التكنولوجيا والحياة الروحية
الأرشمندريت لوقا الغريغوري
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
سؤال: ما هو هدف حياة الراهب؟
الأب لوقا: الهدف من الحياة، ليس فقط للرهبان، ولكن لأي شخص، هو التألّه. يشهد القديس أثناسيوس الكبير على هذا: “صار الله إنساناً ليصير الإنسان إلهاً.” ويقول الرب نفسه في الكتاب المقدس: “كونوا كاملين، كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل” (متى 48:5) و”تكونون قديسين لأني أنا قدوس” (لاويين 44:11). يرد في أماكن كثيرة من الإنجيل وأعمال الرسل والرسائل أنّ هدف حياة الإنسان هو التألّه. وقد أصبح ممكناً بلوغ هذا الهدف بعد أن تجسّد الرب. من خلال سرّ المعمودية المقدسة نصبح أعضاء جسد المسيح، ومن خلال القربان المقدس يمكننا تحقيق التألّه.
الرهبنة هي أفضل ما يفضي إلى تحقيق هدف حياة الإنسان. ويرجع ذلك إلى حقيقة أن حياة الراهب هي حياة توبة. هذا هو سر التوبة. من لحظة أخذنا الوعود الرهبانية، تصبح حياتنا ذبيحة متواصلة إلى الله. نحن مدعوون لتكريس كل قوانا للرب، لإعطاء أنفسنا دون تحفظ. رغبة الراهب الوحيدة وتطلعه هي أن يكون مع المسيح دائما.
سؤال: ما الذي يمنع من تحقيق هذا الهدف؟
الأب لوقا: السبب الرئيسي لنفور الشباب من حياة التقشف هو الروح الدنيوية. هذه الروح لا تسمح لأحد أن يحبّ الرب بكل قوة نفسه، ولا أن يرغب بأن يكون معه بأي ثمن.
في الماضي، عندما لم تكن روح “هذا العالم” قد توغلت إلى هذا العمق، ربّى المسيحيون أطفالهم في جو من التقوى. رأى الأطفال والدِيهم يحضرون الخدم الإلهية، يصلّون، يسجدون، ويعترفون… لقد كان سلوك مسار الحياة المسيحية أكثر سهولة على الأطفال الذين تربوا في مثل هذه الأجواء الروحية.
انظروا إلى حياة القديسين: غالبية النساك تربّوا على يد أهل ورعين. حياة القديس سيرافيم ساروف تبهرني بشكل خاص. عندما مرض القديس سيرافيم في طفولته، أخذته والدته أغاثي إلى الفناء، وضعت له أيقونة والدة الإله العجائبية، ووقفت تنتظر زيارتها. لقد كان للناس إيمان صادق ونقي!
سؤال: أيستطيع الراهب أن يستفيد من التكنولوجيا الحديثة (الهواتف الخليوية والإنترنت)؟
الشرط الوحيد الذي لا غنى عنه لذلك هو بركة الأب الروحي. دون هذه النعمة، استخدام الإنترنت، الهواتف الخلوية، وغيرها من الوسائل التكنولوجية الحديثة قد يكون أمراً خطيراً. يتّضح من كتاب أخبار الآباء القدماء (Patericon) أن استخدام الرهبان لما يبدو بريئاً وغير ضار من المواد، يمكن أن يكون خطراً.
جذور الشر ليست في الشيء نفسه، ولا في أي وسيلة من التكنولوجيا، ولكن في غياب الطاعة. يمكن سرد عدد كبير من الأمثلة عن رهبان استخدموا هذه أو غيرها من الأشياء طوعياً وبسببها عانوا من كارثة روحية حقيقية. ليس من قبيل الصدفة أن الهواتف المحمولة والإنترنت تشكل خطراً خاصة على الرهبان. هذه التطورات التكنولوجية غالباً ما تؤدي إلى تشتيت الذهن، ومثل هذه الحالة لا تتفق أبداً مع أهداف الحياة الرهبانية. في النهاية، وفقاً لتعاليم الآباء القديسين، الراهب مدعو لإحلال عقله في قلبه من خلال الصلاة وحياة النسك.
في ما يتعلق بالإنترنت، لا أستطيع أن أقول أيَّ شيء محدداً، إذ إننا لا نملكها في ديرنا. ولكن الواضح أن الانغماس في “الشبكة العالمية” يؤدي إلى تشتيت الذهن. وهذا ينطبق بخاصة على التنقّل لساعات طويلة عبر فضاء الإنترنت دون أي هدف ملموس. يكون العمل على الإنترنت ممكناً عندما يعطي رئيس الدير البركة لأحد الرهبان الذين يحافظون على انتباههم للبحث عن أمر ما. عندها يكون الأمر بالطاعة. ليس في ديرنا إنترنت. رئيسنا، الأرشمندريت جورج كابسانيس، لم يعطِ بركة لذلك. الخطر الذي يواجه مستعملي الإنترنت عظيم جداً، والكثير من الرهبان قد لا يستطيعون مقاومة هذه التجربة.
عندما يتعلق الأمر بالعلمانيين، فالساعات الطويلة التي يقضونها في الخمول، والتخبط بلا هدف عبر مساحات الإنترنت هي أيضا خطيرة. قبل ولوج الإنترنت، على المرء أن يعيّن مهمة محددة لنفسه لا بد من إنجازها، وألا ينحرف عنها بأي شكل من الأشكال.
سؤال: إلى أي حد يلائم العمل الخيري الأديرة؟
لدينا في تاريخ الكنيسة أمثلة عن العديد من الرهبان الذين انخرطوا في العمل الخيري. على سبيل المثال، القديس شمشون مضيف الغرباء أو القديس باسيليوس الكبير، في سلوكهما في الحياة الرهبانية جمعا النسك مع الخدمة الاجتماعية الهائلة. ولكن هذه الأمثلة لا تلغي جوهر الرهبنة الأرثوذكسية التي، على نقيض الغرب، هي أكثر هدوئية منها ناشطة اجتماعية.
غاية الراهب هي أن يضبط أفكاره، ويسعى لتنقية نفسه من أهوائه، ويصير سفينة للنعمة. إذا تعارضت خدمة اجتماعية معينة مع تحقيق هذا الهدف الرئيسي، فهي لا تنفع الراهب بأي شيء، وستنتهي بالفشل الروحي. نحن لا نخلص بالأعمال الخارجية، حتى الجيدة منها، بل بحبنا للمسيح، الذي يظهر في السعي لتحقيق الطهارة والهدف الرئيسي من حياتنا: تحقيق التأله.
إن الخدمة الاجتماعية إذا اقترنت بنسيان هدف الحياة الرهبانية الرئيسي لا تليق بالشرق الأرثوذكسي. الرهبان الذين انطلقوا على طريق الخدمة الناشطة للناس لم يخلصوا بأعمالهم، بل بحقيقة أن خدمتهم لجيرانهم شكّلت جزءاً من تقدمتهم للرب. أساس حياتهم هو الرصانة، وتنقية القلب، والسعي لتحقيق التألّه. في كلمات القديس اسحق السرياني: “إذا كنت قد أطعمتَ ألفاً من الناس، دون أن تطهّر روحك من الأهواء، فأنت لم تحقق شيئاً.” ما هي النقطة من تشتيت نفسك في هموم كثيرة وترك روحك في الفقر الروحي؟ الرهبنة الأرثوذكسية هي رهبنة هدوئية، وما من رهبنة اجتماعية في كنيستنا.