حنطة المرتلين ومَدْرَس التوبة
الأرشمندريت توما بيطار
عائلة الثالوث القدّوس – دوما
14 نيسان 2005
الكنيسة، بعامة، في القرنين الثالث والرابع الميلاديَّين، شجّعت على الإنشاد بين المؤمنين. ثمّة واقع مثلّث الأبعاد دفع إلى ذلك: ارتباطُ الموسيقى يومذاك بالعبادة الوثنيّة. ترتوليانوس المعلّم سبق أن أشار إلى العلاقة العضوية بين الأمرين في زمانه. ثمّ علاقة الموسيقى بالمسرح. صَرْف المؤمنين عن المسارح في ذلك الزمان كان، لآباء الكنيسة، مشكلة قاسية. ثمّ علاقة الموسيقى بالمآدب الخاصة. قطْع المؤمنين عن أوساطهم والعادات العامة بشأن تناول الأطعمة على وقع الآلات الموسيقية التي تلعب عليها الفتيات لم يكن بالأمر السهل. بعض الأوساط النسكية الضيِّقة مجّ الإنشاد جملة وتفصيلاً. يُروى عن الأنبا بموا سماعه ترتيلاً فقارب المنشدين بالأبقار صوتاً. هؤلاء رأوا فيه ما لا يتّفق والطابع التقشّفي للإيمان المسيحي. الموقف الأشمل بين عامة المؤمنين لم يكن كذلك. أدرك آباؤنا أنّ التصدّي للمناخ السائد لا يجدي فيه مجرّد حثّ المؤمنين على نبذه، فللموسيقى جذور عميقة في النفس وليس استئصالها ممكناً. هذا إذا لم نشأ الكلام على قوّة العادة والإنتماء إلى وجدان الناس الاجتماعي. تعميد الموسيقى وقطعُها عن سياقها الوثني والمسرحي والشهواني وكذا تنقيتها مما لا يليق وتطويعُها للروحانية المسيحيّة من حيث هي لغة إنسانية كان أجدى. لذا وُجد آباؤنا القدّيسون مدفوعين إلى نهج جديد في تعاطي النغم، هو الذي كان وراء إبداع الترتيل البيزنطي كإيقونة صوتية فذّة للحياة في المسيح، جسّد حركة روح الربّ في لغة ولا أدنى إلى قلوب العامة. الآلة الموسيقية، في هذا الإطار، كانت خطراً كبيراً لا فقط لخلفيتها الوثنيّة الأهوائية بل لجنوحها إلى نغميّة لا تضبطها الكلمة أيضاً. الآلة تضرب على وتر المشاعر والأحاسيس وتجمح بالنفس، وهذه إن لم تمسكها الكلمة الإلهية وتشدّها إلى فوق أفضت بصاحبها إلى مهاو عبثية. مرامي النغم في الإنشاد عند الذهبي الفم كانت “نفساً مرفوعةً وذهناً صاحياً وقلباً متخشّعاً وفكراً قوّياً وضميراً نقيّاً. إذا دخلتَ جوق الله وهذه بحوزتك أمكنك أن تقف بجانب داود” (على المزمور 41). على هذا حثّت الكنيسة المؤمنين على الترنيم والإنشاد، خصوصاً المزامير، في كل حين، بما في ذلك أوقات تناول الطعام. كل أفراد العائلة كان مدعوّاً إلى ذلك. جودة الترتيل لم تكن هي الهمّ. هذا ورد في مرحلة لاحقة. لذا نفترض أنّ النغمية المقترحة، آنذاك، كانت على بساطة. لا شك أنّ الخلفية العبادية اليهودية أثّرت. لكنْ واجهتِ الكنيسةَ صعوبةُ استعمال الآلة بين اليهود: “سبّحوه بلحن البوق. سبّحوه بالمزمار والقيثارة. سبّحوه بالطبل والمصاف. سبّحوه بالأوتار وآلات الطرب” (مز 150) أيُقتدى بهم أم لا؟ الجواب بين المؤمنين كان نفياً. ثيودوريتوس القورشي أبدى أن اليهود أخذوا استعمال الآلة عن المصريّين. آخرون قالوا، الله سمح باستعمال الآلة قديماً من باب التنازل (الذهبي الفم. على المزمور 150) والقدّيس غريغوريوس اللاهوتي يجد نفسه مضطراً إلى حثّ سامعيه: “لنتناول الأناشيد بدلاً من الدفوف ونرتّل المزامير بدلاً من الليّ غير المحتشم للجسد والأغاني” (الخطبة 5، 25). إذاً، كانت الوجهة الترتيل. ثمّ كانت الوجهة، كما في الفلسفة الأفلاطونية والفيثاغورية، أن مبتغى الموسيقى ليس جمالياً بل أخلاقياً. الأهمية كانت لما تحثّ عليه الموسيقى من جهة الفضيلة لا لكونها في ذاتها متعة.
