في الموسيقى وتأثيرها، وفي تثقيف السمع

في الموسيقى وتأثيرها، وفي تثقيف السمع

 

أنطوان المعلوف

أبدع الله الحواس في الجسد، وذلك كي تكون معابر الذهن إلى العالم الخارجي، ومن خلالها يتلقّى الذهن غذاءه الروحي[1]

من هنا نتبيّن حفظ هذه الحواس سليمة لأنّه إن شوّهنا الذهن فما الذي يمنح النور؟ وبأية وسيلة سنشاهد بوضوح؟ كما جاء على لسان القدّيس يوحنّا الذهبي الفم.

قد لا يعي الناس اليوم أهمّية ما يسمعون، على مستوى الكلمة أو اللّحن، ولا يعرفون مدى تأثيرها في النفس البشريّة. لذلك سنلقي الضوء على أهمّية الموسيقى ومكانتها اليوم، وكيف نحفظ حاسّة السمع.

أهمّية الموسيقى في الحضارات القديمة

عرف الإنسان الموسيقى منذ القدم، وكانت له وسيلة تساعده على تخطّي صعوباته العمليّة، والتعبير عن أحاسيسه وتطلّعاته الفكريّة والإيمانيّة.

1  –  بالنسبة للحضارات البدائيّة، لم تكن الموسيقى قائمة كفنّ بحدّ ذاته، بل كانت ترافق الحياة الدينيّة (عبادة الآلهة…)، والحياة اليوميّة (العمل في الأرض…).

2  –  عند المصريّين، ومع ظهور الإمبراطوريّة القديمة، انتقلت الموسيقى من دور العبادة لتصبح فنّاً يمارس في البلاط ومن قِبَل الشعب.

3  –  في الصين، الموسيقى تعكس حياة الإنسان الداخليّة. ومنذ حوالي ألف سنة ق.م. عرف هذا البلد وزارة للموسيقى، تنظّم التعليم والممارسة.

4  –  اليونانيّون، أيضاً، عرفوا أهمّية الموسيقى وتأثيرها في سلوك الإنسان، وقد ورد ذلك عند أفلاطون.

أهمّية الموسيقى في مجتمعنا اليوم:

لا ننكر وجود الموسيقى المفسدة في كلّ العصور، ولكنّها لم تكن متفشّية كما هي الحال في أيامنا هذه، بل كان لها أماكن محدّدة، وزمان معيّن وجمهور خاص.

سنلقي الضوء على بعض العوامل التي حوّلت ذوق الإنسان وجعلته يتبنّى هذا النمط الموسيقي.

1.          العولمة:

لقد بتنا نعيش في إطار عولمة إقتصاديّة وسياسيّة واجتماعيّة، مفروضة من الدول المتقدّمة، ظاهرها الانفتاح والمحبّة والوحدة، وباطنها الإنصهار والذوبان وفقدان الهويّة.

نحن لسنا ضدّ الانفتاح على الغرب، ولكن هذا يتطلّب تجذّراً في التراث، لكيما يأتي الانفتاح غنى وتطويراً.

2.          غياب الثقافة في مجتمع الاستهلاك:

إنسان اليوم لا يميل إلى القراءة والإطّلاع، وذلك لأنّ القراءة تتطلّب مجهوداً ووقتاً. ونظراً لسيطرة الحياة الإستهلاكيّة، اندفع الإنسان وراء المادّة، وأصبح منشغلاً بتلبية حاجاته الاستهلاكيّة، مهملاً بناء نفسه، ومتجاهلاً أنّه “ليس مجرّد كتلة حاجات، بل كائن رغبة وشوق، مدفوع بكل جوارحه نحو لقاء ما هو أبعد من ذاته الراهنة، والذي بدونه لا سبيل له إلى تحقيق ذاته في أصالتها ورحابتها”[2].

3.          وسائل الإعلام:

في ظلّ وجود التقنيّات الحديثة وغياب الرقابة، وجدت الموسيقى، عبر وسائل الإعلام، منفذاً إلى أغلبيّة الناس، وأضحت بالأحرى، وسيلة للتسلية والترويح عن النفس وإثارة الشهوات… مما غيّب وجهها الحقيقي الأصيل فبفضل المؤثّرات التي تستعمل، خُدع الإنسان بالمظاهر، حتى بات يعتقد أنّ هذا هو الفنّ الحقيقي، لا بل أخذ يُدافع عنه.

