خريسوستوموس حاجي لامبرو
نقلتها إلى العربية جولي عطية
يوجد ارتباط مباشر بين تشديد اللاهوت الأرثوذكسي على خلق الناس على صورة الله وبين فهم الأرثوذكسية لمفهوم الحقوق. كونهم خليقة الله (متى 19: 14، أعمال 17: 28)، مُنحَ الناس إمكانية التشبّه بخالقنا ومشاركته ملامح طريقة وجوده. نحن نتفاعل مع الآخرين في علاقة اجتماعية حرّة في المحبة من دون الحاجة لقيود قانونية ومعاهدات اجتماعية وحدود. هذه مقاييس وُضعت للحدّ من إمكانية خرق القوانين.
بالنسبة للمسيحي، لا يُعتَبَر الله الخالق وحَسْب بل هو أبّ لنا كلّنا، لذلك فكلّ المسيحيين أخوة. البشرية جمعاء هي وحدة واحدة غير منقسمة، والله الثالوث هو في مركز وجودها. لذلك، نُدعى للارتقاء من مجرّد التعايش البيولوجي مع المختلفين عنّا إلى تأليف جماعة أصيلة وإلى تقبّل التنوّع والاختلاف. يجدر بنا العيش بانسجام مع الخليقة بأجمعها في شركة محبة وفقًا لمثال الخالق، لكي تنتفي الحاجة إلى تقديس الحقوق الفرديّة، فهذه الحقوق سوف تزدهر كنتيجة للحرية والمحبة غير الأنانية، على مثال الثالوث القدوس.
فيما يتعلّق بمسألة قبول حقوق الإنسان واحترامها في أيامنا، تكمن المشكلة الأساس في تزايد القومية والقدرة المثيرة للإعجاب التي تملكها مختلف الحكومات والتحالفات الحكومية في العالم على الدفاع عن نفسها وعلى حماية مصالحها السياسية والاقتصادية، وذلك على حساب حرية الإنسان وكرامته، وعبر استعمال أيّ طريقة متاحة تقوم على القمع والعنف. لقد قامت حقوق الانسان على القناعة القائلة إنّ كرامة الإنسان تساوي حريته لا إبداعه الثقافي. لا تُستَمَدّ الهويّة من التقاليد الثقافية بل من مجموع الحضارة الإنسانية.
إنّ إدراج حقوق الإنسان ضمن القانون الدولي يعني أنّ الدولة لم تعد الضامن الوحيد للحقوق. مع هذا فإنّ تسليع الثقافة (أي تحويلها إلى سلعة) وتدخّل المصالح الاقتصادية والسياسية لا يمنعان خرقها. بالنسبة للاّهوت الأرثوذكسي، البحث عن حقوق الانسان وبناء هذه الحقوق لا يكمنان في القانون الطبيعي ولا في حسن سير المجتمع، بل يرتكزان على قاعدة مركزيّة مختلفة وهي الوجود الأخروي للإنسان ضمن جماعة أشخاص يتقدّسون، بحرية ومحبة للآخرين وبعيدًا عن الأنانية. رغم أنّ اللاهوت الأرثوذكسي لا ينكر القانون الطبيعي، كما تفعل البروتسانتية، ولا ينكر المؤسسات الاجتماعية المنبثقة منه، إلا إنّه لا يعتبره مطلقًا مثلما تفعل كنيسة روما، بل يضعه في إطار تجديد العالم “في المسيح”.
لا ترتبط حقوق الإنسان بالمبادئ المجرّدة أو بالمراسيم الرسمية بل بالناس وبكرامتهم. هي ليست صيغ أو تعابير جامدة بل واقع متحرّك يتطوّر مع تطوّر مظاهر الظلم في جميع أنحاء العالم. تؤكّد المادّة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الانسان على قيمة الحرية ومساواة الإنسان مع الآخرين. وتنبع هذه المظاهر من العقل والوعي للوجود الإنساني، وترتبط بالأخوّة كما بالتعاون والتعايش السلميَين.
رغم أنّ تشريعات حقوق الإنسان تعتبر أسمى هدفٍ للبشرية، نراها تُخرق في حالات من “الشرعية”، في كل يوم وفي جميع أنحاء العالم. إنّ النقلة الانتروبولوجية على مستوى الحداثة بالإضافة إلى طريقة فهم الأخلاقيات المستقلة أدّتا إلى نشوء إنسانية أخلاقية وفردانية غير محدودة. تحوّل الناس إلى حكّام على الواقع، وأخضعوا كلّ شيء لمصالح تنفعهم وتتمحور حولهم. تشكّلت المؤسّسات والتركيبات الاجتماعية، كما وتنظيم الحياة الخاصة والاجتماعية، على أساس إرادتنا الحرّة. في سياق هكذا حرية شخصية، يصوغ كلّ إنسان أخلاقياته الفردية والشخصية، ويضعها فوق كل شخص آخر، وبالتأكيد فوق الأخلاقيات الأخرى، مما يسبّب انتهاكًا لحقوق الإنسان.
يكمن الخطر الأكبر لحقوق الإنسان في توسّعها. بات كلّ ادّعاء شخصي وطلب فردي يمثّل حقًّا فرديًّا يبذل الإنسان كلّ جهده لتحقيقه. أمّا الأرثوذكسية فهي ضدّ الفردانية. يرتكز انتقاد الأرثوذكسية لمسألة حقوق الإنسان على مسألة الذاتية. فالخلاص الفردي غير ممكن من دون خلاص الآخرين، وحرية الأشخاص ليست سوى مسألة مجتمعية واجتماعية. بالنسبة للاّهوت الأرثوذكسي، تكمن مشكلة انتهاك حقوق الانسان في نقص البعد الروحي في المجتمع المعاصر.
بالتأكيد، الطريق إلى الخلاص الفردي تمرّ عِبرَ مؤسّسات العالم الاجتماعية والثقافية، ولهذا السبب لا تستطيع الكنيسة أن تفصل نفسها عن العالم ولا تنسب خلاص البشر إلى حالة غامضة بعد الموت. نموذجها الانتروبولوجي هو المسيح نفسه. فمن أجل خلاص العالم، يتمّم المسيح مهمته في توحيد الناس مع الله وفي تجديد الإنسان، وذلك بمثابة عطية حرّة. هنا لا يتمّ فهم الحرية على مستوى فردي بل من حيث المحبة، فهي شركة أشخاص، “كما هو معلن في الاتحاد الأقنومي للثالوث القدوس، في شركة ذات بُعد عمودي مرتكز في القداس الإلهي”.
بالنسبة للأرثوذكسية، الحرية والمحبة المجانية غير الأنانية هي عناصر جهد سياسي معافى يهدف إلى تحسين الحياة السياسية بدلاً من التقديس القانوني للحقوق. لا تلحّ الحرية الإنسانية، والتي هي عطية النعمة الإلهية، على المطالبة بالحقوق، بل تستقرّ في نسيج محبة مغزول بحركة سامية تجاه القريب. قبول اختلاف الآخر يعطي أهمية نسبية لشخصية الإنسان الاجتماعية والسياسية لكن من دون رفضها. طموح الكنيسة هو أكثر جذرية من أي طموح سياسي أو فلسفي. هي لا تهتم فقط بالسلام والعدل ورفاهية الشعب، بل تهتمّ بالأكثر بأن يصير الناس أشخاصًا حقيقيين: بأن يعيشوا كأشخاص لا كمجرّد أفراد في مجموعة، بأن يبدأوا باختبار الأبدية بدل أن يمضوا حياتهم بسلام بوجود قوانين شرعية لا قيمة لها و