طبيب يحيا حياة الصلاة
إعداد راهبات دير القديس يعقوب الفارسي المقطّع
الأطبّاء الذين يتعاملون مع جسد الإنسان حين يضعف وتعصف به الأمراض هم أقدر الناس على معرفة حقيقة الإنسان وضعفه وسرعة زواله.
كانت تربطني صلة ببعض الأطبّاء، وكنت أوجّه نظرهم دائمًا، كوني كاهنًا، إلى أمور غاية في الخطورة لكي يتمجّد الله بهم وفيهم. فالأمر الأوّل الذي لا يحتاج إلى برهان هو أنّ الجسد الذي نحيا فيه هو غاية في الضعف، فلا مجال، إذًا، للاتّكال على الذات، أو التباهي بالمعرفة أو الخبرة التي تقود الإنسان إلى هوّة الكبرياء. فرؤية الجسد على حقيقته في المرضى، هو رؤية الإنسان لذاته، وإدراكه مقدار حقارة طبيعتنا وضعفها. هذا هو سبيل الاتّضاع في حياة الطبيب.
وقد قرأت قصّة عن طبيب كان قد فاق في علمه أهل زمانه، فهو من روّاد علاج مرض السرطان، ولكنّه كان يتعامل مع المرضى كإله متعالٍ. يتكلّم عبارات مقتضبة، وكلمات قليلة وكأنّ قلبه قد قُدّ من صخر، فهو بالنسبة للمرضى بلا إحساس وبلا تقدير للآلام.
وقد حدث في حياة هذا الطبيب ما لم يكن في الحسبان، فقد أصيب هو نفسه بمرض السرطان، ثمّ بدأ في سلسلة الآلام والعلاجات أي نفس المشوار الذي كان يرى الناس تمشيه. ولكن بطريقة مختلفة هذه المرّة، إذ أصبح ملموسًا محسوسًا لدرجة كبيرة، ولحسن حظّه فإنّ العلاج أتى بنتيجة إيجابيّة، فشفي من مرضه. وبالحقيقة كان قد شفي من المرض الأخطر وهو الكبرياء، فعاد إلى عمله وإلى مرضاه إنسانًا جديدًا رحيمًا شفوقًا غاية الشفقة، إذ صار المرضى بالنسبة له كجسده الخاصّ.
هكذا كنّا نوجّه نظر الأحبّاء إلى هذه الحقيقة منذ بداية حياتهم المهنيّة. وهكذا نما الكثيرون نموًّا مطرَدًا ليس من جهة ما أصابوا من النجاح والشهرة في المجال الطبّيّ، بل من جهة نموّهم الروحيّ، وانفتاح وعيهم على هذه الحقيقة والعيش بمقتضاها.
ثمّة أمر آخر كنّا ننبّه إليه الأذهان. إنّ قدرات الإنسان محدودة مهما سمت، و”إن لم يبن الربّ البيت فباطلاً يتعب البنّاؤون” على ذلك يتفكّر الإنسان، دائمًا، أنّ الله هو الوحيد الذي يعرف سرّ مرض الإنسان لأنّه صُنع يديه وهو مكوّنه في الأحشاء قبل أن يولد.
فالطبيب الناجح يدرك، دائمًا، أنّ يد الله هي التي تمنح شفاء النفس والجسد معًا. فالمسيح هو طبيب الأرواح والأجساد، فإن سمح الربّ واستخدم آنية ضعيفة، فلكي يتمجّد هو، ولذلك نعطي المجد اللاّئق لله حين ينجح طريقنا ونشكره إن استخدمنا لمجده.
من الأمثلة الحيّة التي شهدت لنعمة المسيح وعمل الروح القدس، طبيب مشهور التصق بالربّ منذ شبابه المبكّر، إذ كان يتردّد على أب روحيّ ليعترف ويسترشد بنصائحه الأبويّة، إلى أن تخرّج من كلّيّة الطبّ، وصار طبيبًا لأبيه الروحيّ الذي راح يشجّعه في السير قُدمًا في طريق الجهاد.
ولقد ذاع صيت فضائله وعلمه وصار من أشهر الأطبّاء، إذ كان طويل الروح دائم البشاشة كثير الصلاة. لم يكن يضع يده ليكتب دواء إلاّ ويرفع قلبه لله في صلاة قصيرة، وكان الناس يظنّون أنّه يعصر فكره ويركّزه لكي يكتب الدواء المناسب، بينما كان هو يطلب نعمة الله ومعونته، ويمجّده من أجل حبّه ورحمته.
وقد أكرم الله هذا الأخ بقلب عجيب في المحبّة وعميق في الاتّضاع، سخيّ في العطاء، فصار عمله مجال خدمة لإخوة المسيح. فقراء كثيرون كانوا يجدون فيه حبّ السيّد الحنون، إذ يعالجهم مجّانًا وهم عاجزون عن الدفع، ويتبرّع بعيّنات الدواء، أو يساهم بجزء من ثمنه.
لقد مارس عمل الخدمة الباذلة آلاف المرّات ومع مختلف الناس وبلا تمييز أو محاباة، فحين كان يعالج أحد المرضى، ويشعر أنّ حالته حرجة، ما كان يترك منزله، بل يكرّس وقته حتّى إلى ساعات طويلة إلى جواره. وإن لزم الأمر ينزل بنفسه مسرعًا في منتصف الليل أو قبل الفجر إلى أقرب صيدليّة يتوفّر فيها الدواء، ويعود بلهفة ليتابع حالة المريض، ويسهر بنفسه عليه دون تكليف من أحد، وغير ناظر إلى أيّ شكر أو مكافأة، أو أجر.
كان تصرّفه عجيبًا في عيون الناس، لم يكن كباقي الأطبّاء الذين يؤدّون واجبًا، بل كانت محبّته لله تدفعه ليعمل الرحمة مع الجميع. فأحبّه الناس حبًّا فائقًا، إذ رأوا فيه صورة نادرة من صور الحبّ المجّانيّ الذي اقتناه من الذي بذل نفسه لأجلنا.