نحو حياة روحية مثمِرة
لماذا لا تؤدّي رغبتنا بعيش حياة أفضل وأكثر قداسة إلى ما نصبو إليه؟
من رسائل غريغوريوس ميتروبوليت نوفوغورد
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
غالباً ما تكون نيّتنا، بأن نصحّح أنفسنا ونحيا حياة مقدّسة، غامضة وغير محددة. هذا هو السبب الأوّل الذي يجعل هذه النيّة بلا نتيجة. على سبيل المثال، إنسان قد أخطأ يقول لنفسه: “إنه وقت مناسب لي لأن أتوقّف عن الخطيئة، وقت لتغيير سبيلي! أنا أتوب! لن أعود للخطيئة!” النيّة هنا غير محدّدة فعلاً. ولهذا السبب، بالرغم من إمكانية كونها صادقة، فهي غير جديرة بالاعتماد وقد لا تحقق الإصلاح المنشود. مَن عنده رغبة صادقة بتغيير نفسه، عليه قبل كل شيء أن يحدد بالضبط ما ينبغي تصحيحه. عليه أن يحدد ما هي خطيئته الكبرى والسبل التي ينبغي به استعمالها في مواجهتها، والأخطار التي عليه تجنبها كي لا يسقط مجدداً في هذه الخطيئة، كونها صارت عادةً وجزءاً من حياته. ينبغي أن يأتي كلّ هذا الفكر وهذا الامتحان للذات أولاً، وعندها فقط يؤخَذ قرار ما، وينبغي أن يكون قراراً محدداً، مثل: “كفى! بمعونة الله أنا لن أقع بعد الآن في هذه الخطيئة أو تلك؛ سوف أقطع هذه العادة الرديئة؛ أنا لن أعاشر بعد الآن هؤلاء الذين شجّعوني على هذه العادة؛ سوف أقطع تلك العلاقة الفاسدة؛ سوف أستعمل الوسائل الفلانية ضد هذه الخطيئة؛ سوف أسلّح نفسي وأحشد كلّ قواي ضدها عندما تبدأ مجدداً بإغرائي”.
الأمر نفسه ينبغي قوله عند اتّخاذ القرار بعيش حياة بارّة. مجرّد أن نقول لأنفسنا “منذ هذه اللحظة سوف أحيا بحسب ما يرضي الله” ليس كافياً بأي شكل. هذا القرار غير نهائي كما ينبغي، ومع أنه قد يكون صادراً من القلب، ليس مؤكّداً بأنّ له أيّ تأثير. مَن يرغب بترك حياة الخطيئة والسلوك في حياة البِرّ، عليه قبل كلّ شيء أن يفحص الالتزامات التي يصعب عليه تحقيقها ولا يرغب في إتمامها؛ ما الذي يمنعه بالتحديد من تحقيقها؛ ماذا عليه أن يفعل، أيّ وسائل عليه أن يمتلك للإيفاء بهذه الالتزامات بشكل أيسر. بعد هذا، عليه أن يأخذ قراراً واضحاً، على مثال: “الآن، بمعونة الله سوف أحاول أن أفي بهذا الالتزام الذي إلى الآن لم أقم به إلا على نحو هزيل؛ سوف أنكبّ على استعمال هذه الوسائل بهدف تحقيقه. مثلاً، عندما يؤذيني شخص ما، سوف أكون أكثر صبراً. سوف لن أبادر إلى الشتائم واللغة النابية، وما هو أفضل، سوف لن أردّ أبداً؛ مع الصحبة الفلانية سوف أكون أكثر حذراً في ما أقول؛ في الأوقات الفلانية سوف أحاول أن أصلّي بحماسة أكبر، هذا ما لم أفعله إلى الآن، وهكذا”. بشكل عام، بقدر ما تكون نيّة الإنسان أكثر تصميماً على تغيير حياته الخاطئة والعيش ببرّ، تكون أكثر ملاءمة لظروفه الخاصّة، لحالة نفسه، علاقته بالآخرين، وغيرها، وعلى هذا القدر يزيد الأمل بتحقيقها. عندما يكون الأمر أكثر تحديداً، يصير توجيه الأفكار والقدرة نحو أمر ما أكثر سهولة، وهكذا بالطبع يصير تحقيق هذا الأمر المرغوب أكثر سهولة.