هذا ما كمن في الجذور عندنا. المحور هو الكلمة، والنغم إنفاذٌ للكلمة ليكون لها في القلب مستقَرّ، ومن ثمّ لتستحيل موقفاً ففعلاً فسيرة جديدة. الترتيل، في الأساس، كان حفظاً للمؤمنين من روح العالم الذي قال فيه الكتاب العزيز: “محبّة العالم عداوة لله” (يع 4:4). على هذا كان طبيعياً أن ينمو الترتيل حيثما احتدّت الروح وحيثما استبانت الحاجة إليه إثر توسّع الخدم العبادية. لذا كانت الأديرة، بخاصة، هي الأرض المخصِبة التي ازدهر فيها الترتيل وشفّ وتنقّى. الفترة التي اتّسعت فيها دائرة الإنشاد، نغماً ونمطاً، عندنا وترسّخت واستبانت على أعماق كانت بين القرن الخامس والقرن الحادي عشر الميلادي. بعد ذلك تركّزت أنماطه وأُقرَّت في الكنيسة كهوادٍ ثابتة بصورة رسمية لا تقبل التبديل والتغيير.
ومضامين الترتيل بصورة أساسية، ثلاثة:
- العقيدة مسكوبةً في قالب إنشادي. لذا الليتورجيا، في التراث، إحدى مصادر الإيمان القويم عندنا.
- التسبيح والتعظيم والابتهال والشكران
- السيرة الروحية التوبوية.
من هنا أنّ الترتيل عندنا كلمة منظومة تستوعب كشفاً إلهياً بالعقيدة، وتالياً حضوراً إلهياً طالما الإسم الحسن علامة حضور. الله في الترتيل حاضر. الترتيل، في الأصل، ليس نتاجاً فكرياً أو شعورياً بل ثمرة اللقيا منسكبة بلغة الفكر والشعور. الترتيل رائحة أعراق المجاهدين في التماس المراقي الإلهية ورائحة طيب إلهي يعبق استجابة سمائية لتلك الأعراق. نخطئ إذا ظنّنا أنّ الإنشاد شيء من مواهب الطبيعة. الطبيعة تبقى، في هذا السياق، لغة لا تحدّث عن اللاهوت وحسب بل تنقل اللاهوت أيضاً. الترتيل، بمعنى، بخور يأتيك بأعراق المجاهدين المطيَّبة، ويبقى الطيب مكتنَزاً فيه إلى أن يقع في نفس استحرّها ربّها. الترتيل موقع التقى فيه قدّيس بربّه ويأتيك حثاً على ما خبره سواك وطريقاً إليه ليكون لك أنت أيضاً ان تختبر ما يخبرك به العارفون خلاصاً لك ولأهل بيتك. هذا لتبقى، معاً، محفوظاً باستقامة الرأي واستقامة المسرى الروحي واستقامة التمجيد. الترتيل، بهذا المعنى، حركة كيانية، طفرةُ وَجْد، نهدٌ، بالتوبة والشكران، إلى وجه ربّك.
على هذا، الترتيل جهد داخلي أولاً، حركة قلب، إصاخة لصمت الحاضر في الكيان، من تأتيه سمّاعاً بكل جوارحك. “تكلّم يا ربّ فإنّ عبدك يسمع”. هذا مضمون الترتيل والمرتّلين. بصوتهم الداخلي، بصلاتهم أولاً، يُحرقون، لدى ربّهم، في كنيسة المسيح، بخور التراتيل المدّخر فيها إرثُ قداسة حيّاً تراكمت طيّباته جيلاً بعد جيل. “هلمّوا خذوا نوراً من النور الذي لا يغرب ومجّدوا المسيح الناهض من بين الأموات”. المرتّل الذي لا ينقدح كيانه بصلاة القلب لا يمرّر روحاً بل جثّة هامدة. لا المرتّل حيادي ولا الترتيل. لذا ليس المرتّل مجرّد مؤدٍّ. يؤدّي ما يُفترض أن تعتمل به نفسه أولاً. ليس هو موظّفاً أجيراً ولا آلة تسجيل. الترتيل لا يُؤدّى خارجيا مهما كان صوت المؤدِّي جميلاً. الصوت وحده يُطرِب، لكنّه لا يبني إنسان القلب. الطرب يستدعي الطرب. ما تعطيه إيّاه تلقى. اكتفِ بصوت جميل تأخذْ نشوة تحت مظهر التقى ولا تقىً. ما تؤخذ به في الترتيل، لو كنتَ أصيلاً، ليس ما تُضفيه عليه من مِسحة جمال بل شفافيتُك الداخلية لِما ترتّل، حسّك، تناغمك وما تصدح به في مستوى القلب. ترتيلك، إذ ذاك، يرفل جمالاً على عمق ولو لم تُعِنْكَ مواهب الطبيعة. للقلب، متى حدّثَ، خِلابتُه. القلب، إذ ذاك، يخاطب القلوب والكيانُ يستدعي الكيانات وهذا الأجدى.
