الروحانية الأرثوذكسية:
امتياز متبادَل بين الحياة الحاضرة والآتية
الأب د. جورج ميتيلينوس
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
إن عبارة “الحياة الروحية”، ضمن إطار الكنيسة الأرثوذكسية، تشير إلى حقيقة محددة وطريقة حياة ملموسة ومفهومة وواضحة. ليست هي مدينة فاضلة غامضة ولا مثالية بدون أساس أو محصورة في حدود التأمّل والخيال. تتضمّن هذه الروحانية الأرثوذكسية مادية وواقعية ضمن واقع محدد لطريقة حياة، طريقة أبدية للوجود دخلت التاريخ وصارت حقيقة دنيوية أرضية من خلال تجسد الإله-الكلمة ربنا يسوع المسيح. لا يمكن تصوّر الحياة الروحية المسيحية إلا إذا كانت بالواقع مرتكزة على التجسد الإلهي.
لم يكن هدف تجسد ابن الله مجرّد تحسين الواقع البشري، بل إصلاحه وتحويله. لقد هدف إلى “عالم جديد” كحقيقة إلهية-بشرية. بحسب آباء الكنيسة الأرثوذكسية، لقد أصبح الإله إلهاً-إنساناً (theanthropos) لكي يجعل حياتنا إلهية-بشرية.
التقليد الأرثوذكسي هو الجهاد لمتابعة الحياة الجديدة بالمسيح وفي المسيح، تلك الحياة التي دخلت إلى العالم، من قِبَل البشر الذين سوف يحققون العلاقات الاجتماعية والأخوية. هذا يتحقق في كل جيل على مثال الآباء الإلهيين القديسين. يُعبَّر عن الأرثوذكسية بشكل أصيل بآبائها القديسين ووحدهم يمكن اعتبارهم الشهادات الصالحة عن حياتها. إن خبرتَي التقليد الأرثوذكسي والآباء متشابهتان وتشكّلان، ليس نقلاً آلياً لتعليم مصنّف، بل الاستمرارية الشخصية في عالم الحق المتجسّد، في الإطار الزمني لكل حقيقة محددة (حضارة، ثقافة، وضعية سياسية واجتماعية).
هذا يحملنا إلى الاستنتاج بأن، بالنسبة لنا جميعاً كأرثوذكسيين، عبارات الحق والعدالة والسلام والمساواة والأخوّة، ليست مفاهيم إيديولوجية ولا قضايا أخلاقية. إنها طريقة محققة للوجود إزاء يسوع المسيح والآباء القديسين والأنبياء وآباء وأمهات كل العصور. إن جهادنا لتحقيق هذه المفاهيم في حياتنا لا يستند إلى نيتنا الصالحة وتصميمنا على الجهاد بل بشكل أساسي على أعمال القدرة الإلهية.
إذاً، الروحانية الأرثوذكسية ليست مجرد باطنية (تطور ثقافي أو ما شابه) بشرية المركز ولا هي روحانية مثالية ولا هي حتى تديناً. إنها المشاركة الشخصية في الحياة الإلهية التي تصبح حقيقة أرضية لكن لا يمكن تحقيقها من خلال القدرة البشرية وحدها بدون تدخل الله.
الروحانية هي حياة وجهاد في الروح القدس وهي تتماهى مع كامل حياة الكنيسة التي، كجسد، ضمن تقليدها يتجنّد الإنسان لينشد الخلاص.
يأخذ جهاد الإنسان في الانتماء الكامل لهذه الجماعة تعبيراً نضالياً ثورياً محضاً. إن ثورة المسيحي هي النسك كممارسة روحية؛ ثورة ضد الطبيعة الاستقلالية الميتة، حتى “تتلقّح” بحياة المسيح مع قيامته، إنها عصيان ضد أنفسنا نحن الذين نحيا ضمن حدود الموت والفساد. لماذا؟ الخلاص من الفساد والموت هو نعمة الله، عطية من الله غير المخلوق لخليقته. إنه ليس إنجازنا وليس مأثرة لطبيعتنا. إنه ممنوح عندما يبلغ الإنسان إلى حالة من الوجود فيها تتحرّر الطبيعة من عبودية الضرورات التي تكوّن الاستعباد للموت والفساد. لا يكتمل هذا السياق القيامي بدون عنف. كلمات المسيح ثورية بالحقيقة: “جئت لألقي ناراً على الأرض” (لوقا 49:12)، “لا تظنّوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض. ما جئتُ لألقي سلاماً بل سيفاً” (متى 34:10)، “ملكوت السماوات يُغصَب اغتصاباً والغاصبون يخطفونه” (متى 12:11). كيف تُفهَم هذه الكلمات؟
إن اغتصاب طبيعتنا ضروري بالمطلَق لقهر استعبادنا الداخلي الذي يؤدّي إلى كل أشكال العبودية الخارجية. إن تجربتنا هي في الجهاد لأن ننكر “إنساننا العتيق” (روما 6:6). يجب أن تعتاد إرادة الإنسان على مقاومة مؤسسة الخطيئة التي يشكلّها الموقف الأناني نحو الناس والعالم. كوننا داخل خطيئتنا، في حياة الموت التي نسلكها، نحن نواجه كل الأمور كأشياء محايدة خاضعة لحاجاتنا ورغباتنا. فلنتأمّل في استغلال العالم والناس، التلوّث البيئي، إنتاج الأسلحة الذرية المستعملة في سباق القوى العظمى نحو التفوق بالقوة. الإنسان المخلِص للمسيح يصارع طبيعته الأنانية من خلال الحرمان الطوعي والتعهد التلقائي لضبط الجسد لكي يصل إلى التحرر الخارجي. إنه يستقيل من نزعة الخضوع لكل شيء ويتعلم محبة العالم وتحقيق وحدته معه وكشف ختم قوة الله الخلاّقة في كل مخلوق بذاته، واستعمال العالم بطريقة ترضي الله، كليتورجيا مستمرة وإشارة إلى الله. من خلال التجارب والصعوبات، وهي تمرين روحي، يصل الإنسان إلى الشركة الأصيلة حيث تصبح الحياة تجاوزاً ذاتياً للمحبة.
