المعجزات والواقع
الأب سابا سخربين
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
ما هي المعجزة وكيف ينبغي التعاطي معها؟ سوف نحاول تعريف المعجزة من وجهة نظر العلوم.
يقوم العلم على الحقائق والنظريات التي تفسّرها. الحقيقة هي ما يستطيع أن يكرره أي شخص في أي مكان في نفس الظروف. بالطبع، ضروري أن يكون الإنسان قد أتمّ التدريب الملائم، لكنّ لا دور لكونه صادقاً أو لا، متبجحاً أو أنانياً، مؤمناً أو غير مؤمن. إلى هذا، ينبغي تسجيل هذه الحقيقة من خلال الحواس أو عن طريق جهاز. المعجزات حقيقية، لكنّها ليست حقائق عادية يمكن صناعتها أو تكرارها بحسب الرغبة. صحيح، هناك معجزة تتمّ دائماً خلال القدّاس، وهي الإفخارستيا (تحوّل الخبز والخمر إلى جسد الرب ودمه)، لكنّها معجزة لا يمكن اختبارها بالأعضاء الحسية، بل فقط بالنفس المؤمنة.
يوجد أيضاً معجزة شهيرة أخرى، إنها معجزة نار القبر المقدّس وهي تتكرّر كل سنة في أورشليم في الفصح الأرثوذكسي. كل الذين يتجمّعون عند قبر السيّد عند نزول النار يرون المعجزة، ويمكنهم أن يمسكوا بأيديهم هذه النار التي لا تحرق. هذا اختبره آلاف الشهود. تحترق الشمعة فيما يمكن وضع اليد أو الذقن في نار الشمعة دون أن تصاب بأي أذى. هذا ممكن أن يجري لأي كان. حتى من وجهة نظر علمية، هذه حقيقة يعرفها العالم بأجمعه. وهكذا، هل كل العالم يحتشد للتحوّل إلى الأرثوذكسية؟ لم يلاحظ أحد هذه الظاهرة. لماذا؟ لأنّ حقيقة واحدة ليس كافية لتكوين مجموعة نظامية من المفاهيم في الحياة. ضروري وجود نظرية تشرح هذه الواقعة.
قد يكون هناك عدد من النظريات، ولكل منها شرح مختلف لنفس الحقيقة. على كل إنسان أن يختار لنفسه النظرية الصحيحة. تكمن المشكلة في غياب الانتقال المنطقي من نظرية إلى أخرى. تكمن البديهيات (اقتراحات مقبولة من دون برهان) في أساس النظريات، ومن ثمّ بشكل طبيعي يتوفّر سبب لكل الأمور. وعليه، فإن كل شيء يتوقّف على “ماذا” وليس على “مَن”. الـ”ماذا” هي المادة، براغي الآلية، أي تلك التي تُملي تطور الحدث. لكن اختيار مجموعة البراغي التي ينبغي استعمالها يعتمد على “ماذا” وليس على “مَن”. إنّ هذه الـ”مَن” هي مَن يصنع الخيار. في اللاهوت الأرثوذكسي، يُسمّى هذا الـ”مَن” أقنوماً. يقوم الشخص بالخطوة غير المنطقية الأولى، ومن ثمّ يعمل بحسب المنطق. يقرّر كل شخص أيّة نظرة يختار لذاته.
يتبع العلم النظريات التي، بشرحها الحقائق السابقة، يمكنها أن تتنبأ بالوقائع التالية أو إظهار كيف ومتى ينبغي تسجيل الحقائق غير المعروفة. طالما النظرية “تعمل”، تبقى موضع ثقة. حتى ولو كنّا نعلم أنّها غير صحيحة مئة بالمئة، يمكننا أن نطبّق النظرية بشكل مريح ضمن حدود عملها. هذا يشرح وجود نظريات بدائية جداً في العلوم بين الفينة والفينة. المنطق هو، أنّه ينبغي غض النظر عن الحقائق التي لا تشرحها نظرية ما إن لم يكن هناك حاجة إلى المزيد منها، أي أنّه لا ينبغي إرهاق العقل بها.
