الراهب والحمقى
نقلها إلى العربية الأب أثناسيوس بركات
نعِم دير سيخاستريا، وأديرة أخرى في أنحاء رومانيا، بفترة من السلام النسبي والنمو الروحي. في ذلك الوقت الوجيز لم تكن هذه الأديار تتعرّض كثيراً لهجمات السلطات المدنية الملحدة التي كانت تجتاح البلاد. على أي حال، تبيّن لاحقاً أنّ ذاك كان الهدوء الذي يسبق العاصفة لأن هجوماً رهيباً شيطانيّاً على كنيسة المسيح كان يلوح في الأفق. لقد توحّدت جهود الإلحاد والهرطقة الآتية من أوساط متعددة لضرب الأرثوذكسيّة. لم يكن هذا الأمر جديداً على الكنيسة لأنّه، خلال سِنِي الأرثوذكسيّة الألفين، لم تَحِد عين الشرّير بل كل ما كان يقوم به هو أن يزيد أو يقلل من هجماته على الكنيسة الرسوليّة. لقد عانت الكنيسة باستمرار من نوع أو أكثر من الهجوم والاضطهاد. دائماً كانت تُضطهَد، ولكنها كانت في أمان بين يدي الله من خلال صلوات القدّيسين، فبقيت حيّة ومنتصرة، واستمرّت بكونها فُلك خلاصنا.
في سنة 1957 شعر الأب كليوبا، مسبقاً، بالهجمة الكبيرة المقبلة: كان عليه التوجه من باسكاني إلى باكو بالقطار، فوجد نفسه في إحدى المقطورات مع مفكرين عصريين وضباط من الجيش. كان هؤلاء الرجال قد لُقِّنوا بأن الكنيسة لم تكن سوى نظام من الأساطير. ومن هم فيها، خاصة الكهنة، يجب أن يُشتَموا عند كل فرصة. كما كان سيحدث في التجربة الأعظم التي ستأتي لاحقاً،إذ أثبتب خبرة الأب كليوبا في القطار أن أبواب الجحيم لن تقوى على وداعة المسيح وقوّته.
عندما وجد الشيخ نفسه برفقة هؤلاء المجاهرين بإلحادهم في ذلك المكان، لم يَخَف، بل فكّر في نفسه ببساطة : “راهب في مقصورة قطار مع ضباط عسكريين! أي نوع من الحوار ممكن أن يكون بيننا؟” فقرّر البقاء صامتاً وبدأ بالصلاة الداخليّة حتى تمضي الساعتان اللتان تستغرقهما الرحلة.
لم يستطع أحدهم مقاومة فرصة الهزء بالكنيسة، فقال للآخرين: “أوه، أُنظروا! لن تحدث أيّة مشكلة للقطار طالما أن البوبا (الأب في الرومانية) راكب فيه”. فال هذا بمنتهى السخرية، فقد كانت هناك خرافة شائعة في ذلك الوقت، قد روّج لها الشيوعيّون بالطبع، بأنّه إذا ما اجتاز كاهن فناء بيتك فستأتي المشاكل حتماً. فهم الأب كليوبا بأنهم كانوا يحاولون الحصول على ردّة فعل من قبله، لذا بقي صامتاً. لكن الرجل استمر: “اسمعوا! بما أنه يوجد كاهن هنا، ألن يكون من الطريف أن نجعله يروي تلك القصّة عن الله؟ إنهم يحبّون أن يخبروا بأن أحد الرجال الغريبيّ الأطوار قد خلق السماء والأرض والنجوم إضافة إلى الجبال والمحيطات”.
لم يصدّق الأب كليوبا أذنيه عندما سمع ذلك التجديف: إن الرجل يتكلّم عن الله كرجل غريب الأطوار. رغم ذلك بقي صامتاً، وقال في نفسه: “دعهم وشأنهم. إنهم ضباط في الجيش يحبون الضحك والمزاح. ماذا يمكن أن أقول لهم؟”.
لكن عندئذ جاء واحد منهم وجلس مياشرة مقابل الأب كليوبا في تلك المقصورة الصغيرة وسأله من أين هو. لم يشأ الشيخ الإفصاح عن أنه من سيهاستريا، لذا قال بأنه من أحد الأديار التي قرب نيمتس.