الميزة الثورية المحرِّرة نفسها موجودة، بداعي الضرورة، في الألم الذي يشكّل انتهاكاً لمعنى الحياة “كبقاء شخصي” و “تقدمة ذاتية من المحبة لإخوتنا البشر”. إن طريقة الوجود الفردية تتحوّل إلى شركة شخصية من المحبة من خلال النسك. لهذا السبب ربطت الأرثوذكسية بالنسك الطوعي معتبرة التجارب “عذاب الضمير”. إن انتهاك الطبيعة موجود في كليهما لكي يفعّل شركة المحبة.
إن الروحانية الأرثوذكسية هي بالتحديد هذا الصراع من أجل هذا اللقاء المحرِّر بين غير المخلوق والمخلوق. في أي حال، لا يستطيع أي إنسان أن “يعرف” غير المخلوق بالمنطق بل بالأحرى من خلال وجود غير المخلوق في المخلوق وسكناه فيه. إن غاية التقليد الأرثوذكسي هي دفع الإنسان في الاتحاد مع الله أي التألّه. تتطلّب هذه الغاية مسبقاً وجود أداة هي القلب. نحن نقبل عادةً أن جريان الدم في جسمنا هو الهدف الوحيد للقلب، وبالتالي نعتبر الدماغ والجهاز العصبي هما مركز إدراكنا لذواتنا. مع ذلك، في التقليد المسيحي الصحيح، القلب هو مكان الشركة مع الله. يسمي الآباء قوة النفس التي تنشط في القلب “فكراً”. الفكر، في هذه الحالة، لا يساوي المنطق. وفوق هذا، يُسمّى الفكر أيضاً صلاة القلب (الصلاة العقلية) التي تكمن في تنشيط الفكر في القلب. تصبح هذه الوظيفة الصلاتية بلا انقطاع (1تسالونيكي 14:5) عندما يتطهّر القلب ويحصل على نعمة الروح القدس.
إن سكون القدرة النوسية (لا المنطق) هو جوهر سقوط الإنسان. إن عدم العمل أو العمل الجزئي لهذه القدرة الفكرية، وتشوشها مع وظيفة العقل أو الجسد، يستعبد الإنسان في الإجهاد والجو والمادية مركِّزاً اهتمامه على جسده. بهذه الطريقة، يعبد الإنسان الخليقة دون الخالق، والنتيجة المباشرة هي تفكيك أصالة علاقاته الفردانية، المواقف العدائية في المجتمع، تأليه الذات وعبادتها واستغلال الله والناس لتأمين السلامة الذاتية والسعادة.
بعد شفاء مرض القلب يعود الإنسان إلى اجتماعيته الصحيحة. يكتسب القلب النقي استنارة الروح القدس. في هذه المرحلة، تصبح محبة الإنسان لذاته محبة منكرة للذات من الله. بدون الاستنارة من الله لا تستطيع محبتنا أن تتخطّى موقفنا الأناني ونقصنا. تبقى محبتنا ناقصة وزائفة. بالاستنارة يصبح الإنسان هيكلاً للروح القدس معافى وروحياً.
في المصطلحات اللاهوتية الأرثوذكسية تُسمّى عملية إعادة تفعيل الوظيفة النوسيّة في القلب “شفاء الوجود البشري” وهي عمل الكنيسة الأساسي. إن هذا هو غاية حضور الكنيسة في التاريخ كما أعطاه المسيح: استرجاع الشركة بين الله والإنسان في القلب.