4.          تأثير البيئة:

كان كل مَن عرفنا من المبدعين في الموسيقى صنع البيئة التي نشأوا فيها، أي صنع التقليد والتراث. فأمثال محمّد عبد الوهّاب، وديع الصافي، أم كلثوم، فيروز وغيرهم، كانوا دائماً محاطين بشعراء وموسيقيّين بارعين، وجمهور “سمّيع”، ذوّاق للكلمة واللحن. هذا ما يدفع الفنّان إلى الإبداع والإنتاج.

أما اليوم، فنجد أنّ عالم الفنّ يزخر بالمطربين والمطربات الذين “يخربون” آذاننا. لكنّنا لا نلومهم فبعض المسؤولية يقع على محتكري البيئة التي ينشأون فيها.

كيف نحفظ حاسّة السمع؟

قبل أن نتكلّم على كيفيّة حفظ حاسّة السمع، علينا أن نعرف لمَ الإنتباه إلى ما نسمع وما تأثيره علينا.

إنّ الموسيقى اليوم، التي هي بأغلبيّتها تجاريّة، لا تهدف إلى بناء الإنسان ولم تعد الوسيلة التي يعبّر فيها عن أحاسيسه وقضاياه. هذا إن لم نقل إنّ الهمّ الأساس أضحى هذا الحبّ الشهواني المبتذل المعبَّر عنه في أغاني العصر.

إنّ هذه الألحان من شأنها أن:

–       تضعف قوّة النفس.

–       تملأ الذهن بالصور الشهوانيّة التي تصوّرها وتوحي بها[3].

–       تلحق الضرر بحاسّة السمع. عندها ينطبق عليها القول المزموري: “لها آذان ولا تسمع” (مز 134: 17).

وهذا لأنّ مَن تعوّد هذا النوع من الموسيقى، لا تفعل فيه الكلمة الإلهيّة بل سيجدها غريبة عنه وصعبة، فنفسه لم تعد تتقبّلها، وهي فقدت نورها بسبب فساد الذهن. ولذلك يقول الربّ: “إن كان النور الذي فيك ظلاماً، فالظلام كم يكون” (متى 6: 23).

إنسان اليوم في تحدّ أكثر من أي وقت مضى. عليه أن يصحو رافضاً كلّ ما من شأنه أن يحطّ من إنسانيّته، وأن يسعى إلى أن يتغيّر. هذا ما تعنيه التوبة عند المسيحيّين. عليه أن يبحث عن الأصالة في التقليد والتراث، عن كل ما يبني النفس ويغذّي الروح، حتى لو تكلّف بعض الجهد وغصب النفس، “لأنّ مَن يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فساداً ومَن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبديّة” (غلا 6: 8). وهكذا يرتفع الإنسان من ترابيّته، ليصل إلى “قياس قامة ملء المسيح” (أف 4: 13).

المراجع

–       القدّيس نيقوديموس الآثوسي “نصائح وإرشادات روحيّة في حفظ الحواس الخمس”  تعريب الأب منيف حمصي.

–       كوستي بندلي “فتنة الإستهلاك أم فرح المشاركة؟”.

–       حديث للأب أفرام كيرياكوس “الحياة في المسيح وتحدّيات عالم اليوم”.

–       يوحنّا الذهبي الفم “المجد الباطل وكيف ينبغي للأهل أن يربّوا أولادهم”. تعريب الأب بندلايمون المتوحّد.

_  Cours d’histoire de la musique donné par Miled Tarabay à l’université St. Esprit de Kaslik. Octobre 2003.



[1] القدّيس نيقوديموس الآثوسي، “نصائح وإرشادات روحيّة في حفظ الحواس الخمس” ص: 18 – 19.

[2] كوستي بندلي “فتنة الإستهلاك أم فرح المشاركة؟” ص 11.

[3] القدّيس نيقوديموس الآثوسي “نصائح وإرشادات روحيّة في حفظ الحواس الخمس” ص 54.

Leave a comment