“من أنت: أكاهن أم بروفسور أم أستاذ؟” سأل الرجل. لو كان قد تكشّف للرجال أن هذا هو الأب كليوبا الذي من سيهاستريا لكانوا قد عرفوه من اسمه. إلاّ أن الأب كليوبا أجاب بتواضعه المعهود: “لست سوى راهب بسيط عليه أن يسافر الآن إلى باكو”
“إسمع! قال الرجل “هؤلاء لديهم الحشرية ليسمعوك تخبرنا شيئاً عن الله. كيف هو الأمر مع الله؟ كتابكم المقدّس يقول بأن الله صنع السماء والأرض وكلّ العالم، لكن لدينا أفكار أخرى عن هذا الموضوع”
أجاب كليوبا: “أرجو أن تعذروني. إنني راهب بسيط، ولكن حتى ولو بدأت بإخباركم عن الله، فإن هذا القطار سيدور حول العالم ثلاث مرات، ولن أكون قد انتهيت، لأن هناك الكثير لأقوله.”
قال ضاحكاً: “ها سمعتم ما قاله الكاهن؟ هيّا، نريد أن نعرف. إنك راهب ونحن ضبّاط، وكلنا ذاهبون إلى باكو. هيا، كيف حدث الأمر يا أبتِ؟”
قبل أن يبدأ بالكلام، وقف الأب كليوبا ورسم إشارة الصليب. من البديهي أن الآخرين لم يقوموا بالشيء نفسه. “إنها مشكلتهم” فكّر الشيخ في نفسه وهو يلاحظ عدم احترامهم للصلاة واستخفافهم بها.
وقف أحدهم وهو برتبة رائد، وسأل: “أنظر أيها الأب، علي أن أخبرك شيئاً. أليس أمراً منافياً للعقل أن يتوقع منا الإيمان بشيء لا يُرى؟ أنت تقول بأن الله موجود، لكن هل رآه أحدٌ؟ إنه من الجنون أن يؤمن أحدهم بشيء لا يُرى.”
“أيها السادة، أولاً، أريد أن تؤكدوا لي بأننا سنناقش باحترام، كون هذه المسألة غايةً في الجدّية”، أجاب الأب كليوبا.
“طبعاً، أيها الأب” قال مستهزئاً، “لمَ لا؟ إذا شعر أحدهم بالإنزعاج، تكون مشكلته!”.
بدأ الأب كليوبا الكلام بحكمته الكبيرة: “أرى أنّكم رجال أذكياء، إلاّ انني بسيط جدّاً. رغم ذلك سوف أبدأ، كما قلتم، بـ”القصة” عن الله كما نفهمها نحن. أنظروا أيها السادة، علي القول بأنكم، كلكم في هذه المقطورة، حمقى”.
“هل سمعتم ذلك، لقد نعتنا الكاهن بالحمقى”
“بالطبع! وإذا ما وجدتم بأنني مخطئ في هذا الموقف، فعندما نصل إلى أول محطة سلموني للبوليس. لكن أولاً سوف أريكم لماذا قلت أنكم حمقى”
سألوا: “من الغباء المطلَق أن يؤمن أن يؤمن أحدهم بما لا يراه. من الذي رأى الله؟”
توجه الأب كليوبا في حديثه إلى الآخرين في المقطورة قائلاً: “أسمعتم أنه قال بأنه من الجنون الإيمان بما لا يُرى؟ حسناً، قبل كل شيء، يقول الروح القدس في المزامير في أول المزمورين 13 و52” قال الجاهل (أو الأحمق) في قلبه ليس إله “ألم تقولوا أنه من الغباء الإيمان بما لا يُرى؟”
“نعم، هذا ما قلته”.
“حسناً، سوف أخبركم بأكم أنتم الحمقى. أنتم جميعاً أغبياء. وسوف أخبركم بأنه لي كامل الحق بقول هذا. لم أرَ عقل أيّ إنسان مطلقاً! لذا، وبحسب ما صرّحتم به بأنكم لا تستطيعون الإيمان بما هو غير منظور، أفلا يكون، حينها، من الجهل والغباء بالنسبة لي أن أؤمن بأن لكم عقلاً طالما أنني لم أره؟”
“حسناً سجّلوا نقطة للكاهن” قال أحدهم.