سبب آخر يجعل نوايانا الحسنة تفشل هو أننا لا نثبت بحزم عند قرارنا. ما أن يمرّ بالجهد يومان أو ثلاثة بعد اتخاذنا القرار، وفيما نحن في روتيننا اليومي في خضمّ اهتماماتنا ومساعينا الدنيوية، حتى ننسى ما عزمنا عليه، مع أننا نكون قد عقدنا هذا العزم بما يكفي من التصميم. لهذا السبب، إذا كنا نرغب فعلاً في تحقيق نيّتنا الحسنة، على كل واحد، كل صباح بعد صلاته الصباحية، أن يستعيد مباشرة إلى ذهنه قراره ويجدّده قائلاً في قلبه: “لقد وعدتُ الله بالتحوّل عن هذه الخطيئة؛ لقد أردت فعلاً أن أنجز هذا التعهّد؛ عليّ أن أحفظ وعدي!” بعد تجديد عزمنا الحسن على هذا المنوال، علينا أن نصلّي بحرارة إلى الله ليمنحنا القوة الكافية للقيام بهذا الأمر. وبالطريقة عينها، ينبغي أن نجدّد عهدنا خلال النهار. وعند المساء، ينبغي ألاّ نمضي إلى النوم من دون أن نتفحّص قلوبنا أولاً لنرى كيف أمضينا النهار: هل حفظنا وعدنا لله؟ وإذا وجدنا أننا خالفنا عهدنا، وقمنا بما هو ضد وعدنا، علينا أن نطلب الصفح من الله مباشرة، ومرة أخرى نجدّد عهدنا وننتبه لذواتنا. بهذه الطريقة يتصرّف المهتمّون بخلاص نفوسهم، وبهذه الطريقة يبلغون الخلاص.
السبب الثالث لفشلنا في تحقيق عزمنا على العيش حياة أفضل، هو خوفنا المفرِط من الصعوبات المرتبطة بهذا التعهّد. لا يمكن بلوغ الحياة المقدّسة من دون عمل، من دون آلام وصعوبات؛ غالباً ما يتطلّب الأمر معركة طويلة وعنيفة. علينا أن نبتعد عن فرص ارتكاب الخطيئة، التي يوجد منها الكثير. علينا أن نضحّي بشتى المتَع الكثيرة الدماثة، أن نتخلّى عن الكثير من المساعي الدنيوية التي تجعل الحياة أكثر إثارة، أن نتحمّل الكثير من الأمور غير الممتعة التي، بسبب محبتنا لأنفسنا، غالباً ما يصير تحمّلها شديد الصعوبة. على سبيل المثال، لقد عقدنا العزم على التخلّص من ميلنا الطبيعي إلى الغضب. لتحويل غضبنا علينا أن نتحمّل بهدوء الكثير مما هو بالنسبة إلينا لا يُحتَمَل، والذي ردة فعلنا العادية عليه هي سيل من الكلمات الفجّة؛ علينا ألاّ نبرر أنفسنا حتى ولو كنّا على حق؛ كثيراً ما علينا أن نصمت عندما نحسّ بحاجة ملحّة إلى الكلام؛ كثيراً ما علينا أن نتنازل للآخرين حتى عندما لا تكون الظروف تتطلب ذلك؛ علينا أن نتحمّل إساءات الآخرين كثيراً ولا نكشف انزعاجنا؛ كثيراً ما علينا أن نرغم أنفسنا على التحمّل بصبر عندما يُفترى علينا أو يُهزأ بنا وكأننا حمقى أو جبناء
. كلّ هذا ينبغي بنا تحمله إذا كنا فعلاً نرغب بتحقيق رغبتنا بالتخلّص من الغضب.
لحفظ النفس من الغضب أو من غيرها من الخطايا تواجهنا صعوبات تبدو عظيمة جداً، من بينها أنّ نفسنا تسقط في القنوط وتبدو كل جهودنا وكأنّها تتبخّر. في هذه الحالات علينا أن نتذكّر الحقائق الإلهية والخبرات القادرة على إعادة معنوياتنا السابقة وقوتنا الماضية، وتعطينا الأمل بترك الخطيئة التي قررنا الابتعاد عنها. إذاً علينا أن نتذكّر أن الإنسان مهما ضعُف، بمعونة الله يمكنه أن يقوم بكل شيء وأن يتحمّل كل الأمور إذا كان يرغب فعلاً بأمر ما ويستعمل لأجله القوة المعطاة له من الله. علينا أن نتذكّر ملايين الأبرار الذي سبقونا وإنكارهم لذواتهم وصبرهم وتحمّلاتهم التي تركوها لنا ولكل العالم مثالاً، علينا أن نتذكّر، قبل كلّ شيء، رغبة الله بإصلاحنا. فبسبب هذه الرغبة، كونه يعرف ضعفنا وحاجتنا، فهو سوف يأتي لمساعدتنا ولن يخذلنا لمجرد أننا تحولنا إليه بصلاة حارة واستعملنا الوسائل والقوة التي أعطانا. علينا أن نتذكّر أنّ الصعوبات التي ترافق بشكل ثابت كل مسعى مهمّ، لا تخيف إلا الكسول وذا القلب الباهت؛ وأنّ الخطوات الأولى على طريق الإصلاح غير محبوبة وصعبة؛ وأنّه بقدر ما يتقدّم الإنسان على هذه الطريق تصير أكثر سهولة وأقلّ إيلاماً؛ وأنّ النصر الذي نحققه على عدونا يجعلنا أكثر قوة وأكثر قدرة على تحمّل الهجمات الأخرى. علينا أن نذكّر أنفسنا دائماً بإحساس السلام والرضى الذي سوف نختبره في الأيام والساعات الأخيرة من حياتنا عندما ننظر إلى الماضي، إلى الصعوبات التي تخطيناها ببطولة، إلى الآلام الكثيرة التي احتملناها بصبر مسيحي، إلى الأهواء التي لا تحصى التي قهرناها بمحبة الله، إلى كل الأعمال النبيلة التي أنجزناها بالسرّ أمام عيني الله فقط، إلى كلّ العطف الذي أظهرناه لإخوتنا البشر، إلى الإخلاص الذي به أتممنا تعهداتنا، في أحوال كثيرة غاصبين أنفسنا على القيام بذلك. أخيراً، علينا أن نذكّر أنفسنا تكراراً بأننا لأجل كل هذا سوف نُكافأ في حياة الزمان الآتي حتى أنّ كل الصعوبات التي تخطيناها في هذه الحياة، وكل الآلام التي احتملناها في هذا الزمان من أجل حياة بارّة، سوف تبدو لنا صغيرة جداً وبالحقيقة تافهة، بالمقارنة مع المكافآت السماوية. أيها الرب القدير! نحن الآن نعدّ كلّ دقيقة من التجارب والآلام ونادراً ما نفكّر بالأبدية المباركة التي تبهِج نفوس أبرارك وخدامك المخلصين. يا أخي! في جهادك نحو الحياة التي ترضي الله، عندما تَزِن صعوباتك وأحزانك الأرضية، استعمل ميزان هذه الأبدية! فهي سوف تكون أهمّ من كل تجاربك، وكل اللذات الأرضية والملذات والمتع.