الأمر نفسه ينطبق عند اختيار موقف ما في الحياة الروحية. نار القبر المقدس لا تحرق، ماذا بعد؟ أتقول أنّ إلهك هو الأقوى؟ سوف يؤدبني ويرسلني إلى العذاب الأبدي إن لم أكن له؟ إذا كان الأمر هكذا، فأنا على الأغلب ضده. أيظهر ربك قدرته أمامي: “أنا أستطيع السير على الماء وأنت لا. أستطيع تحويل الحجارة إلى خبز بينما أنت سوف تموت في الصحراء من دوني.” إذاً أنا سوف أموت ولن أخضع! أنا حرّ ولن أكون عبداً.
هذا ما تقود إليه الوقائع التي لا تُنكَر. قد لا يقتنع الشجعان والأحرار من الرجال، لكنهم بالمقابل قد يثورون. الحقيقة هي أمر لا يمكن إنكاره لكن يمكن مواجهته. حتى أمام الموت ليس من حقنا أن نركع أمام أي قوة. الحقيقة هي قسر أو إلزام معروفَين. يمكن رمي أيّ نظرية واستبدالها بأخرى أكثر ملاءمة للإيديولوجيا الشخصية، لكن بالنسبة للحقائق، يمكنك فقط، إمّا أن تحاربها أو أن تخضع لها. ليس هناك من خيار. لهذا السبب لم يجعل الربُ العجائب حقيقة يومية في حياتنا، حتى لا يلزِم الإنسان باتخاذ مواقف محددة.
تتكرّر معجزة النار المقدّسة كل سنة بدون صخب وزهو، فهي تظهر فقط للذين يريدون ذلك ويقصدون المكان. يرسلها الله كفرح سماوي، ازدياد الفهم، رسالة تذكير أبوية، وكتثبيت للشك.
إن للمعجزة قوة الواقعة الحقيقية عند كل إنسان احتكّ، بشكل أو بآخر، بمعجزة ما. بالتالي، إن هذه المعجزة كانت إلى حدٍ ما عمل إرغام له على الإيمان وتغيير طريقة حياته، وغالباً ما يكون التغيير جذرياً. نأتي هنا إلى تناقض: الله هو محبة تفوق الوصف، رحمة لا حدّ لها، ومعجزاته هي ظهور لمحبته ورحمته نحو الجنس البشري المعذّب اليائس في وجوده من إلى يوم. العطية الوحيدة التي يمكن للإنسان الشكور أن يقدّمها إلى الله هي المحبة البنوية المتبادَلة. لكنّ المحبة تُعطى وتؤخّذ بدون مقابل. فإذا كنّا نحن نفهم هذا الشيء، فكم بالحري الله. لهذا السبب، لا يفرض الله نفسه علينا ولا يكرِهنا روحياً. لقد أخبرنا “اسألوا تُعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا والباب يُفتَح لكم” (متى 7:7). إذاً، تُعطى المعونة الفائقة الطبيعة العجائبية للذين طلبوا. المستعد للطلب ليس بعيداً عن المحبة.
يقول العض: “أرِني عجيبة وسوف أؤمن”. حمقى! حمقى لم يقرأوا الإنجيل ولا يعرفون أن الرب، في تجربة الشيطان له، رفض أن تكون المعجزات أداة لإخضاع الإنسان. لا يتمّ الرب المعجزات لكي يؤمن به الناس. لا يحتاج الرب أحداً يؤمن به، إنّه يحتاج فقط أن يحبّوه. وهذا ليس لأنّه يعجز عن أن يكون بدون المحبة البشرية، بل لأن الإنسان لن يرتفع عن الأرض، ولن يبلغ ملكوت السماوات إذا لم يتعلّم أن يحب – أي أن يحب خالقه وجاره وأخاه، لأن المحبة هي الأصل الوحيد للحياة الأبدية.
إذاً، تحيط المعجزات بالإنسان الذي يؤمن بالله ويحبه دائماً. إنها حقيقية عنده كمثل العالم الفيزيائي. وإذا قرأ أحد عن أن ناسكاً ما مشى على البحر كما على اليابسة، أو حتى إذا رآه، ذاهباً ليجلب أيقونة ظهرت عجائبياً في ذلك المكان، إذاً، وبالنسبة له، إنها حقيقة وكأنّه يقف على طريق دون أن يغرق.
