الناس المتديّنون خطرون، ليَحمِنا الله منهم*
أثناسيوس متروبوليت ليماسول
نقلتها إلى العربية جولي عطية
لا تُحتوى المحبّة في قوالب المنطق، هي تتخطّى المنطق. وهكذا هي محبّة الله، محبة الله هي فوق إدراك الناس. لهذا السبب، لا نستطيع أن نحكم على الناس المحبّين لله بمعايير منطقيّة. ولهذا السبب، عاش القدّيسون وفقًا لمنطقٍ خاصٍّ بهم. هم امتلكوا منطقًا مختلفًا عن منطق الناس، لأنّ منطقهم كان منطق المحبة. والكنيسة لا تعلّمنا أن نكون أشخاصاً جيّدين، كلا، لأنّ هذا طبيعي، إن لم نَصِر جيّدين فماذا نصير؟ هذه أمور يعلّمونها في صفوف الروضة. تعلّمنا الكنيسة أن نحبّ المسيح، أي أن نحبّ شخص الربّ يسوع المسيح.
في داخل الكنيسة، هناك علاقة تنمو. إنّها علاقة شخصيّة للإنسان مع المسيح، لا مع تعاليم المسيح ولا مع الإنجيل. الإنجيل يساعدنا لنَصِل إلى محبّة المسيح. وعندما نَصِل إلى محبّة المسيح، لا تعود هناك حاجة للإنجيل. لا حاجة لأيّ شيء آخر. يتوقّف كلّ شيء. الأمر الوحيد الذي يبقى هو علاقة الإنسان مع الله. هذا هو الفرق بين الكنيسة والديانة.
يعلّمكم الدين أن تقوموا بواجباتكم، تمامًا كما فعل الوثنيّون، مثلاً: ذهبنا إلىالأماكن المقدسة، أقمنا التسبيح، أخرجنا مالنا ووضعناه في الصندوق، تركنا شموعنا وزيتنا وصلاتنا وأسماءنا وتقدمتنا، كلّ شيء. هذه واجبات دينيّة، لكنّ قلوبنا لم تتغيّر البتّة.بعد أن أتممنا واجباتنا، بقينا كما كنّا من قبل. نحن على استعداد لأن يهاجم أحدنا الآخر، لأن يشهد أحدنا ضدّ الآخر، لأن نكون أفظاظًا تمامًا كما كنّا سابقًا. لا ننشئ علاقة مع المسيح، لأننا نحدّ أنفسنا بواجباتنا الدينيّة.
ولتعلموا أنّ هؤلاء الناس، أي الناس المتديّنين، هم أخطر نوع في الكنيسة. هؤلاء الناس خطرون، ليَحمِنا الله منهم. مرّة عندما كنت أقيم القدّاس الإلهي ووصلنا إلى الجزء حيث أقول: “يا رب خلّص المؤمنين“، قال لي راهب آثوسي ممازحًا: “يا رب خلّصنا من المؤمنين“. بكلام آخر، ليَحمِنا الله من الناس المتديّنين لأنّهم يمتلكون شخصيّة ملتوية لم يسبق أن كان لها علاقة شخصيّة مع الله. هم فقط يتمّمون واجباتهم تجاهه، لا علاقة جدّية بينهم وبين الله. وأعترف لكم من خلال خبرتي الشخصيّة، أنّه لم يسبق لي أن رأيت أعداءً أسوأ للكنيسة من الناس المتديّنين.
عندما يُرغِم المتديّنون أولادهم الذين كبروا في الكنيسة، أكانوا أبناء كهنة أو لاهوتيّين أو حتّى أشخاص آخرين متديّنين، عندما يرغمونهم على أن يصيروا رهبانًا أو كهنة، يصبح هؤلاء الأولاد أسوأ من الشياطين، يثورون على كلّ شيء، يصبحون أسوأ أعداء البشرية. أتذكّر أهلاً كانوا يُحضرون أولادهم إلى أحاديثي، وعندما كان أولادهم يتجاوزون حدودهم، يصبح هؤلاء الأهل أسوأ الناس ويقولون أسوأ الأشياء. فكنت أقول لهم: “لكن أنتم من أحضرتم ابنكم للحديث، لم أحضره أنا“. ومرّة قلت لأبٍ عندما رأيت ابنته تملك غيرة تجاه الكنيسة: “لا تحضرها إلى أحد أحاديثي مرّة أخرى. لا تجلبها لأكلّمها ثانية لأنّ ابنتك ستصبح راهبة وأنت ستلومني غدًا“. “لا يا أبانا فنحن نحبك كثيرًا“، قال لي. وأصبحت ابنته راهبة وما يزال لا يتكلّم معي بعد مرور سبع سنوات على ذلك. هؤلاء أشخاص لم يفوّتوا واحدًا من أحاديثي، كانوا دائمًا أوّل الواصلين. كانوا دائمًا في أحاديثي، في السهرانيات، يقرأون الكتب، لا أعرف، لقد فعلوا كلّ شيء، وكانوا يُحضرون أولادهم. لكن عندما أتى الوقت وأصبح الأولاد أحرارًا واختاروا طريقهم، ما لبث الأهل أن عاكسوهم وأثبتوا أنّ المسيح لم يسبق له أن كلّمهم في داخل قلوبهم. هم مجرّد أشخاص متديّنين. ولهذا السبب هؤلاء الناس هم أصعب نوع في الكنيسة. هل تعرفون لماذا؟ لأنّ هؤلاء الناس لن يُشفوا أبدًا. لأنّكم تظنّون أنكم بقرب الله، بينما الخاطئون، أو لنقُلْ التائهون، يعرفون أنّهم خاطئون. وبسبب هذا قال المسيح إنّ العشّارين والزواني سيدخلون ملكوت الله، بينما قال للفريسيّين: “أنتم المتديّنون لن تدخلوا ملكوت الله“، لأنّ كلمة الله لم تغيّر أبدًا قلوبهم، هم ببساطة يتماشون مع النوع المتديّن.