توسّع الأب كليوبا في حجته قائلاً: “كيف يمكنني الإيمان بأنّ لكم عقلا إذا لم أكن قد رأيته؟ لم أرَ عقلكم أو عقلي. كيف هو لونه؟ هل هو أبيض، أسود، أحمر، أخضر؟ ما هو شكله: مربع، مثلث، خماسي الأضلاع؟ أخبروني أيها السادة. أخبروني كيف يبدو. هل هو ذو رقائق أم قاسٍ؟ إذا كنتم تستطيعون ان تبينوا لي هذه الخصائص الفيزيائية عن العقل، فلسوف أقول بأن لديكم عقلاً. أما إذا لم تقدروا على تبيان ذلك، فإن ذلك يعني، وبحسب ما صرحتم به، بأن ليس لكم عقل”.
عند هذه النقطة بدأ الرجال باتهام بعضهم البعض بعدم صياغة نقاطهم في كلمات أخرى، وصار ينعت كلٌ منهم الآخر “بالأبله”. فبدأ يدركون أنهم يقابلون نداً لهم في شخص هذا “البوبا” البسيط.
تابع الأب كليوبا قائلاً: “إذاً سوف نتابع مُقِرّين بأن لكل واحد عقلاً. أليس كذلك؟ نحن نوافق على ذلك، حتى ولو لم نستطع رؤية العقل. دعونا ننتقل إلى نقطة أخرى: هل رأيتم الحياة؟ من سبق له أن رأى الحياة في الإنسان؟ هل سيقول أحد بأنّ شخصاً ما مَيْت عندما يكون من الواضح أنه حي؟ ومع ذلك، هل تستطيعون رؤية الحياة الحقيقية؟”
“حسناً، لا، ليس ذلك بالإمكان”، قالوا مقرّين.
“لكن الحياة، أبتِ، شيء جلي”.
“عظيم” أجاب الأب كليوبا “من خلال تجلياتها نستطيع أن نصدّق أن الحياة موجودة حتى ولو لم نستطع، بالحقيقة، رؤية الشيء الذي نسمّيه الحياة. هكذا الأمر مع الله”.
ثم بدأ الأب كليوبا بتعليمهم حول الحقائق المتعلقة بالنفس مدركاً أنه، بذلك، قد طرق موضوع اللاهوت الحقيقي: “ما هو تجلي الله في هذا العالم؟ هل لديكم مخيلة؟ هل تشعرون بالغضب؟ هل رأيتم الغضب؟ هل لديكم أفكار؟ هل رأيتم الأفكار من قبل؟ هل لكم رغبات؟ إنكم جميعاً تملكون هذه الأمور لأنها حقائق عن النفس تتضمن خصائص فطرية”.
“كلكم لديكم، في أجسادكم، إمكانية النمو، فهل سبق ورأيتم النمو؟ هل تعرفون كيف يكون نموكم؟ بالإضافة لذلك، لديكم قوى النفس كالتفكير والاختيار واتخاذ القرارات والحزن والفرح، لكن هل رأيتم، مرة، هذه الأشياء المتعلقة بالنفس؟
“تخبرنا الكتب المقدسة بأن الإنسان هو على صورة الله ومثاله. ليس هذا بحسب الشكل الخارجي، بل بحسب الروحي. أنظروا كم تملك النفس من قوى. لم تروا الغضب أو العقلانيّة أو الرغبة أو الفرح أو الحزن أو المخيلة أو الإرادة أو الحياة أو حتى العقل، ورغم ذلك فإنها، جميعاً، موجودة. حتى الفلسفة الوثنية تُعَلِّم بأن كل ما ذكرناه يتعلّق بالنفس. لكن، هل قد رأتهم، مرّة، النفس؟”
“هذه نقطتنا بالضبط” أعلن الرجال، “لا يمكن أن تُرى لأنها لا توجد”.
“كيف تقولون هذا؟” سأل الأب كليوبا، “إذا لم يكن لكم نفس، فلن يكون بإمكانكم حتى مخاطبتي. لن يكون بإمكانكم أن تطرفوا بأجفانكم بدون الله إذا لم يكن فيكم حياة. كل وظائف النفس: الحياة، الفكر، الإرادة، المنطق، الغضب، الفرح، كل شيء هو غير منظور، وكل هذه الوظائف التي هي على صورة الله ومثاله غير منظورة لأن الله غير منظور. إلا أن الإنسان هو نموذج وصورة الله على الأرض، خاصة من ناحية حصائص النفس أي الفكر والكلمة والروح.”
