كرامة الإنسان المعاصر
الأب أنطوان ملكي
فَإِنِّي أَرَى أَنَّ اللهَ أَبْرَزَنَا نَحْنُ الرُّسُلَ آخِرِينَ، كَأَنَّنَا مَحْكُومٌ عَلَيْنَا بِالْمَوْتِ. لأَنَّنَا صِرْنَا مَنْظَرًا لِلْعَالَمِ، لِلْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ. نَحْنُ جُهَّالٌ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَحُكَمَاءُ فِي الْمَسِيحِ! نَحْنُ ضُعَفَاءُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَقْوِيَاءُ! أَنْتُمْ مُكَرَّمُونَ، وَأَمَّا نَحْنُ فَبِلاَ كَرَامَةٍ! إِلَى هذِهِ السَّاعَةِ نَجُوعُ وَنَعْطَشُ وَنَعْرَى وَنُلْكَمُ وَلَيْسَ لَنَا إِقَامَةٌ، وَنَتْعَبُ عَامِلِينَ بِأَيْدِينَا. نُشْتَمُ فَنُبَارِكُ. نُضْطَهَدُ فَنَحْتَمِلُ. يُفْتَرَى عَلَيْنَا فَنَعِظُ. صِرْنَا كَأَقْذَارِ الْعَالَمِ وَوَسَخِ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى الآنَ. لَيْسَ لِكَيْ أُخَجِّلَكُمْ أَكْتُبُ بِهذَا، بَلْ كَأَوْلاَدِي الأَحِبَّاءِ أُنْذِرُكُمْ. لأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَكُمْ رَبَوَاتٌ مِنَ الْمُرْشِدِينَ فِي الْمَسِيحِ، لكِنْ لَيْسَ آبَاءٌ كَثِيرُونَ. لأَنِّي أَنَا وَلَدْتُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ بِالإِنْجِيلِ. فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي.” (كورنثوس الأولى 9:4-16)
هذه القراءة من عند الرسول بولس، هي حاجة لأن يسمعها كل مؤمني هذا العصر. فالناس، كانوا وما يزالون، يسعون وراء المواهب والمراكز والكراسي ليحصلوا على كرامات زمنية. إضافةً إلى أنّ التقدّم الذي حققته البشرية يجعل إنسان اليوم أكثر اتّكالاً على ذاته وعلى علومه وعلى معارفه وقدراته من اتّكاله على الله.
يريد بولس الرسول أن يقول من خلال رسالته أنّ الكرامة الحقيقية هي في حمل الصليب مع المسيح. فهو يصف الرسلَ وهو منهم، بالجهّال فيما العلم والمعرفة همّ الناس الأول وهم مستعدّون للتضحية بكلّ شيء على طريق السعي إلى اكتسابهما وتكديسهما وحمل الألقاب التي تدل عليهما. هو يصف الرسلَ بأنّهم ضعفاء فيما الناس يتسابقون إلى اكتساب تحصيل ما يشعرهم بالقوة سواء عن طريق المراكز أو الوظائف أو الاصطفافات أو التزلّم. يصف الرسلَ بأنّهم بلا كرامة فيما إنسان اليوم يحسّ بالخيبة من دون المركز الأول والمقعد الأول. يقول أنّ الرسل يرضون بأن يُشتَموا ويُفتَرى عليهم فيما إنسان اليوم يرفض أن تُوجّه إليه أيّ كلمة، حتّى الملاحظة البنّاءة. يصف الرسل بأنّهم صاروا أقذار العالم فيما بعض الناس اليوم يخجلون بأن يُسَمّوا مسيحيين ويرفضون أن يناديهم أحد بعبيد الله.
أهالي كورنثوس انتفخوا وظنّوا أنّ ما يتمتّعون به من وسائل الراحة والتقدّم، بالنسبة لذلك الزمان، يكفيهم ليقتنعوا بأنّهم يتقدّمون على الآخرين، ومن بينهم الرسل. أمّا الرسول فيقول لهم أنّ التقدّم والشبع الحقيقيين هما في احتمال الضيقات والاضطهادات، ولتواضعه وضع نفسه في المؤخرة كالمحكوم عليه بالموت. أهالي كورنثوس يبحثون عن الكرامة في العالم، وهو يطلب منهم أن يتشبهوا بالرسل الذين يبحثون عن الصليب الذي فيه كرامة لله. مشكلة أهل كورنثوس أنهم كانوا بلا آلام فانتفخوا، لأنّ مَن يحمل صليبه لا يصاب بالكبرياء. أوسمة الشرف الحقيقية التي يفتخر بها الرسول هي الجوع والعطش والعري واللطم وعدم الاستقرار وتحمّل السخرية والشتائم وعدم مقابلة الشر بالشر. وذروة الشرف عند الرسول هي في مباركة مَن يشتمه واحتمال الاضطهاد ومقابلة الكلام الرديء والافتراء بالكلام الطيب والإرشاد والوعظ.
كتب الرسول هذا الكلام لا ليخجِل أهالي كورنثوس بل ليعظهم. هو لا يذكر آلامه ولا يقارن بينه وبين ما يتمتّعون به لكي يظهر مساوئهم بل لأنّه ولدهم بالمسيح. في نهاية القراءة، يورِد الرسول تمييزه بين المرشد والأب بشكل عظيم وواضح وينطبق في كلّ زمان. ففكرة المرشد أتَت من الحضارة اليونانية، على أنّه الذي يوكَل إليه بالطفل فيصحبه للمدرسة ويدرّبه على الأخلاق الحميدة. أمّا الأب فيختلف عن المرشد ويتقدّم عليه، لأنّ الأبوة والبنوّة الروحيتين، بحسب بولس الرسول، هما تماماً في المسيح وعلى مثال العلاقة معه، وتقومان على تمثّل الأبناء بالآباء. لذا نتعلّم في الكنيسة أنّ الأبوّة والبنوّة في المسيح تبدآن بالولادة في المعمودية وتستمران في الإيمان وتزهِران في الاعتراف. ولكي يجري هذا كلّه، لا بدّ من إطار هو جسد المسيح أي الكنيسة. لا أبوة خارج الكنيسة، ولا ثبات للأبناء إلاّ في المسيح وكنيسته. قد يكون هناك مرشدون، وربوات (أعداد كثيرة) منهم، ولكن دائماً هناك أب واحد ينبغي أن يلتصق المؤمن به.
إن دعوة الرسول بولس لأهل كورنثوس لأن يكونوا متمثلين به، كما يتمثّل الابن بأبيه، ما تزال قائمة إلى كلّ المسيحيين في كل الأماكن والأوقات. إنّ المسيحية الحقيقية هي حياة “تعالَ وانظر” وقوامها قبول السلوك في كلّ ما سبق وصفه في هذه القراءة من الرسائل. إنسان اليوم متمسّك بما حققه من الرفاهية ووسائل الراحة فكيف له أن يقبل الجوع والعطش والعري والتشرّد؟ إنسان اليوم يهرب من الالتزام فكيف له أن يحتمل الاضطهاد؟ إنسان اليوم محور حياته الكلام والنقاشات والمقررات والأوراق لذا يصعب عليه التمثّل بالرسل والقديسين.