لاهوت الأيقونة الأرثوذكسية
الأرشمندريت بندلايمون فرح
يوحنا الدمشقي والمجمع السابع
تظهر مسألة الأيقونات التي أثيرت في بيزنطية في نهاية القرن السابع في القانون الثاني والثمانين من قوانين مجمع ترولو ( القبة). وأهمية هذا النص أنه يلقي ضوءً على المسألة الخريستولوجية.
نص القانون الثاني والثمانين من قوانين مجمع ترولو:
” نشاهد في بعض الأيقونات المكرمة صورة حمل والسابق يشير إليه بأصبعه. وقد كان الحمل يعتبر رمزاً للنعمة. فإن الشريعة قديماً أشارت إلى المسيح إلهنا الذي هو الحمل الحقيقي. ولكن لمّا كانت الرسوم القديمة والظلال قد اتُخذت رموزاً للحقيقة. فنحن في الكنيسة نفضّل “النعمة والحق” وقد أعطيناهما متممين للشريعة. ولكي يظهر الكامل بارزاً على الأقل في صورة ملوّنة للعيون. نأمر بأن يعرض الحمل الذي رفع خطايا العالم في الصور من الآن فصاعدا بالشكل الإنساني عوض رسم الحمل القديم. فيفهم الجميع بذلك عمق اتضاع الله الكلمة ونتمكن من أن نعيد إلى ذاكرتنا سيرته بالجسد بيننا وآلامه الخلاصية وموته الفدائي من أجل العالم كله”.
ظهرت صورة المسيح الحمل لآباء مجمع ترولو كنبوءة عن التجسد التاريخي لا تستطيع أن تعبّر عن نفسها بصورة رمزية. فالحمل رمز للمسيح ونحن لا نستطيع رسم رمز الرمز بصورة الحمل. بل توجد ضرورة لإبراز المسيح في “شكل بشري”.
محاربو الأيقونة
جرمانوس الأول (715–730) بطريرك القسطنطينية، عارض المحتجّين على رسم الأيقونات ومحاربيها ومقدمي الحجج ضدها انطلاقاً من قصر لاون الثالث الذي أظهر عدائية حيال الأيقونات وأصدر قرارات بنزعها من الكنائس فنلخص رده بما يلي: “من أجل ذكر أبدي لحياة ربنا يسوع المسيح بالجسد وآلامه وموته الخلاصي وفدائه للعالم الناتج عن موته، تسلّمنا تقليداً بأن نرسمه بشكله البشري، هذا يعني بظهوره الإلهي المرئي، يستنتج من هذا أننا هكذا نبرز تواضع الله الكلمة”[1].
وبات جرمانوس أول الأرثوذكس المتصدّين لمحطمّي الأيقونات في بيزنطية وتسلّم بعده القديس يوحنا الدمشقي مهمّة الدفاع عن الأيقونات وإبراز أهميتها عقائدياً وروحياً، لكن ضغوطات الإمبراطور أجبرت الحبر الشيخ على ألاّ يتمّ رسالته. فانتقل الدفاع عن الأيقونات إلى منطقة بعيدة جغرافياً، إلى القديس يوحنا الدمشقي، الراهب الذي عاش وكتب في الجزء الناتج عن الاحتلال العربي. هذا الراهب الجليل في دير القديس سابا في فلسطين، في مقالاته الثلاث: “الدفاع عن الأيقونات”، ساهم في توحيد الرأي الأرثوذكسي في كل العالم البيزنطي. فأول مقال في التأكيد على المستند الخريستولوجي: “رسم الرب غير المنظور ليس نسبة إلى أنه غير مرئي، بل بالقياس إلى أنه صار منظوراً حين شاركنا اللحم والدم”[2].
لقد عاش يوحنا بشكل أساسي على التغيير الحاصل في العلاقة ما بين الله والعالم المرئي حين صار إنساناً بإرادته. فالله صار مرئيا لاقتباله الوجود المادي بإعطائه للمادة عملا جيداً وقيمة جيدة.
يقول القديس يوحنا: ” في العهد القديم لم يكن لله جسد ولا شكل فلم يكن يستطاع تمثيله ولا بأية طريقة. ولكن اليوم، منذ أن ظهر الله بالجسد وعاش بين الناس، فأني أقدر أن أرسم ما هو مرئي في الله ” Tó őpατου τοữ εοữ ” فأنا لا أكّرم المادة ولكني أكرم خالق المادة. الذي صار مادة لأجل محبته لي. الذي تحمّل وتقبّل الحياة بالجسد فأكمل مصالحتي عبر المادة”[3]
بالإضافة إلى هذا المعتقد الرئيسي استخدم القديس يوحنا مواضيع ثانوية أخرى أقل دقة. فمثلا إرتكز على أن العهد القديم لم يكن ضد الأيقونات كلياً، لأنه أستخدم بعض الصور على الأخص في العبادة داخل الهيكل التي يمكن للمسيحيين اعتبارها مقدمة لرسم المسيح. وقد عيب على محاربي الأيقونات تشبيههم الأيقونة بالنموذج الأصلي. فالأيقونة عندهم هي “الله”. وفي هذا الخصوص أعتبر أن أساليب الأفلاطونية الحديثة والأوريجانية التي أستخدمها محاربو الأيقونات هي لصالح الأرثوذكس وتدعمهم أيضاً: فقط الابن والروح هما “الأيقونة الطبيعية” للآب. وبالتالي هما متساويان له. بينما تختلف الصور الأخرى معه جوهريا. الا انها ليست اصناما.