“هل قد رايتم، مرة، الكلام؟ أو الروح التي بها تتكلمون؟ أنظروا كم يوجد من الوظائف غير المنظورة في نفسكم. لم تروها ابداً، لكنكم تعلمون أنها موجودة”.
بدأ أحد الرجال يتيقن بأنه ليس هناك من طريقة يستطيعون بها أن يخرجوا ظافرين في هذا النقاش: “همم! كان من الأفضل لو بقينا صامتين! ربما يكون هذا الرجل مدير معهد اللاهوت أو أي شيء آخر”.
ثم قرّر أحدهم، وهو طبيب، بأنه يستطيع الحصول على الأفضل من هذا الراهب البسيط، “أبت، لننتقل من هنا ونترك الآخرين وشأنهم. اسمع، إنني رائد وطبيب. لقد أجريت عمليات لا عدّ لها، وأعلم كل ما في داخل الإنسان بما أنني جراح منذ أكثر من ثلاثين سنة، لكنني لم أرَ النفس. فكيف يمكنني أن أؤمن أنها موجودة داخل الإنسان إذا لم أصادفها خلال كل هذه العمليات الجراحيّة؟” حينها، وجّه الأب كليوبا كل انتباهه نحو الطبيب: “أنت طبيب ولا تؤمن بوجود النفس من خلال إجرائك لكل هذه العمليات الجراحيّة؟”
“هذا صحيح”
“ولكن، هل تؤمن أنت والأطباء الآخرون بأن العذاب موجود في العالم؟”
كان الطبيب قد وقع أسير الأب كليوبا.
“بالطبع إنه موجود يا أبت”
أطرق الأب كليوبا هنيهة ثم قال: “أنا لا أؤمن أن العذاب موجود. من الغباء أن يكون لك إيمان بشيء كهذا يا سيّدي لأنني لا أقدر أن أرى ما تسمّيه عذاباً أو ألماً”
“آه، لكنه حتماً موجود” قال الطبيب بإصرار.
“عندما تجرح أحدهم بمبضعك ويصرخ، أو عندما يعاني وهو في قبضة الموت، فهل تكون قد رأيت الألم؟”
“ليس الألم شيئاً تستطيع أن تراه” أجاب الطبيب
“ولكنك تريد أن ترى النفس؟ الألم واحد من وظائف الجسد، إنه طبيعي بالنسبة للإنسان، وهو مندمج مع هذه المظاهر التي تتعلق بالنفس. فكما أنك لا تستطيع رؤية الألم فإنك، أيضاً، لا تستطيع أن ترى النفس. من الذي قذ رأى الألم؟ لكن الكلّ يعلم أن الألم موجود”
بدأ رفاق الطبيب يسخرون منه ” لقد أخرسك الكاهن، أليس كذلك؟”
أحد الضباط الذي تمنى لو لم تبدأ تلك المناقشة قال للآخرين: “لقد صادفنا شخصاً سيِّئاً هنا”.
لكن آخراً كان قد بدأ يرى شعاعاً من النور الحقيقي قال: “إنتظروا يا شباب. إنه شيء من الحسن أن نسمعه. بمقدورنا القول للآخرين بأننا قد تعلمنا من الكاهن. إستمر با أبت، أخبرنا بالمزيد”
إلا أن أحدهم قال للأب كليوبا قبل أن يتسنّى له البدء: “نحن نعلم با أبتِ بأن الكنيسة قد جابهت العلم باستمرار. لقد أطلق الروس، بنجاح، الإنسان إلى الفضاء. لقد دار يوري غاغارين حول الأرض ثلاث مرات وحَطّ بأمان”
“ما علاقة هذا بما قلناه؟” سأل الأب كليوبا: “لم أبرهن أية نقطة مما ذكرت”.
“إنها ثمار وبرهان غلبة العلم على الدين” قال الضابط، “انك اليرهان بأن الكنيسة هي ضد العلم وذلك بقولك بأنها قدمت البرهان على لا شيء. إنكم جميعاً مثل الحمقى الذين وفقوا ضد غاليليه.”
