الأب الروحي
ماريا قباره
الأب الروحي حالةٌ في كنيستنا نراها بالكاهن الذي يمارس سرّ التوبة والاعتراف. وقد يكون هذا الأب كاهناً أو راهباً، والأبوة لا تتحقق فقط بالدراسة أو بالتعليم بل بالتلمذة والخبرة الطويلة فهي موهبة ودينونة، نعمة ومسؤولية أمام الديَّان العادل. وفي التراث الأرثوذكسي الأب الروحي من تجرَّد عن كلِّ هوى واستكان بالروح القدس حكمةً وتمييزاً وتجلّى فيه فكر المسيح وطاعته، فهو يرى النفس البشرية المحبوبة من اللّه متألمة بخطاياها التي تعترف بها، ومن هنا فالعلاقة الصحيحة بين الأب الروحي وابنه هي العلاقة الموضوعية التي لا انفعال فيها ولا هوى يسوقها.
هناك تشوش مابين حالة الأب الروحي والأب المعرِّف، فالكنيسة كأمٍّ مقدِّسة لأبنائِها رأت في ممارسة سرّ التوبة والاعتراف ضرورة حيويّة لنقاوة أبنائها، أمّا دور الأبّ الروحي فيتجلّى في تبني التدريب المتواصل لمسيرة الشخص الروحيّة، لذلك لا يمنع أن نمارس سرّ الاعتراف بمعزلٍ عن أبينا الروحي بسبب ظروف قائمة وهذا لا يلغي دور الأب الروحي ولا يبطل أبوته وبنوتنا لأنّنا في النهاية آباءً وأبناءً نلتمس وجه الرّب يسوع، فهو أبونا ومعلُمنا الوحيد ويختار أقنيته للتواصل معنا كما يشاء هو ويرتأي.
أمّا إغراء الاعتراف عند الكاهن البتول بدلاً من كاهن الرعية المتأهل فهو إلى ازدياد لا وعي ولانضج فيه للطرفين، وهذه العادة إن دلّت على شيء فهي تدّل عن عدم وعينا للروح الكنسيّة الأصيلة التي يجب أن نكون عليها، فالنعمة التي أُخذت في الشرطونية هي نفسها للخادمَين. ونحن خير من يعرف من التقليد أنّ الرسل عندما دعاهم الرّب للبشارة كان لهم عائلات، فقد كانوا متزوجين عدا الحبيب يوحنا. والبتولية بمعناها العام والمفترض هي الحبّ الأكثر للسيد نسكاً وخدمةً وبالنتيجة موهبة وعطية، وهذا هو تعليم آباء الكنيسة على مختلف العصور.
وقد حذرنا هؤلاء الآباء من تجربة في غاية الخطورة وهي الإعجاب بالأب الروحي بطريقة تؤدي إلى إعاقة حياتنا الروحية إذ إننا نقف عند أبينا كمثالٍ وليس عند اللّه ونسعى إلى أن نصبح نسخة أخرى عنه وليس كما شاء اللّه لنا أن نكون، وهذا يعني فيما يعنيه أننا لا نجيد الانفتاح على اللّه بل بطريقة ما ننغلق على مشيئتنا حتى ولو كان يظهر لنا وللآخرين بما فيهم أبينا الروحي أننا نمتلك فضيلة الطاعة. فغاية الأبوة الروحيّة أن يتجلى المسيح فينا كما نحن وليس كما هو. وينبهنا القدّيس السلمي في كتابه “السلم إلى اللّه” إلى ضرورة الحرص في إختيارنا للأب الروحي لأنَّه قد يقع في فخ السيطرة وتحقيق المشيئة الذاتية بظلّ وجودِ هكذا أبناء. في حين أنّ الأب الروحي “الأمين على بيت سيده” (لوقا 17) يسعى بإبنه إلى النضج وإنماء مواهبه وصقلها. وأمّا إن لم تحظَ بهكذا أب (وهذا أقلّه في أنطاكية! وفي العالم بأسره) فكما قال الرّب يسوع في انجيله “لديك موسى والأنبياء” (أيّ الكتب المقدسة). ولكن تبقى خبرة ممارسة سرّ التوبة والاعتراف تحمل من عذوبةِ التعزية ومظهر المحبة الأصيلة المتجلّي في الإصغاء والحوار النادرَين في أجوائنا، فالإصغاءُ فنُ المحبةِ الخاصّ، والاعتراف ليس استجواب ولا دردشة، فالأب المجرّب لايستهجن في سماعه السقطات ولا يبرّر الخطيئة، بل عليه أن يساعدَ هذه النفس فهو أصلاً لن يحمل شيئاً من زلات البشر فالمسيح من حملَ خطايانا. ويسعى بحنانٍ دؤوب إلى معرفة الجذر الذي نبتت منه شجرة الخطيئة هذه، ويجتهد بصبر متوسلاً إلى اللّه أن يرحمنا، فيأتي العلاج حالة شخصية في غاية الخصوصية فالذي يقال لهذا لا يقال لذاك ولا يطبّق عليه. والتعاطف بين الابن والأب الروحي ضرورة وحاجة، وهذا لا يعني أن الأب الروحي يفتش لأن يكون محبوباً بل حرّاً من أيّ مديح ومتواضعاً كما ربه الذي يحبه هو، فالتعاطف يتجلّى كثمرة لعلاقة صحيحة وصحيّة بين الطرفين. وهذا الاستدفاء بين الأب والابن يعطي الطمأنينة والسلام للابن ليمشي قُدماً بطاعة المسيح بعينيّ أبيه، فهو من أعطاه وقته وأصغى إليه وحاوره ونمّاه للرّب لا له، بنعمة وبكنف الروح القدس.