وأنا سأغسل أرجلكم>. وقال: <من أراد أن يكون أوَّلاً فليكن للكل خادماً، لأنهم مباركون أولئك الفقراء والمتواضعون وأنقياء القلوب والرحماء>”.
انشغل ستيفانيتش عن الشاي. كان عجوزاً سهل التأثر، فقد جلس يستمع والدموع تنهمر على خدَّيه. “تعال وتناول المزيد”، قال مارتن. لكن ستيفانيتش رسم على نفسه علامة الصَّليب شاكراً مارتن، ثم أبعد فنجانه ونهض: “شكراً لك يا مارتن أفداييتش، لقد منحتني الطعام والراحة لكِلَي النفس والجسد”.
“على الرحب والسعة. عدْ ثانية في وقت لاحق. إنني أُسَرّ باستقبال الضيوف”، قال مارتن. رحل ستيفانيتش؛ أما مارتن فقد صبّ ما تبقى من الشاي وشربه. ثم وضع أغراض الشاي جانباً وبدأ بالعمل في خياطة حذاء مواصلاً النظر خارجاً عِبرَ النافذة منتظراً المسيحَ ومفكّراً به وبأفعاله. كان رأسه ممتلئاً بأقوال المسيح.
مر جنديان: أحدهما مرتدياً حذاءاً حكومياً والآخَر حذاءاً عاديّاً؛ ثم مر أحد أصحاب البيوت المجاورة وهو ينتعل كلوشاً لامعاً (حذاء مطاطي يُلبَس فوق الحذاء العادي)؛ ثم خبّازٌ حاملاً سلّة. كلهم ذهبوا، ثم ظهرت امرأة بجوارب صوفية وحذاء قروي. مرت من أمام النافذة، لكنها توقفت بجانب الحائط. حدق مارتن إليها، فرأى أنها غريبة ترتدي ثياباً رثّة، وبين يديها طفل. توقفت بجانب الحائط مديرة ظهرها للرياح، وهي تحاول لفَ الطفل جيداً، رغم أنها بالكاد معها ما تلفّه به. كانت المرأة ترتدي ثياباً صيفية بالية وممزّقة. سمع مارتن الطفلَ يبكي، والمرأة تحاول تهدئته عبثاً. نهض مارتن وخرج من الباب صاعداً الدرجات منادياً إياها.
“يا عزيزتي، يا عزيزتي”، سمعت المرأة واستدارت. “لماذا تقفين خارجاً هناك ومعك الطفل في هذا البرد؟ أدخلي. بوسعك تغطيته بشكل أفضل في مكان دافئ. تعالي، من هنا”.
تفاجأت المرأة لرؤيتها رجلاً مسِنّاً يناديها مرتدياً مئزراً، وواضعاً نظارات على أنفه، إلا أنها تبعته.نزلا الدّرجات ودخلا الغرفة، فأشار العجوز على السرير: “اجلسي هنا يا عزيزتي، قرب المدفأة. استدفئي وأطعمي الطفل”.
“آه، لا حليب لدي. أنا نفسي لم أذق طعاما منذ الصباح الباكر”، قالت ذلك المرأة، لكنها أدنت الطفلَ إلى صدرها. هزّ مارتن رأسه، وقدم وعاءاً وبعض الخبز، ثم فتح باب الفرن وسكب بعضاً من حساء الملفوف في الوعاء. أراد أن يقدّم أيضاً قِدرَ العصيدة، لكنه لم يكن قد جهز بعد، لذا قام وفرش قماشةً على المائدة وقدم، فقط، الحساء والخبز: “اجلسي وكُلي، يا عزيزتي، وأنا سأهتم بالطفل. يا إلهي، لدي أولاد، وأعرف كيف أهتم بهم”.