هذه المحاورة حول طبيعة الأيقونة استخدمت لابراز أهمية تكريم الأيقونات وتعريفها. الأمر الذي قبله المجمع المسكوني السابع سنة سبع مئة وسبعة وثمانين(787)( ثاني مجامع مدينة نيقية). فالصورة والايقونة تتميز عن النموذج الالهي الأصلي. يمكننا أن نميزها بالسجود التكريمي. فالتكريم يعود إلى أصلها وليس بالعبادة، لأن العبادة توجّه لله فقط[4].
هذا التأكيد المستمد سلطته من المجمع المسكوني يحرم بوضوح عبادة الأيقونات، التي غالباً ما نُتَّهم بها.
بالنسبة لهذا الموضوع فإن الفهم السيء قديم ومتأتي من صعوبات في الترجمة. فالعبارة اليونانية ” prosNÚõElslS ” (السجود التكريمي) ترجمت إلى اللاتينية “عبادة”، في ترجمة أعمال المجامع، التي استخدمها شارلمان في كتبه المشهورة “كارولين”. ولكن بعد فترة فهم توما الاكويني العبارة فوافق مجمع نيقية الثاني.
يتحدث القديس يوحنا الدمشقي عن تكريم القديسين في الكنيسة. حسب رأيه، هذا التكريم مرتبط بعبادة الله إذ هناك علاقة ما بين الخالق والمخلوقات: oÚsευἱ ỏε
وهذا المبدأ العام ينطبق على تكريم القديسين وذخائرهم وعلى تكريم الأيقونات عامة. فنحن نكرّم القديسين لأنهم خدام الله وأولاده وورثته بالنعمة، أصدقاء المسيح وهياكل الروح القدس الحية. وهذا التكريم يعود إلى الله ذاته إذ هو ممجد في قديسيه وفي خدامه الأمناء الذين ننعم بإحساناتهم إلينا. وفي الحقيقة أن القديسين هم شفعاء للجنس البشري بأكمله”————-“
—– ولكن ينبغي أن ننتبه لئلا نحسبهم في عداد الأموات. إنهم دوماً أحياء وأجسادهم نفسها وبقاياهم ذاتها تستحق إكرامنا لها.
هذه هي أفكاره التي عالجها في كتاب “الإيمان الأرثوذكسي” وفي الحوارات حول الأيقونات[5]. فباعتقاده أن كل تكريم للقديسين إنما يعود إلى يسوع المسيح. فالتكريم له، من خلال قديسيه وبقاياهم والأشياء المختصة بهم وأيضا للصليب المقدس ولأدوات تعذيب السيد وكذلك من خلال الأماكن التي تقدست بحضور الرب يسوع فيه، أو باحتكاكها به، أو من العذراء[6]. على الأخص في دفاعه عن الأيقونات، الذي ألّفه ضد محاربي الأيقونات ومحطميها، حيث جمع كل مصادر علمه اللاهوتي في ثلاثة دفاعات حول الأيقونات. ثم لخّصها في عرض الايمان الأرثوذكسي(1، 17، 16).
كل براهينه تهدف لإيضاح هذه النقاط الثلاث:
1″ لا تصوير لجوهر الله، بل للكلمة المتجسد.
2″ تكريم الأيقونات عائد لأصلها.
3″ الأيقونة كتاب مصور.
وُجد التصوير المقدس بهدف أن التكريم الموجه للأيقونات المقدسة هو تكريم مسموح به من الوجهة اللاهوتية وأن هذا التكريم يعطينا الكثير من البركات وهو يقر بأننا لا نستطيع صنع صورة لله تمثله كما هو في جوهره. في طبيعته اللامرئية غير المتجسدة التي لا توصف واللامحدودة. فلو حاول أحد رسم مثل هذه الصورة لجاءت صورة كاذبة وليس لها أساس من الحقيقة وهذا المبدأ لا جدل فيه. ليس فقط عند الدمشقي ولكن عند كل اللاهوتيين الأرثوذكسيين البيزنطيين المدافعين عن الأيقونات. والقديس يوحنا الدمشقي قد وجه كلمات قاسية للمحاولين تمثيل الألوهة بالذات، لأن مثل هذه المحاولة هي قمّة الغباء وعدم التقوى.
