السجدة
نيكيفوروس فولغين
(من الأدب الروسي)
كان الوقت مساءً حين انضمّ أحد الغرباء إلى الحجاج. كان يرتدي قميص جندي، حافي القدمين، مرقّع السروال، شعره أسود مائل إلى الحمرة، طويل القامة. كان يحمل على ظهره صِرّةً وجزمة مغبّرة. كانت عيناه كعيون الذين اجتازوا أكثر من طريق، وغالباً ما ناموا تحت النجوم في السهول والغابات، الذين لامسهم السلام الرهباني ولكن نفوسَهم لا تنام.
باخوميوس، أحد الحجاج المختَبَرين، وكان مشلول اليد، نظر إلى الشخص المجهول وابتسم وكأنما للترحيب به. هذا واحد من رجال الله. نظرته كانت هادئة لكنّ نفسه لا.
سألهم المجهول: “أمن الممكن أنكم متوجّهون إلى الدير؟”
“نعم، إلى دير أيقونة والدة الإله”.
“هل لي أن آتي معكم؟”
“بسرور يا رجل المسيح”.
ساروا بمحاذاة النهر القديم واغتسلوا بنور الشمس المتلاشي. عبروا بحقول نوفوغورد النامية سائرين نحو الدير البعيد القائم في الغابات، ونحو أيقونة والدة الإله المعروفة في كل روسيا، في الدير المعروف بترتيل نوفوغورد القديم وبصوت أجراسه الفضيّة الحاد. ومع عابر السبيل الجديد، كانوا جميعاً خمسة سوّاح. كان باخوميوس العجوز الأشعث ذا عينين واسعتين، يرتدي قبّعة جندي شتوية وجزمة حقيرة، صاحب هيئة حكيمة ورقيقة. أمّا هيلاريون فكان ذا لحية، يلتفّ بقفطان طويل يشبه الجبّة، متجهّماً ونحيلاً، يبدو وكأنّه من سكان الصحراء. فوكلا كانت تسير منحنية يغطّيها وشاح رهباني أسود، تردّد صلاة يسوع طوال رحلتها. ومعهم كان أنتوشا، صبي عاري القدمين، شاحب، ذو عينين واسعتين يظهر فيهما الرعب، يلبس قميصاً أبيضاً طويلاً من دون زنّار، ويحمل باقةً من الأزهار البرية في يده النحيفة. كان أنتوشا يسير في الخلف بخطوات هادئة ضعيفة، وقاره كان غريباً وغير طفوليّ.
اندمجت مشية الحجّاج الموزونة على الصلاة بظلام الصيف، خشخشة العشب، خرير النهر، جذوة الشمس الغاربة، والبصيص البارد لنجمات المساء. سأل باخوميوس: “وأنتَ مَن تكون أيها السيّد الكريم؟”
فأجاب بهدوء “أغناطيوس مولومسيف”، وأطرق برأسه.
ارتعد الحجّاج وظهر الرعب في عيونهم الريفية الهادئة.
“أأنتَ مولومسيف نفسه الذي…”
لكن مولومسيف لم يترك باخوميوس ينهي، وأجاب بثبات: “نعم أيها الإخوة، أنا هو مولومسيف نفسه، الذي قَتَل وسَلَب، شرب الفودكا في كؤوس الذبيحة، وأطلق النار على الأيقونات. نعم، هذا أنا، قاتل أرثوذكسي، حيوان, لكن لا تفزعوا منّي. سامحوني من أجل المسيح”. وارتمى على ركبتيه أمامهم وانحنى ساجداً.
راحت فوكلا ترسم إشارة الصليب مراراً ماسحةً دموعها بطرف وشاحها الرهباني. أحنى هيلاريون رأسه الشائب. تنهّد باخوميوس بعمق. أمّا أنتوشا فراح يصيح مرعوباً، خبط يديه، سقط على الطريق وراح يتخبّط متشنّجاً فيما الرغوة طفرت من فمه.