رسمت المرأةُ علامة الصليب، وبعد أن جلست إلى الطاولة، بدأت تأكل، فيما وضع مارتن الطفلَ على السرير وجلس بقربه. ربّت تحت ذقنه وأعاد الكَرّة، لكن بدا أنه لم يقم بالعمل كما يجب واستمر الطفلُ بالبكاء. حينها حاول مارتن نقره بإصبعه، فوجّه إصبعَه مباشرة إلى فم الطفل ثم سحبه بسرعة، ثم أعاد الكَرّة أيضاً وأيضاً. لم يدَع الطفلَ يأخذ إصبعه في فمه، ذلك أنه كان مسودّاً من الصمغ الذي يستعمله كإسكافي. إلا أن الطفل بدأ بالهدوء في مراقبته الإصبع، ثم بدأ بالضحك. أما مارتن فكان في غاية السرور. كانت المرأة تأكل وتتحدث مخبرة إياه عمن تكون ومن أين جاءت. قالت: “إنني زوجة جندي، وقد أرسلوه إلى مكان ما بعيدٍ منذ ثمانية أشهر، ولم أسمع عنه شيئاً منذ ذلك الحين. عملتُ كطاهية حتى وُلِدَ طفلي، لكنهم لم يُيقوني في عملي مع طفل. منذ ثلاثة أشهر وأنا أكافح دون أن أجد مكاناً للعمل، وقد تعيّن عليّ بيع كل ما أملك من أجل الطعام. حاولتُ أن أعمل مُرضِعة، لكني رُفِضتُ بحجة أنني ضعيفة ومظهري يوحي بأني أعاني من الجوع. لقد أتيتُ للتو لرؤية زوجة تاجر تعمل لديها امرأة من قريتنا، وقد وعدَتْ بقبولي. ظننتُ أن الأمر قد سُوّيَ أخيراً، لكنها طلبت مني أن لا آتي قبل الأسبوع المقبل. المكان بعيد، وقد أُنهِكْتُ، والطفل يعاني الجوع، يا لَلصغير البائس. لحُسن الحظ أن صاحبة الفندق قد أشفقت علينا وسمحت لنا بالإقامة مجاناً، وإلا لست أعلم ما كنا سنفعل”.
تنهّد مارتن سائلاً: “أليس لديك ثيابٌ أكثرَ دفئاً؟”. أجابَت: “من أين لي الثياب الدافئة وقد رهنتُ، البارحة، آخِرَ شال لي بستة بنسات؟”. حينها جاءت المرأة وأخذت الطفل، فنهض مارتن، ثم توجه مفتشاً في أغراض كانت معلّقة على الحائط، وعاد بمعطف قديم. “هاكِ، رغم أنه شيء قديم مهترىء، لكنه يفيد في تغطية الطفل”.
نظرت المرأة إلى المعطف، ثم إلى الشيخ، ثم أخذته وأجهشت بالبكاء. ابتعد مارتن، ثم تلمّس تحت السرير وأحضر صندوقاً صغيراً. بحث فيه، ثم جلس، ثانيةً، قبالة المراة. فقالت المرأة: “باركك الله يا صديقي. من المؤكّد أن المسيح قد بعثني إلى أمام شبّاكك، وإلا لكان الطفلُ تجمّد. كان الطقس معتدلاً عندما انطلقتُ، لكن أنظر الآن كيف أصبح. حتماً لا بد أن المسيح هو مَن جعلك تنظر عبر النافذة وتتحنن علي، أيها البائس”.
ابتسم مارتن قائلاً: “هذا حتماً صحيح، إنه هو مَن جعلني أفعل ذلك. لم تكن مجرد صدفة جعلتني أنظر خارجاً”. ثم أخبر المرأة عن حلمه، وكيف سمع صوت السيد يَعِده بزيارته في ذلك اليوم. “مَن يدري؟ كل شيء مُحتمَل”، قالت المرأة. ثم نهضت ووضعت المعطف على كتفيها مُغطية نفسها والطفل. ثم انحنت وشكرت مارتن مرة ثانية.
