الأرشمندريت توما بيطار
يا إخوة، كلّ تصرّف يأتيه الرّبّ يسوع إنّما هو ناجم من حنانه. الرّبّ الإله يكون مدفوعًا بحنانه، حين يطعمنا؛ ويكون مدفوعًا بحنانه، أيضًا، حين يؤلمنا. ليس في يسوع أيُّ أثر للقسوة. يسوع كلّه حنان؛ ومن حنانه نستمرّ ونثبت؛ ومن دونه، لا نستطيع شيئًا، على الإطلاق. الجموع مكثت مع يسوع، ثلاثة أيّام. كانت مأخوذة به، وكان هو كلّ شيء، بالنّسبة إليها. كانت كأنّها خارج ذاتها. الرّبّ يسوع فيه من الحلاوة والجاذبيّة ما يستأثر بالنّفوس، إذا ما انفتحت عليه، إذا ما التمسته بكلّ صدق وأمانة. والحقّ أنّ الإنسان كان أصلاً من أجل أن يمكث مع الله. بمكوثه مع الله، يحقّق الإنسان إنسانيّته؛ وبانصرافه عنه، يفقد إنسانيّته. إلى ذلك، نحن، هنا، على الأرض، لا همّ لنا ولا اهتمام سوى يسوع. “إن عشنا، فللرّبّ نعيش؛ وإن متنا، فللرّبّ نموت؛ فإن عشنا وإن متنا، فللرّبّ نحن” (رو14: 8). يسوع هو طعامنا، حتّى في مستوى الجسد. لهذا السّبب، أعطانا جسده ودمه خبزًا وخمرًا، لندرك أنّه يعطينا ذاته مَنًّا سماويًّا، لنأكل ونشبع في النّفس وفي الجسد، أيضًا. كثيرون بين القدّيسين كانوا يكتفون بهذا الخبز السّماويّ. كانوا يكتفون، إلى ذلك، بما يرسله إليهم الرّبّ، بملاكه، من فوق. القدّيس مرقس النّاسك الأثينائيّ نسك، في ما قيل، أكثر من تسعين سنة، وكان كلّه متّجهًا إلى فوق. نسك في موقع دلّه عليه ملاك الرّبّ، على الحدود اللّيبيّة، وكانت النّاحية الّتي أقام فيها جرداءَ بالكامل. لذا، نقرأ في سيرته أنّه كان يأكل ترابًا، على مدى ثلاثين عامًا. وقد عاش إلى سنّ المئة والسابعة عشرة. وقد ورد، أيضًا، أنّه، حين كان يحتاج إلى طعام، كان ينظر إلى زاوية من زوايا الموضع الّذي نسك فيه، فيجد المائدة السّمويّة ممدودة. وكان يأكل؛ وبعد ذلك، يرفع ملاك الرّبّ الطّعام المتبقّي إلى فوق. وقد شهد لذلك راهب أوفده الرّبّ الإله إليه، إلى مرقس، قبل وفاته بقليل. وفيما كان مرقس يكلّم الرّاهب بشأن سيرته، إذا بملاك الرّبّ يُنزل من فوق طعامًا ساخنًا؛ فقام الاثنان إلى المائدة، وتناولا منها.
