من كتاب ثمار الروح – الفصل الثاني
كالينيكوس مطران بيريا
نقلته عن اليونانية: ماريّــا قبارة
فلتكن محبتنا بالعمل والحق
المحبة ليست بالأقوال، بل هي حياة وتتوضح في العناية المستمرة مع الآخر، هذا الاهتمام الذي يفرض عملاً يتمه بالاحتياجات الماديّة والنفسية للقريب “يا بني لا تكن محبتنا بالكلام ولا باللسان بل بالعمل والحق” (1يو18:3). تحتاج المحبة أيضاً إلى اللسان عندما يكون القريب بحاجة إلى المشورة فيتعزى بالكلام، فهي تعلّم الجاهل وتصلح الشباب وتزامل الإخوة المتخاصمين المتعاركين…الخ، فتكون الأقوال هنا أفعالاً، وهي أعمال تضحية وتعب. لكن، عندما يجوع الآخر ويتعرى ويكون عاطلاً عن العمل أو مريضاً ولا يملك دواءً أو أجرة الطبيب ليتطبب لا تجد الأقوال لها مكاناً، فالمحبة بالأقوال في هذه الظروف سطحية باطلة، بل هنا تحتاج المحبة إلى أعمال، تحتاج تضحية بالمال أو تضحية بالراحة وهنا فقط نطبّق المحبة “فإن كان فيكم أخٌ عريان أو أخت عريانة ينقصهما قوتُ يومهما وقال لهما أحدكم: “اذهبا بسلام فاستدفئا واشبعا” ولم تعطوهما ما يحتاج إليه الجسد فماذا ينفع قولكم؟” (يعقوب15:2، 16).
القريب ليس فقط جسداً
محبتنا لا يجب أن تقتصر فقط على الاحتياجات الماديّة والدنيوية للقريب، بل أن تتحول أيضاً إلى احتياجات أخينا النفسية. قطعة صغيرة من الخبز الكل يقدر أن يعطيها، أمّا الاستنارة وخوف الله من يعلمّها؟ كم تثمر المحبة عندما تقود أحدهم للاعتراف من لم يتعلّم حتى اليوم غسل النفس، أو أن تحضر للمسيح شاباً زلَّ وعثر في متاهات الجهل وعدم المعرفة، أو أن تنير نفساً ماكثة في عالم ظلمة الخطيئة، أليس هذا عمل محبة، هو أفضل تقدمة وعمل للقريب.
كيف تقدر أن تحبّ وتبقى هادئاً عندما يعيش الآخر بعيداً عن حضن وحنان الله؟ عندما يتمرّغ في وحل الشرّ؟ كيف تقدر على الصلاة بهدوء وكلّ ما حولك يجهل الإنجيل، ويجهل هدف الحياة ومعناها، أو يجهل أسرار الكنيسة الصحيحة وهو مشتبكٌ بحبال الشرير؟ أتستطيع العيش في راحة البال أمام نفسٍ مخنوقة تحتاج لمحبة الإنسان القريب؟
– لكن ستقول لي: نحن لسنا مرشدين ولسنا إكليريكيين، فماذا نستطيع أن نقدّم لنفوس الآخرين؟
القلب المحبّ يقدر ويستطيع فعل الكثير، يستطيع إخراج أساليب لمساعدة النفوس التي تحتاج للمساعدة. فعندما نقلق ونضطرب للحالات الوضيعة الروحية التي تحيط بنا سنجد أساليب لنقدّم المحبة تجاه الآخر، كأن نرشده إلى من يعطيه خبرة روحية أو نضع بين يديه كتاب للبناء الشخصي أو ندعوه لإحدى الوعظات ونحثه على ارتياد الكنيسة ونصلّي له بحرارة لينيره أن يثمر في طريقه.
ممكن أن لا تنجح محاولاتنا. ولكن نكون قد أظهرنا محبتنا، وإن لم يفهم ثمن هذه التقدمة.
” فاعلموا أنَّ من ردَّ خاطئاً عن طريق ضلاله خلَّص نفسه من الموت وسترَ كثيراً من الخطايا” (يع20:5) يقول الرسول يعقوب. أيوجد محبة أعظم من الاهتمام والمحاولة لاقتراب نفوس إخوتنا للمسيح المخلّص والعتق من حكم الموت الأبدي.
بولس الرسول مثال المحبة
نموذج الإنسان الممتلئ من المحبة هو الرسول بولس “الممتلئ من الروح القدس”(أع9:13). أحبب الرب من كل قدرتك. عش من أجل الله. “فما أنا أحيا بعد ذلك، بل المسيح يحيا فيَّ” (غلا20:2)، يتحرك ويعمل ويحيا من أجل الله، إن الله عند الرسول الهدف المستمر. نفسه تلهج بالله فقط، ويشتاق إليه نهاراً وليلاً. “لأنّي مستعدٌ ليس أن أربط فقط بل أن أموت أيضاً في أورشليم لأجل اسم الرب يسوع” (أع13:21)، كان يقول هذا في قيصرية فلسطين عندما تلاميذه وكلّ المسيحيين حاولوا منعه من الصعود إلى أورشليم بعد نبوءة “أغابوس” كما يرويها لوقا الرسول في أعمال الرسل في الإصحاح الثاني والعشرون. ولأنّ الرسول يحبّ الرب من كلّ حرارة نفسه لهذا اشتهى “أن ينطلق ويكون مع المسيح” (فيلبي23:1)، أي اشتاق أن يترك هذه الحياة ويذهب إلى السماء ليكون مع الرب.
وهذا بالضبط لأنّ بولس الرسول يحبّ الله كثيراً، يحبّه أكثر من أيّ شخص آخر. ليلاً ونهاراً اهتمامه وجهاده وتعبه في سبيل خلاص الآخرين لا يعبّر عنه. عانى بولس الرسول عن الكثيرين لأنه ملك محبة في داخله. كتب في رسالة كورنثوس: “من يضعف وأنا لا أضعف؟ من يعثر وأنا لا أحترق؟” (2كور29:11)، أي مَن من المسيحيين يكون مريضاً جسدياً ونفسياً ولا أشعر أنا به؟ من سقط في الخطيئة وأظلمت نفسه ولا أحترق أنا في أتون الحزن والخجل؟
“فصرت لليهود كيهودي لأربح اليهود. وللذين تحت الناموس كأنّي تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس…صرت للضعفاء كضعيف لأربح الضعفاء. صرت للكلّ كلّ شيء لأخلّص على كلّ حال قوماً” (1كور20:9-22).
بولس الرسول مثال المحبة بامتياز! وكان يقدّم هذه المحبة في المجتمع يومياً، في النهار وفي الليل.
يريد مجتمعنا مسيحيي القلب وليس مسيحيي مصلحة، يريد أناساً روحانيين متجددين في كلّ وقت وهم سيكونون “فرحاً مع الفرحين وبكاءً مع الباكين” (رو15:12)، مجتمعنا فيه حلاوات كثيرة والمحبة تحتاج حناناً. ويجب أن نعيش هذه المحبة بعمق كبير “في محبة بلا رياء” (2كور6:6)، لهذا نلتمس من الروح القدس أن يزرع المحبة لتثمر في دواخلنا.