“خذي هذا من أجل المسيح”، قال مارتن، وأعطاها ستة بنسات لتستعيد شالها من الرهن. رسمت المرأةُ نفسَها بعلامة الصليب، وكذلك فعل مارتن، ثم خرجت. بعد ذهابها، تناول مارتن بعضاً من حساء الملفوف، ثم قام بتنظيف أغراضه، وجلس مُجدّداً للعمل دون أن ينسى النافذة. وفي كل مرة كان يقع عليها ظلّ ما كان ينظر حالاً ليرى مَن الذي يمر. مرّ عدد من معارفه ومن الغرباء، لكن لا أحد إستثنائي. بعد بُرهة شاهد مارتن بائعة تفّاح قد وقفت بالضبط قبالة نافذته. كان تحمل سلة كبيرة يبدو أن القليل فقط قد بقي فيها. من البديهي أنها قد باعت أغلب ما لديها. على ظهرها كانت تحمل كيساً مملؤاً من شظايا الخشب لتأخذها إلى البيت. لا شكّ أنها قد جمعتها من مكان ما فيه ورشة بناء. من الواضح ان الكيس كان يسبّب لها ألماً، إذ كان عليها نقله من كتف لأخرى، فوضعته على ممر المشاة أما سلّتها فوضعتها على مكانٍ عالٍ، ثم أخذت تهزّ الخشب الذي في الكيس. فيما كانت تفعل ذلك مر ولد يعتمر قبعة بالية راكضاً، واختطف تفاحة من السلة وحاول أن يلوذ بالفرار. لكن المرأة العجوز لحظت ذلك، فاستدارت وأمسكت بالصبي من كُمه. فبدأ يكافح محاولاً تحرير نفسه، إلا أن العجوز أمسكته بكلتي يديها، وأطاحت القبعة عن رأسه، ثم أمسكت بشعره. كان الولد يصرخ والعجوز تعنّفه. أسقط مارتن مخرزه، ودون أن يحاول إعادته لمكانه، اندفع خارج الباب. تعثّر على الدرجات مما أسقط نظاراته، وركض خارجاً إلى الشارع. كانت العجوز تشد الصبي بشعره وتعنّفه، مهدِّدة إياه بأخذه إلى الشرطة. كان الغلام يقاوم شاكياً: “لم آخذْها. لماذا تضربينني؟ دعيني أذهب”.
قام مارتن بتفريقهما، وأمسك الصبيَّ بيده قائلاً: “دعيه يذهب أيتها الجدة. سامحيه من أجل المسيح”. فأجابت غتضبة: “سوف أجعله يدفع الثمن، فلا ينسى ما حدث لعام كامل! سآخذ الوغد إلى الشرطة”. بدأ مارتن يتوسل إلى العجوزَ قائلاً: “دعيه يذهب أيتها الجدة. لن يفعلَها ثانية. دعيه يذهب من أجل المسيح”.
أفلتته العجوزُ، فاراد الولد أن يهرب، لكن مارتن أوقفه: “أُطلب السماح من الجدّة. ولا تفعل هذا ثانية، فقد رأيتك تأخذ التفاحة”. بدأ الولد بالبكاء والإعتذار. “عظيم! وهذه تفاحة لكَ”، وأخذ مارتن تفاحةً من السلة وقدمها للصبي قائلاً: “سأدفع لكِ أيتها الجدة”.
“ستقوم بإفسادهم بهذه الطريقة، هؤلاء الأوغاد الصغار”، قالت العجوز، “يجب أن يُجلَد فلا ينسى ما حصل طوال الأسبوع”. أجابها مارتن: “آه أيتها الجدة، هذه طريقتنا، لكنها ليست طريقة الله. إذا كان سيُجلَد من أجل سرقة تفاحة، فما هو مصيرنا بسبب خطايانا؟” كانت العجوز صامتة. أخبرها مارتن مَثَل السيد الذي صفح عن خادمه من أجل دَين كبير، وكيف أن ذلك الخادم خرج وأمسك بعنق رفيقه الذي له عليه دين. أصغت العجوز إلى المَثَل كلِّه، وكذلك الولد وقف بجانبها مُصغياً.
قال مارتن: “الله يدعونا للغفران، وإلا فلن يُغفرَ لنا. سامحوا الجميع، وخاصة يافعاً عديم التفكير”. هزّت العجوز رأسَها متنهّدةً. “هذا صحيح جداً، لكنهم ينفسدون بشكل رهيب”. “حينها، علينا نحن الكبار أن نُريَهم طُرُقاً أفضل”، أجاب مارتن.