يا إخوة، إنّ الرّبّ يسوع، إذ يعطينا جسده طعامًا جديدًا، يعطينا، في الحقيقة، العالم كلّه جديدًا، ويعطينا إيّاه طعامًا سماويًّا، أيضًا. جسد الرّبّ يسوع من تراب الأرض. الرّبّ يسوع اتّحد، بالجسد، بكلّ شيء في هذه الخليقة، سوى الخطيئة، طبعًا. لهذا السّبب، الإنسانُ الجديد، الّذي اعتمد بالماء والرّوح، لم يبقَ تعاطيه لهذا العالم تعاطيًا مادّيًّا، أو نفسيًّا، إنّما صار تعاطيًا بشريًّا إلهيًّا. نحن في كلّ شيء نلتمس النّعمة الإلهيّة، نلتمس الحضرة الإلهيّة. الرّبّ الإله منبَثٌّ، كنور، في كلّ العالم. ممّا يُقال عن القدّيس غريغوريوس بالاماس إنّه كان يرى العالم كلّه يسبح في نور الله الخارج من جنب يسوع. العالم، بعدما تجسّد ابن الله، صار يسبح في النّور الإلهيّ. النّور الإلهيّ نفذ في كلّ شيء، في كلّ الخليقة. لذلك، تعاطينا للعالم الجديد – وعالمُنا تجدّد بيسوع – هو تعاطٍ أسراريّ، هو تعاطٍ للإلهيّات في علامات محسوسة بشريّة. عمليًّا، إذًا، الرّبّ يسوع المسيح، إذ يعطينا جسده ودمه، يعطينا العالم كلّه جديدًا. وحركة “ضدّ المسيح”، في العالم، هي الحركة الّتي تُصرّ على الفصل بين ما لله وما لهذا العالم، على جعل الرّوحيّات كأنّها خارج الخليقة الّتي نحن فيها. حركة “ضدّ المسيح” تسعى، أبدًا، للتّنكّر للتّجسّد الإلهيّ، ولإفساد مفاعيله في أذهان النّاس، وللجـِدّة الّتي دخلت العالم.
من هنا، يا إخوة، نحن، كبشر مؤمنين، لا نتعاطى شيئًا، أبدًا، في حياتنا، إلاّ أسراريًّا. غير صحيح أنّ هناك، فقط، سبعة أسرار. طبعًا، هذه أسرار بارزة، يعطينا الرّبّ الإله نفسه فيها، بصورة مميّزة. لكن، كلّ شيء في حياتنا بات أسراريًّا، بعدما تجسّد ابن الله من البتول. نحن، حين نريد أن نتناول بعض الأدوية، مثلاً، لا نتعاطى الأدوية باعتبارها أدوية، فقط؛ بل باعتبارها علامات منظورة لحضرة الله غير المنظورة. لهذا السّبب، حين نأخذ حبيبات من الأدوية، نصلّب عليها. ومن دون إشارة الصّليب، لا يليق بالإنسان المؤمن أن يتعاطى شيئًا، في هذا الدّنيا. ما لا يُصَلَّب عليه، فلا يجوز أن يُتناول. لذلك، علامة الصّليب هي علامة الحضرة الإلهيّة؛ وهي، من قـِبَلـِنا، فعل إيمان أنّنا نؤمن بأنّ العالم كلّه قد انبثّ فيه نور الله؛ وبتنا نشارك، من خلال المنظورات، في غير المنظورات، في النّور الإلهيّ، أوّلاً وقبل كلّ شيء. المهمّ أن نمتلئ من نعمة الله، من روح الله، أن نصير كائنات نورانيّة، بكلّ معنى الكلمة: “أنتم نور العالم”! نور العالم لا بالمعنى المجازيّ، أبدًا، بل بالمعنى التّجسّديّ. نحن نور العالم، وباقون نور العالم؛ لأنّ الرّبّ الإله ارتضى أن يتّخذنا، وأن يقيم فينا. بعد ذلك، كلّ شيء، في سيرتنا كمؤمنين، هو تفصيل. لكن، إذا ما افتقدنا هذ الرّؤية للأمور، هذا الموقف من الخليقة؛ فإنّنا، إذ ذاك، نجعل أنفسنا خارجًا، ولا يمكننا أن ندخل، ولا بحال من الأحوال، في التّيّار التّجسّديّ، تجسّد ابن الله؛ فإنّ ابن الله، إذ تجسّد، نقلنا من واقع الإنسان العتيق إلى واقع الإنسان الجديد، ومن واقع الخليقة العتيقة إلى واقع الخليقة الجديدة، ومن الواقع البشريّ البحت، الجسدانيّ والنّفسانيّ والفكريّ، إلى الواقع البشريّ الإلهيّ.
فمَن له أذنان للسّمع، فليسمع.
- * عظة في السّبت 8 آب 2009 حول متّى15: 32- 39