بالطبع، كل معجزة هي حقيقة تظهر حياة النفس البشرية الأكثر عمقاً والغالية، ولا يجد الشخص دائماً من الضروري أو المفيد أن يخبر الآخرين، خوفاً من أن يُساء فهمه أو أن يُهزَأ به. فالرب كسر قوانين العالم المادي من أجله، متعطفاً على بلاه أو ضعفه. لكن إخبار الآخرين عن عيش خبرة المعجزة قد يكون مفيداً، وأحياناً ضرورياً، ليس فقط في إطار العائلة أو الكنيسة بل أيضاً على نطاق أوسع. عندما تتحدى الإرادة البشرية فجأةً التدبير الإلهي، يضطر الرب أحياناً إلى إيجاد بعض الطرق لجعل حشد الناس يفهم تلقائياً. مثال على ذلك ظهور والدة الإله لتيمورلنك في يوم عيد إيجاد أيقونتها الفلاديميرية في موسكو. من وجهة نظر القوانين المادية، تراجع تيمورلنك مع حشوده التي لا تُحصى عن موسكو التي كان يحرسها عدد صغير نسبياً من حراس أمير موسكو. إنّه أمر منافٍ للعقل. وحده الباحث المتحيّز قد يعتبر هذه الواقعة التاريخية شيئاً غير معجزة. هناك الكثير من المعجزات المشابهة في تاريخنا ومنها حديثاً سقوط الدولة السوفياتية. كلّ مَن يعرف النظام السوفياتي عن كثب لا بدّ أن يعتبر سقوطه معجزة.
عليه، إن المعجزات بالنسبة للأرثوذكسي هي ظهورات حقيقية للحياة مثل أي ظهور آخر. هذه يعطينا الله إيّاها تدبيرياً لأننا بحاجة إلى معونة مادية، ففيما البعض منّا يحتاج إراحة من آلام جسدية، أو آخرون يحتاجون تنويراً وتشجيعاً ليختبروا علاقاتهم بالحياة، تأتي أيقونة لترشح زيتاً أمام أعينهم. كلّ معجزة من الله لها هدفها الحسن المحدد، ولهذا السبب، من الخطيئة أن يسعى الأرثوذكسي إلى المعجزة للمعجزة أو لإرضاء فضوله.
إذا جرى شيء مما يفوق الطبيعة في حياة المؤمن، كظهور نور من ملاك خلال صلاة مثلاً، يفكّر المؤمنون الأرثوذكسيون الذين يحبّون الله فعلاً، على الشكل التالي: “الله يعرف أنّي أحبّه، لكنّ محبتي لا تتوقّف على الإحسانات إن لم تمليها الحاجة الحقيقية. بالتالي، هذا أحدٌ آخر، على شبه الله، يجرّب أن يظهر لي ‘محبته‘.لا يقوم الله بتمثيليات فارغة. هذا يعني أنّه قد يكون أحداً يحاول خداعي. لماذا يُظهَر لي ما أعرفه أصلاً إن لم يكن ضرورياً إنجاز طاعتي؟ هذه الأشكال من المعجزات الفارغة هي بالأرجح ظهورات دنيوية ليست من الله، وبالتالي لن أهتمّ لها. إذا كنتُ أصلّي إلى الله، فلماذا قد يحوّلني هذا الملاك الظاهر عن صلاتي؟ لو كان ملاكاً من الله، لما كان قام بهذا. هذا يعني أنّه ليس من الله. وإن لم يكن من الله فمن الخطير التورط معه فأنا لست قوياً روحياً بما يكفي”.
هذا موقف سليم يأخذه الشخص الأرثوذكسي من هذه “المعجزات” المفعمة بالضجيج والمغرية. الحمد لله، ليست كل المعجزات على هذا الشكل، لكنّه من المهم أن نتمكّن من التمييز في ما بينها. في هذا الموضوع، المعيار الطبيعي الذي يساعد في فصل القمح عن الزؤان هو صوت الكنيسة. فالكنيسة ككائن حيّ ترمي كلّ ما هو فارغ وزائف، بطرق يعرفها الله وحده، تاركةً ما يقود أبناءها إلى الحياة الأبدية دون سواه.