في تلك اللحظة كان ذلك “الراهب الراعي البسيط” الذي من سيهاستريا على وشك أن يخجل أولئك القوم المتعلمين “دعوني أشرح هذه الأمور قليلاً. إذا ما ابتعدت نحلة عن قفيرها وطارت حول الحقل الذي يوجد فيه هذا القفير، فهل تستطيع تلك النحلة الافتراض أنها تعرف كل شيء عن هذه العالم؟ بالطبع لا. وهذا بالضبط ما يفعله الإنسان. لقد خرج من قفيره ودار حول الحقل الذي يعيش فيه وهو الآن يظن أنه قد قام بشيء مميز. البعوضة التي تتنقل من أصبع إلى أخرى تنجز أكثر مما فعله الإنسان بعلمه في الشرق والغرب. “لكن انتظروا قليلاً، هناك المزيد لأقوله. أكنتم تعتبرون هذا الكلام جميلاً أو مرّاً أو حلواً، فإني أريد أن أكمل شرحي بقدر الإمكان قبل أن نصل إلى باكو. أيها السادة، هل تستطيعون تمييز الدب الأكبر والدب الأصغر والنجم القطبي في الليل؟”
“طبعاً”
“يخبرنا علم القلك، في التقدم الذي أحرزه، بأن على الضوء المسير 1300 سنة ضوئية من أول الدب الأكبر حتى يصل إلى آخره. بما أن الضوء ينتقل 300،000 كلم بالثانية، فهل تتخيلون كم من المسافة توجد بين أول نجم في الدب الأكبر وآخر نجم؟، أو من أول نجم حتى البريبالوس”
“وما هو البريبالوس؟” سأل الرجال وهم مأخوذون بالكلية بما قاله الأب كليوبا.
“إنه نجم غاية في الصغر يكمن هناك. ما أرمي إليه هو: أخبروني، كم هي المسافة بين طرفي الدب الأكبر؟”
“هذا أمر مثير” قال الرجال متسائلين: “من الذي اكتشف كل هذا؟”
“عالم فلك من القرن الماضي يدعى كميلفلاماريون. لقد قرأت هذه الإكتشافات في كتاب عنوانه “الله والطبيعة”. لكن دعونا نتسمر الآن في موضوعنا: هل لاحظتم، مرة، نجماً يبدو وكأنه يرقص، تماماً عند هبوط الليل وبدء ظهور النجوم؟ أنه ألفا سانتورا. يقول علم الفلك بأنه أقرب نجم إلى مجموعتنا الشمسية، ورغم ذلك يلزمنا مليون سنة ضوئية للوصول إلى هذا النجم. والآن، أنظروا، يا سادتي، إلى كلّ هذه الصور والمقاييس وأخبروني عن الإنجاز العظيم الذي حققه يوري غاغارين”
“حسناً، بالحقيقة أنه ليس سوى نقطة في بحر” قالوا معترفين.
“إن محيط الأرض يقارب ال36،000 كلم. هل يقارن بملايين السنوات الضوئية التي تقع بين أقرب نجم وأرضنا؟”
“بما أننا تكلمنا عن كل هذا فدعونا ننتقل إلى موضوع أكثر خطورة في نقاشنا. لم يُظهر الله أعماله في الأشياء العظيمة فقط بل في الدقيقة أيضاً وذلك بحسب القديس نيقوديموس الآثوسي. تخيلوا أن خرم الإبرة يحوي ثمانية ساكستيلون ذرة. هذا رقم ضخم. عندما نكتب الساكستيليون فإننا ندون رقماً يتبعه 21 صفراً. فمن أراد إحصاء الذرات في خرم الإنرة عليه أن يبدأ العد بما يفوق المليون عدداً في الثانية، ولسوف يلزمه 250 سنة حتى ينتهي. أخبروني، إذاً، هل تقارن عظمة العلم بحقيقة أن الله قد وضع هذا العدد من الذرات في فسحة هي خرم الإبرة!”
“دعونا نتابع في أمر أكثر إعجازاً. يوجد 16 بليون إيون على رأس الإبرة. لقد أعلن كميل فلاماريون هذه الحقائق جاذباً انتباه معاصريه من الملحدين كونهم ارادوا خلق كائن حي. هذه المحاولات هي عقيمة لأن الله وحده يستطيع خق الحياة. كم تظنون يبلغ حجم هذه الأيونات؟ إذا كان لديكم عدسة مكبرة تستطيع جعل البرغوث يبدو بحجم مدينة سياهلو، فتظلون عاجزين عن مشاهدة الإيون. ولكن رغم صغر هذه الأيونات فهي حيّة”.