السبب الرابع الذي يجعل قرارنا يفشل، يكمن في أننا نريد أن نصير فوراً قديسين. كثيرون، عندما يشعرون بمقتهم لسلوكهم الخاطئ، يقررون بحزم أن يغيّروا سبلهم ويقيموا بداية حسنة نحو إصلاحهم؛ لكن كون ذلك لا يتحقق بالسرعة التي يرغبون، وسواء كانوا يقعون في خطيئتهم بسبب العادة أو التهور، فمجدداً يعودون إلى خطاياهم القديمة، فيفقدون جرأتهم ويستنتجون أنّه يستحيل عليهم أن يغيّروا طرقهم.
يا أخي! يا اختي! لا يصير الناس قديسين بين ليلة وضحاها. لا يلين إنساننا القديم بسهولة ليتحوّل إلى إنسان جديد. لا تقع شجرة كبيرة لمجرد تلقّيها ضربة واحدة من الفأس. والأمر نفسه ينطبق على كل هوى شرير متجذّر فينا. إن الطريق إلى الكمال أو النضج الروحي، غالباً ما تكون غير لافتة للنظر، مثل الكثير من الأمور في الطبيعة. يمرّ الإنسان الروحي عبر مراحل متعددة من النمو، تماماً مثل الإنسان الجسدي. يمرّ وقت طويل في الطفولة قبل البلوغ إلى ملء الرجولة وقوتها. هناك فترة طويلة من الضعف، ومن بعدها يصير الإنسان أكثر قوة ويزداد قوة، إلى أن يصبح رجلاً في النهاية. فقط عند ذلك العمر يصير المرء قادراً على القيام بما يلائم الرجل. على المنوال نفسه، كوز الذرة الناضج هو بالبداية بذرة فقط، من ثمّ هو ورقة من العشب، من ثمّ ساق، وفي النهاية كوز من الذرة. ولكن حتى هذا الكوز لا ينضج دفعة واحدة، بل ينمو، يزهِر، من ثم يطلِع شرّابات وعندها فقط يكون قد نضج. هذا يصحّ على حياة البرّ! حتى أفضل رجل على الأرض لا يصير قديساً فجأة. الجزء الأكبر من كماله ينمو ببطء وشيئاً فشيئاً. يقول السيد أن الأرض الجيدة التي تتقبل البذار الصالح تأتي بثمر، بصبر (لوقا 15:8). على الأكيد، ليس السقوط حسناً، والأفضل ألا نسقط, لكن مَن يسقط ومن ثمّ يقوم سريعاً، يصير أكثر حكمة وأكثر انتباهاً، يجدد عزمه الحسن، يصلّي بحرارة إلى الله طالباً قوّة جديدة لبلوغ الحياة البارّة. عند هذا الرجل، لا تشكّل السقطات عائقاً على طريق الكمال. فهو يكسب قوة حتى عند سقطته (سيراخ 31:3) وكمثل الرسول بولس، يَمْتَدُّ “إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ نَحْوَ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيَا ناسياً مَا هُوَ وَرَاءُ” (فيليبي 13:3-14).
هنا إذاً، بعض الأسباب التي تجعل نياتنا الحسنة، بالابتعاد عن الخطيئة والعيش حياة أفضل، لا تتحقق. فلنتجنّب هذه الأشراك، فلنحاول أن نجعل عزمنا ثابتاً قدر الإمكان، فلنتذكّر دائماً قرارنا وباستمرار نجدده، ولا نضعف إذا لم نبلغ الكمال دفعة واحدة، بل فلنتخطَّ بشجاعة الصعوبات التي نلتقيها برجاء ثابت بمعونة الله.