في الأرثوذكسية، لا يؤجَّل الشفاء، أي استعادة علاقات الله بالإنسان إلى ما كانت عليه، إلى الحياة الآتية أي بعد الموت. إن الشفاء يُنجَز في التاريخ. المؤمن، من خلال وجود عمل الله في داخله، يصبح “هيكلاً لله” ويمتلك الأبدية ضمن الحقيقة الأرضية فيعيش في ما بعد التاريخ كما في التاريخ. إنه يصير إنساناً سماوياً كالقديسين. القديس، بحسب الأرثوذكسية، هو الإنسان الحقيقي القادر على خلق شركة من الأخوّة والعدالة. إن غاية التقليد الأرثوذكسي النهائية ليست الإجلال الأناني للشخص البشري، بل إعادة الشركة الأصيلة إلى ما كانت عليه مع البشر الآخرين. بحسب القديس اسحق السرياني، يبلغ كل القديسين الكمال عندما يصبحون كاملين ومتمثلين بالله بمحبتهم وخيريتهم المتدفقتين نحو الجميع. لا يوجد أرثوذكسية فردية ولا خلاص فردي. في آخر المطاف، الخلاص هو الدخول الكامل في مجتمع الإخوّة. وهذا ينطبق على كل الناس بدون استثناء.
إن الفرق بين الأرثوذكسية والأنظمة العلمانية هو أن هذه الأنظمة تحاول أن تخلق مجتمعاً. فيما نحن نكافح لإدخال أنفسنا في مجتمع الثالوث المُلهَم، في جسد المسيح. هذا المجتمع بطبيعته هو الأخوّة المتلألئة التي لا طبقات اجتماعية فيها (غلاطية 28:3).
في الأرثوذكسية، هذه الحياة هي حقيقة إلى يومنا هذا في الأديار، بالرغم من كل النواقص البشرية. هناك تكون الحياة بكاملها في نعمة الله حيث المساندة المتبادلة، انعدام القنية بوجود الملكية الجماعية، ومشاركة المحبة فيما كل واحد يعمل بحسب موهبته وقدرته ويتنعّم بحسب حاجاته. وهكذا، ينتفي كل شك بالاستغلال أو المبالغة بالتقدير، لأن الربح ليس الهدف. فالهدف هو الخدمة والمساندة المتبادلين.
الدير هو أنقى مثال للشركة في الأرثوذكسية وقد أثّر بشكل كبير في تشكّل المجتمع الأرثوذكسي تاريخياً، أي المجتمعات القروية والمدينية. إن حياتنا المتغرّبة والمتعلمنة تعكس بالضبط تراجعنا عن ذلك المثال وتبنينا لطرق تنظيم المجتمع الغريبة عن الأرثوذكسية وثقافتها. فهذه الثقافة مختلفة كلياً عن تلك الغربية. هذا سببه أن مثالها، في بعده الاجتماعي، ليس السعادة والمصلحة الفرديتين بل التكافل في “توزيع البؤس بالتساوي”.
قد يفكّر البعض، وهذا ما أشهده كثيراً في أوروبا الغربية، بأن هذا المثال الاجتماعي مرتبط بالماركسية. لا إطلاقاً! فالماركسية، على غرار غيرها من الأنظمة الاجتماعية، تركّز على البنى الداخلية والعلاقات. تبدأ الأرثوذكسية من الأعماق الروحية للإنسان لتستعيد صورة الله داخله بهدف تفعيل المجتمع البشري ليعكس طريقة وجود الثالوث. وهكذا، لا يكون الفرد ضحية للمسيح من أجل الخير العام بينما الخير العام يكون مصلحة الشخص الخاصة.
إن اهتمام الإنسان الأرثوذكسي ليس محصوراً في الزمن بل هو موجَّه بشكل دائم نحو الأبدية. هذا يعبّر عنه الرسول بولس “إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح فإننا أشقى جميع الناس” (1كورنثوس 19:15).
لا ترغب الأرثوذكسية في أن تكون جماعة دينية للخدمات الخيرية، ولا هي منظمة بشرية تكافح فقط من أجل السلام على الأرض والتعايش بين الأمم. تبتغي الأرثوذكسية أن تكون، قبل كل شيء، جسد المسيح، أي مختبر خلاص لشفاء الكيان البشري، وهذا شرط مسبَق لتنمية الإنسان على حدود الشركة الأصيلة مع الله والعالم.
إلى هذا، لا يوجد في الأرثوذكسية عملية تطورية بمعنى التغير المستمر. إن محور سلوكنا هو المسيح بلا تغيّر. فالمسيح يبقى المركز المُطلَق ونقطة المرجعية للشعب الأرثوذكسي في كل الأزمنة. المسيح يؤمّن وحدتنا عبر الزمن بوجوده في داخلنا. إن عمله غير المخلوق يوحّد، في البعد الأفقي كما في العمودي، كل الشعب المؤمن عبر التاريخ ويتمّم وحدتهم، ليس كخضوع تحت معايير محددة للعيش والتصرّف، بل كحياة ناتجة عن وجوده في داخل نفوسهم.