“تردد فلامريون عن الإفصاح أن الله موجود في كل جسم أو نبتة لأن ذلك كان يُعتبر هرطقةٌ تسمى الحلولية! لكنني سأضع الأمر على هذا النحو: إن الله موجود في كل خلائقه كونه جعل الحياة في كل ما هو موجود، وحتى في أصغر الكائنات المجهرية”.
“أيضاً علينا الإنتباه ألا نبدو حلوليين (الحلولية مذهب يقول بأن الله والطبيعة شيء واحد، وبأن الكون المادي والإنسان ليسا إلا مظاهر للذات الإلهية.)، لذا فإننا لا نقول بأن الله هو روح الطبيعة. نحن نقول بكلمات القديس بولس الرسول بأن الله موجود لأن به كل الأشياء توجد”
أيقن الأب كليوبا أنهم قد بدأوا للتو نقاشهم، لكن كان عليه أن ينهيه لأنهم كانوا قد بدأوا يقتربون من محطة باكو. لذا قال لهم: “يجب أن تفهموا، أيها الإخوة، إنه لا يمكنكم أن تطرقوا بأجفانكم بدون الله”.
“لماذا؟ أبت؟” سألوا بأسلوب أقل عدائية من قبل، وفيه صدق لمعرفة الحقيقة.
“الحياة منحة من الله المانح الحياة. فإذا مُتُّم لا يمكنكم أن تطرفوا عيناً”. كان قد مضى النقاش أكثر من ساعتين. إضافة إلى النقاط المذكورة سابقاً، فقد استشهد الأب كليوبا بشكل واسع بكتابات القديسَين يوحنا الدمشقي وباسيليوس الكبير. في ترجّلهم من القطار، كان الرجال آسفين لتركهم الأب كليوبا. قام العديد منهم بمعانقته، آخرون قدموا له بعض الفاكهة والحلوى. إلاّ أن الظاهرة الأكثر تأثيراً كانت أن العديد منهم أعطاه لوائح بأسماء أشخاص لذكرهم في الذبيحة. هؤلاء الرجال، الذين كانوا قد إدّعوا أنه لا وجود لله، أصبحوا الآن يسألون الشيخ أن يصلي من أجلهم ومن أجل أحبّائهم.
“أبتِ، نريد مراسلتك. لكن أخبرنا من أنت: لا بد وأنك استاذ أو مدير لكليّة اللاهوت.”
“لقد أخبرتكم أنني لست سوى راعٍ بسيط في دير. إذا ما أردتم أن تسمعوا أموراً عظبمة ورائعة فما عليكم إلاّ أن تقابلوا أسقفاً ورئيس دير. حينها ستكونون مبهورين بروعة الأشياء التي سيخبرونكم عنها. لست سوى راعٍ وراهب غير متعلم، لكن الأساقفة قد تلقّوا علوماً فأضحوا يعرفون كيف يتكلمون ويفسرون”
اقتنع الرجال. “ما قيمة حياتنا؟ لسنا سوى حمقى! إنظروا إلى ما أخبرنا به هذا الراهب”
لقد أظهرت تلك المناقشة التي قام بها الأب كليوبا في القطار بأنه، بالرغم من أن قوى الظلام تسعى لدحر الكنيسة وتدميرها، إلا أن أبواب الجحيم لن تقوى عليها. ذلك النقاش الذي دام ساعتين بين العسكريين المفكرين والراهب – الراعي البسيط الذي من سيهاستريا كان، بمعنى ما، صورة للشعب الروماني تحت التسلّط الشيوعي وللغلبة على ذلك الطغيان. لقد جرت تلك المناقشة سنة 1957، لكن الكنيسة الرومانية والشعب كانوا قد تحملوا تجارب رهيبة قبل أن يُرفع عنهم، في النهاية، نير الإلحاد.
إن الاضطهاد المذكور آنفاً، والذي كان يلوح في الأفق، كان على وشك أن يُشَنّ ضد خدّام المسيح.