لا نجد في الغرب وضوحاً كمثل وضوحه. فهو يقر بأن الكتاب المقدس يرفض تمثيل الله بصور ويتساءل إن كان الله اللامنظور وغير الموصوف لا يمكن تصويره. فمن يمنعنا عن تصوير الله المتجسد من العذراء أمه أو تصوير والدة الإله والقديسين والملائكة القديسين؟ ليس فقط لأنهم ظهروا بأشكال مرئية ولكن على الأخص قد بدت للعيان طاقاتهم فباتوا قابلين للوصف والرسم[7]. فالأيقونوغرافيا المقدسة لها أساس في حقيقة الأشياء. إذاُ، على عكس ما يدعى محاربو الأيقونات، فمثل هذهالأيقونوغرافيا ليست محرّمة في الكتاب المقدس. فالعهد القديم يمنع الأصنام المخترعة ولكنه يخلق وفرة من الصوَر. على كل، نحن لسنا تحت الناموس، لأننا دخلنا في نضوج المسيح. فالله بتجسده صار مرئياً وهو بطريقة ما يدعونا لتصوير صورته المرئية. أليس هو أول من صنع أيقونة؟ فإنه ولد الكلمة قبل الدهور صورة جوهره الكاملة. ألم يصنع الإنسان على صورته ومثاله؟ ألا يحمل في ذاته أفكار وصور كل الأشياء؟ لقد أراد أن يكون العهد القديم صورة للعهد الجديد، وبالتالي إن كان مسموحا صنع أيقونات تمثل هذه الحقائق فمسموح إكرامها أيضاً.
إن ما قاله القديس يوحنا الدمشقي هو التقليد الأرثوذكسي. فإذا كان محطمو الأيقونات على حق فالكنيسة كانت مخدوعة كل تلك الحقبة، وهذا غير معقول، ويشكل هذا الرأي إدانة للهراطقة فلا يمكنهم الإدّعاء بأن تصوير الأيقونات وتكريمها هو ضرب من الصنمية بينما ينبغي أن نتوجه بعبادتنا إلى الله وحده.
احترام الأيقونة وتكريمها لا يتوجهان إلى الأيقونة من حيث هي مادة بسيطة، ولكن من حيث هي صورة. هذا يعني أنها تظهر النموذج الأصلي. وهذا الإكرام (ΠροσηÚυησις ) لا يتوقف عند الأيقونة ولكن من خلالها يصل إلى العنصر الأول بحسب قول القديس باسيليوس الكبير: “إن إكرام الأيقونة يرجع إلى عنصرها الأول”.
فإن كنا نكرّم سيدنا يسوع المسيح وأمه والقديسين فلماذا لا نكرّم أيقوناتهم؟ هذا ما قاله القديس يوحنا الدمشقي للإمبراطور لاون الإيصوري: “فإما أن تلغي الاحتفال بأعياد القديسين أو فاسمحوا لنا بإكرام أيقوناتهم”[8]. ويفسّر لاهوتيونا بوضوح تام بأن العبادة لله وإكرامه يصير في عدة وجوه.
اعتبار الأيقونة واحترامها يعطيان للمؤمنين آلاف البركات:
– فالأيقونة هي كتاب لغير القادرين على القراءة. إنها تذكرنا بتاريخ الخلاص كله وبصنيع الله وبأسرار تدبيره الإلهي.
– أنها تعليم صامت للتشبّه بمثل القديسين.
– أنها قناة لانسكاب النعم الإلهية. فهي صلة وصل بالنعمة وبها ومن خلالها يوزع الله إحساناته وعطاياه علينا. فهي تشترك، بشكل من الأشكال، في قوة النموذج الأول، الذي تمثله وفي صلاحه. ويمكننا القول بأن النعمة الإلهية، والعمل الإلهي يقيمان ويسكنان في الأيقونة كما يسكنان في البقايا المقدسة.
فالقديسون منذ حياتهم على الأرض كانوا مملوئين من الروح القدس وبعد موتهم لم تبتعد النعمة الإلهية التي بالروح القدس، عن أرواحهم ولا عن أجسادهم في القبور، ولا عن أيقوناتهم المقدسة. ليس لأنها تلازمهم جوهرياً، ولكن لأنها من خلالهم، تعملالبركات[9].
هذه ليست فكرة الدمشقي وحده بل هي أفكار الآباء الأرثوذكسيين أجمع، الرأي الذي تبنته الكنيسة في المجمع المسكوني السابع، الذي دافع عن تكريم الأيقونات وأعطانا مثل هذه التوصيات.
إن ما أراد الأرثوذكس قوله هو أن الله يقبل منا الإكرام فيكافئنا بالمعجزات أحيانا، حين نكرمه من خلال تكريمنا للأيقونات المقدسة وبقايا القديسين.
[1] Germain I, De haersibus et Synodis; P.G. 98, 80a
[2] Jean Damascene, or. I; P.G. 94, 1236C
[3] Jean Damascene, P.G. 94, 1245A
[4] Mansi, xIII, col.377 D
[5] ” في الأيقونات ” . 40، III، عامود 1356.
[6] أنظر على الأخص ” في الإيمان “. 33 , III.
[7] ” في الإيمان ” 11 , 4، II.
[8] І, 21 , col. 1253
[9] ” الأيقونات ” І, 19, c