ابتدأت فوكلا بالصلاة مباشرةً “أنتوشا يا زهرتي البيضاء الصغيرة، فليكن الرب بعونِك. فلتحمِ والدة الإله هذا الولد أنطون وتعزّيه. احفظيه من كل أذى ومن كل حزن. تعالي إلى معونته. ساعديه”. وفيما كانت تصلّي، كانت ترسم إشارة الصليب على جسده الصغير بشكل مستمر. وضعوا أنتوشا على العشب، وجلسوا بقربه بانتظار انتهاء النوبة. لقد كان مؤثّراً بصورة خاصّة في قميصه الطويل، شاحباً مائلاً إلى الزرقة، مرهقاً بالتشنّجات، فيما يمسك بإحكام تلك الباقة من الأزهار البرية بيده الصغيرة الضعيفة.
هَمَس باخوميوس بهدوء لمولومسيف: “إنّه يعاني من هذه النوبات منذ سنتين. لقد عانَت نفسه الملائكية الصغيرة كثيراً. لقد أُردي أبوه وأمّه أمام عينيه. ألم تعرف النبيل كولوفانوف مالك الأرض؟”
“كولوفانوف”، وبدأ مولومسيف يرتجف وصار شاحباً كالأموات، “ولكن إنّه ذاك…”
لم يترك هيلاريون مجالاً لمولومسيف ليكمل، بل قال له: “هذا ابنه.”
“كم أنا ملعون!” انتحب مولومسيف. “إذاً، هذا هو، تلك الحمامة الصغيرة، ذلك الصبي الشاحب، الذي ضربته بقبضتي في ذلك اليوم. كان ذلك في مساء خريفي حين ذهبنا لنُعدِم آل كولوفانوف”، راح مولومسيف يتذكّر نادباً بعمق، فيما بدت في عينيه الواسعتين نظرة مخبولة. “كان الطقس عاصفاً، موحلاً، مثلجاً، وخلفنا مشى أنتوشا. كان حافي القدمين، من دون قبعة، وليس عليه سوى ثيابه الداخلية. لقد كان يركض من شارع إلى شارع ويصرخ: “لا تقتلوا أبي وأمي. أرجوكم، أيها الأعمام الأعزاء، لا تقتلوهم”. ضربته بقبضتي كي يتوقّف. قتلنا آل كولوفانوف. سقط أنتوشا على أجسادهم وراح يصرخ. منذ تلك اللحظة وطوال حياتي لن أنسى ذاك الصراخ. ليس هناك ما يحجبه. إنّه يحرقني ولا يترك لي أيّ راحة. لا تمرّ ليلة من دون أن أحلم بذاك الصبي. ابتدأ ضميري يعذبني. لقد أحرقني حتى الجنون. أخيراً، لم أعد أستطيع تحمّل أعمالي الشريرة، فهربت، في الشتاء، لابساً قميصاً رقيقاً فقط، إلى الساحات المكتظّة. سقطت على ركبتيّ ورحتُ اسأل الناس المغفرة. اعتبَروني مجنوناً وحبسوني بعيداً. لكنيهربت من هناك وتحوّلت إلى سائح. إنها سنتي الثانية في التجوال على الطرقات الروسية على أمل رحمة المسيح”.
سقط مولومسيف أمام أنتوشا وقبّل قدميه، “أيها الشهيد”، صرخ، “أنا البائس البغيض قد سبّبتُ لك هذا العذاب. سامحني أيها الصدّيق. اغفرْ لحقارتي. أنتَ شاحب هزيل محروم من دم الحياة بسببي. اغفر لي”.
نظر الحجّاج إلى مولومسيف بصرامة، كما ينظر القديسون في الأيقونات. عندما استيقظ أنتوشا، رفعه مولومسيف بين ذراعيه، ومجدداً ساروا بخطى موزونة تحت بصيص النجوم الزرقاء إلى الدير البعيد.
(From The Earth’s Name’s Day, a collection of Russian stories for children. Translated by Natasha Lord.)