لذلك، لنهتمّ أن نفهم أنّ الكنيسة هي مستشفى يشفينا ويساعدنا على محبّة المسيح، ومحبّة المسيح هي شعلة تضطرم في قلوبنا.ولِنفحصْ ذواتنا إذا كنّا في محبة الله، فإذا رأينا في داخلنا الرذائل والأنانيّة والخبث، علينا أن نقلق، لأنّه يستحيل على المسيح أن يكون في قلبنا وأن يكون قلبنا مملوءًا خلاًّ.
كيف بإمكاننا الصلاة ونحن ممتلئون حقدًا تجاه شخص آخر؟ كيف بإمكانكم قراءة الإنجيل وأنتم لا تقبلون أخيكم؟ كيف بإمكانكم القول إنّكم كنتم داخل الكنيسة لسنوات عديدة، أو أن أقول إنّني راهب ورجل دين، بينما لم تبلغوا بعد المرحلة الأساسيّة للحياة الروحية والتي هي المحبّة. أين المحبّة؟ أين قدرة التحمّل في التعامل مع أخيكم؟ يجب أن تكونوا صبورين قليلاً، إن كنتم لا تقبلونه فهذا يعني أنّكم لا تملكونها. لا تملكون شيئًا، لا شيء على الإطلاق. وصل المسيح لدرجة قال فيها للعذارى إنّ لا علاقة تربطه بهنّ. أخرجهنّ من الخدر رغم أنهنّ امتلكن الفضائل جميعها، لكنّهنّ افتقرن إلى المحبة. أراد أن يقول لهنّ إنّهن ربّما اقتنين الفضائل جميعها من الخارج، وربّما حافظن على بتوليّتهنّ وامتلكن آلاف الأمور، لكنّهنّ لم يستطعن امتلاك جوهر ما يهمّ فعلاً.إذا لم تستطيعوا اقتناء هذا، لماذا تقتنون أيّ أمر آخر؟ ما الهدف إن لم آكل الزيت اليوم ولا غدًا؟ رغم أنني لا آكل زيتًا، أستطيع أن آكل أخي نهارًا وليلاً. في جبل آثوس، يطلبون منّا أن لا نسأل إذا أكل أحدٌ سمكًا. لا تأكلْ صيّاد السمك، لكن كُلِ السمك. لا تأكلْ الرجل الذي يستخرج الزيت، لكن كُلْ ملعقة زيت. أن تأكلوا بعضكم بعضًا بلسانكم هو أسوأ بكثير من أكل ملعقة زيت. إلاّ أنّنا كذلك، قد نتشاجر إذا غمّستَ ملعقتك في طعامي، وقد يقتل أحدنا الآخر لأنّك أخذت الطعام منّي. هل تدركون مدى سخافة هذه الأمور؟ وليست الشياطين وحدها التي تسخر منّا، بل يسخر منّا من هم خارج الكنيسة أيضًا. وعندما يقتربون منّا، بدلاً من أن يروا أبناء الكنيسة يتحوّلون عبر يسوع المسيح ليكونوا أناسًا طيّبين وناضجين، متوازنين وموحّدين ومملوئين انسجامًا، يروننا مع كامل أهوائنا ومرارتنا ويقولون: “هل هذا ما سأصبح عليه؟ سأكون أفضل من دونه“.
أنتم يا من تذهبون إلى الكنيسة، كيف أفادتكم الكنيسة؟ كما قلنا البارحة، ذهبنا إلى الأماكن المقدسة، أقمنا التسبيح، رأيتم آباءكم، رأيتم الذخائر المقدّسة، رأيتم الجبل المقدّس، رأيتم العذراء في تينوس، رأيتم كلّ شيء، وَعُدتُم الآن. في النهاية، ما هي فائدة هذه الأمور كلّها؟ هل تغيّرت قلوبنا، هل أصبحنا أشخاصًا أكثر تواضعًا؟ هل نحن أكثر طيبةً؟ هل أصبحنا أكثر وداعةً في بيوتنا وضمن عائلاتنا وفي أديرتنا وحيث نعمل؟ هذا أمر مهمّ. متّحدين في التوبة، لِنَكُن متواضعين. إذا لم نستطع إتمام ذلك، فنحن نستحقّ دموعًا كثيرة، سنكون في حالة يُرثى لها، لأنّ الوقت، للأسف، يمرّ ويضيع، وسنونا تُحتسب.