قالت العجوز: “هذا بالضبط ما أقوله، لدي سبعة منهم، وقد بقيت فقط فتاة واحدة”. فبدأت العجوز تروي كيف وأين كانت تعيش مع ابنتها، وكم لديها من الأحفاد. “لم يبق لي، الآن، إلا قليل من القوة، إذ إنني أعمل جاهدة من أجل أحفادي، إنهم أولاد جيدون. لا أحد يخرج لملاقاتي إلا الأولاد. الصغيرة آني لا تبقى إلا معي. <إنها جدتي، جدتي العزيزة، جدتي الحبيبة>”. كانت العجوز قد لانت بالكلية بعد هذه الأفكار. “إنها، بالطبع، حماقته الصبيانية، ليكن الله في عونه”، قال مارتن متحدثاً عن الصبي.
فيما كانت العجوز على وشك حمل الكيس على ظهرها، توجه الغلام إليها قائلاً: “دعيني أحمله عنك يا جدتي، طريقي في الإتجاه نفسه”. هزّت العجوز رأسها، ووضعت الكيس على ظهر الصبي، ثم توجها سوية نزولاً في الشارع. أما المرأة فقد نسيت تماماً أن تطلب ثمن التفاحة من مارتن. وقف مارتن يتأملهما يسيران وهما يتحدثان.
عندما تواريا عن الأنظار، عاد مارتن إلى المنزل. بعدما اكتشف أن نظارتيه لم تُكسَرا في وقوعهما على الدرجات، التقط مخرزه وجلس ثانية للعمل. عمل قليلاً، لكنه سرعان ما عجز عن الرؤية لإدخال الخيط السميك في فَتحات الجِلد. حينها شاهد مُشعلَ مصابيح الشوارع في طريقه لإضاءة المصابيح. “يبدو أنه وقت إشعال المصابيح”، فكر مارتن. فهيأ مصباحه وعلّقه، ثم جلس ثانية للعمل. أنهى حذاءً، فأخذ يقلِّبه متفحِّصاً إياه. كان جيداً. جمع أغراضه، وكنس القُصاصات، ووضع، جانبا،ً الخِيطان والمخارز، ثم أنزل المصباح واضعاً إياه على الطاولة. بعدها تناول الإنجيل عن الرّف. كان يريد أن يفتحه حيث وضع فيه علامة من الجلد المراكشي في اليوم السابق، لكن الكتاب فُتِح على مكان آخر. فيما كان مارتن يفتحه، عاد إلى تفكيره حلمُ البارحة، وما أن بدأ بالتفكير به حتى لاح له أنه يسمع وقْعَ خطوات كما لو أن أحدهم يتحرك وراءه. استدار مارتن، فبدا له أن أشخاصاً يقفون في الزاوية المظلمة، لكنه لم يستطع تمييزَهم. وصوت همس في أذنه: “مارتن، مارتن، ألا تعرفني؟”
“من هنا؟”، غمغم مارتن، “إنه أنا”، قال الصوت. ومن الزاوية المظلمة خرج ستيفانيتش مبتسماُ، وتوارى كالدخان. “إنه أنا”، قال الصوت ثانية، ومن الظلمة مشت امرأة تحمل طفلاً على ذراعيها، ابتسمت المرأة وضحك الطفل، ثم تواريا أيضاً. “إنه أنا”، قال الصوت مرة أخرى، ومشت العجوز وصبي التفاحة وهما يبتسمان، ثم تواريا أيضاً.
كانت نفس مارتن في فرح مُطَّرد. رسم على نفسه إشارة الصليب، ثم وضع نظارتيه، وبدأ بقراءة الإنجيل بالضبط حيث كان مفتوحاً. وفي أول الصفحة قرأ: “كنتُ جائعاً فأطعمتموني، كنتُ عطشاناً فسقيتموني، كنتُ غريباً فآويتموني”. وفي نهاية الصفحة قرأ: “كل ما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي فعلتموه”. وأدرك مارتن بأن حلمه قد تحقّق، وبأن المُخَلّص زاره بالفعل في ذلك اليوم، و قد استقبله.