لذا كانت التجربة، في الترتيل أبداً، أن يُجوَّف، أن يُكتفَى منه بحسن الأداء وطيب المغنى، إذاً لذهبتْ دلالته ومحلت جذورُه. التجربة الكبرى هي التمظهر. أن يُتعاطى الترتيل كفنّ. أن يُدهرَن. الخشية، إذ ذاك، ليست أن يُفرَغ من مضمونه وحسب. هذه علّة قاسية ولا شك، أن تُغفِل المعنى وتحسب لغة النغم غاية في ذاتها. هذا زنى في كل حال. الخشية الكبرى أنك متى فعلت ذلك هجرت الحياة الداخلية ومتحفتَ الإيمان وبتّ تطالع يسوع وثناً بين الأوثان، لا تصدِّقُ، في قرارة نفسك، أنّه حيّ. حين يموت في النفس الإحساس بالقدسات، أنّه “حيّ الله الذي أنتَ واقف أمامه”، إذ ذاك تستمدد خطابك من بنات أفكارك ونوازع أحاسيسك. تُسقِط على التراث معانيك وأخيلتك. أنت، إذ ذاك، أسير دائرة العبادات النفسانية الإيهامية.
ولعلّك، اليوم، عرضة لتجربة الدهرنة المرحلية وهذا أخطر. تحسب أنّ الترتيل جاذبُك إلى الكنيسة بعد نأي فتؤطّر ممارساتك بأطر جمالية متمسرحة وتظنّ أنّ الأصالة تتبع من ذاتها. هذا عند البعض تدبير رعاية. تلحظ مقدار طغيان الشكلية الأدائية: فِرقاً تتبارى في حفلات وأمسيات، وروحيةً يسودها العرض وطلب المجد الباطل. لعل بعضَ مَن يندرجون في هكذا أطر يشقّون طريقهم، على نحو أو آخر، إلى اكتشاف السرّ في الكنيسة، إلى الأصالة، إلى الهداية، لكنْ ليس مثل هذه الأطر هو ما يساعد بالضرورة ولا الأكثرون يهتدون. والسبب بسيط أنّ حُمّى التمسرح بما ينطوي عليه روح العالم أشدّ وطأة، بما لا يُقاس، على النفوس، من سكينة الصلاة وما يستتبعها من أتعاب حفظ الوصيّة. لعلّ أكثر الغيارى اليوم، ترتيلاً، على كنيسة المسيح مستمرّون غداً على الهامش أو يسقطون سأماً حين تبهت اهتمامات الصِبا وتؤخذ النفوس متى شاخت باهتمامات أخرى.
يخطئ الذين يتصوّرون أنّ النهضة مدخلها الترتيل في كنيسة المسيح. للترتيل موقع ولا شك، ولكن إن لم تتب النفوس إلى ربّها وتشرع في حفظ الوصيّة وصولاً إلى تنقية القلب ومن ثمّ إلى المعاينة، “وجهك يا ربّ أنا ألتمس”، فإنّ الترتيل مؤشراً على إيغال في عبادة الشفتين دون القلب يكون. “هذا الشعب يعبدني بشفتيه أمّا قلبه فمبتعد عنّي بعيداً” (إش 29: 13). لسنا، إذ ذاك، في صدد نهضة حقّانية بل انحطاط عميم.
أمّا بعد، ما دامت القافلة تسير في اتجاه النهوض بجوقات الترتيل فلنُحطها بأطر السلامة حتى لا تضيع الجهود هباء ونهدم بدل أن نبني. علّموهم الإيمان، أنشئوهم على الصلاة، مرّسوهم في التوبة، قوِّموهم بالاعتراف. صِلُوهم، في كل حال، بالسيّد الربّ، بما أوتيتم من ميراث قبل أن يتخثّر الترتيل في أفئدتهم الغضّة، قبل أن يَحسبوا الكنيسة ترتيلاً، قبل أن تتوثّن الكلمة في قلوبهم أصناماً على شفاههم وفي أسماعهم!