كانوا يسألون الشيخ باييسيوس: “كم سنة لك في الجبل المقدس؟” فيقول: “جئت في السنة نفسها التي جاء فيها بغل جاري”. كان جاره هو المسنّ زيتوس وكان يملك بغلًا، وتعرفون أنّه يوجد حيوان في كلّ قلاية في جبل آثوس، وهو بغل، لكي ينقل الأشياء. حسنًا، يعيش هذا الحيوان سنين عديدة ولا تشتري بغلاً كلّ يوم لأنّه مكلف. لذلك قال إنّه أتى إلى جبل آثوس في السنة نفسها التي اشترى فيها جاره البغل. كان لهم المدّة نفسها في جبل آثوس، لكنّ البغل المسكين بقي بغلاً وبقي على حاله ولم يتغيّر. غالبًا ما نقول إنّ لنا أربعين سنة مثلاً في عمل شيء ما، بخاصّة نحن الكهنة والرهبان. بقيت في دير لمدّة أربعين سنة، قد يقول راهب. لكنّ هذه السنوات هي ثقل عليك. يقول لك الله: “أربعون سنة ولم تستطع بعد أن تصبح شيئًا؟ لك أربعون سنة وما زلت تغضب؟ ما زلت تدين؟ ما زلت تناقض نفسك؟ ما زلت مقاومًا؟ ما زلت تابعًا؟ لك أربعون سنة ولم تتعلّم بعد المبادئ الأساسيّة للحياة الرهبانيّة والحياة المسيحيّة؟ ماذا أفعل بسنيك؟ ماذا أفعل إذا كان لك خمسون سنة وأنت لا تستطيع أن تجيب شخصًا بكلمة جيّدة؟ ماذا أفعل بهذا الأمور كلّها؟”.
هذه كلّها ثقل علينا. وأقول ذلك أولاً لنفسي. هي تنطبق عليّ أولاً، وأعرف من خلال خبرتي، ولهذا فأنا أقول لكم. تفكّرون أنّ ما أقوله موجّه لكلّ واحد منكم. تقولون: “هو يتكلّم عنّي”. أنا لم أقلْ هذه الأشياء لكم. قلتها لنفسي، لي أولاً.
نقول هذه الأمور كلّها لكي نصبح أكثر تواضعًا، لكي نغلق أفواهنا، عندما تتحرّك فينا الأنانية، وهي للأسف تسخر منّا وتجعلنا نبدو حمقى أمام الله. إذا صِرنا متواضعين وصامتين وكان لنا فكرة عن أنفسنا، سنستطيع، رويدًا رويدًا، أن نبدأ بتغيير أنفسنا بتوبة هي ثمرة التواضع. من لا يبرّر نفسه يتواضع، من يبرّر نفسه لن يتُب أبدًا. من يتوبون خارجيًّا لن يتعلّموا أبدًا معنى التوبة، لأنّهم يبرّرون أنفسهم من الداخل. لذلك، لِنفحصْ أنفسنا. افحصوا أنفسكم، يقول الرسول. افحصوا أنفسكم إذا كانت محبّة الله في داخلكم.وليس فقط هذا بل لِنفحصْ إن كنّا نعيش في التوبة، حتّى يشفي الله وجودنا. لتكنْ علاقتنا بالكنيسة لشفائنا. لنصِرْ أشخاصًا شُفيوا من أهوائهم وخطاياهم.
يسأل العديد من الناس كيف بإمكاننا تحقيق ذلك. كيف نبلغ ذلك؟ عندما نترك ذواتنا في يدي المسيح الطبيب الجيّد. عندما نترك أنفسنا بثقة بين يدي الله في ظروفنا ومصاعبنا. يعلم الله حاجة كلّ واحد منّا وهو سيقودنا في تلك الطرق التي تؤّدي بنا، رويدًا رويدًا ومع مرور الوقت، إلى الكمال. يكفي بنا أن نعهد بأنفسنا إلى الله تمامًا كما نعهد بأنفسنا إلى طبيبنا، أو بما أنّنا الآن على قارب، كما نعهد بأنفسنا إلى قبطان السفينة. علينا أن نملك الثقة. هو يقودنا ولا نقلق إلى أين يأخذنا أو متى سنصل، لأنّنا نعرف أنّ الشخص الذي يقودنا هو بكامل قواه العقليّة ويعرف الطريق، وهو يقظ وحريص.
* مقتبس من عظة موجّهة إلى مجموعة من الحجاج تحت عنوان العلاج من مرض الرياء-الفريسيّة Pharisaism