“القدسات للقدّيسين”
الأرشمندريت كاسيانوس عيناتي
“وأنا إذا ارتفعت عن الأرض، جذبتُ إليّ الجميع” (يو12: 32). يظهر جلياً أن العشاء السري في تلك الليلة، حين أخذ الخبز وشكر وبارك وكسر وأعطى تلاميذه الرسل القديسين قائلاً: “اشربوا منه كلكم هذا هو دمي…”، يمتدّ حتى المجيء الثاني بواسطة سر القدّاس الإلهي. والغاية هي أن نأكل ونشرب بشهية لنتّحد به وتسري فينا حياته كما اشتهى هو، عُرسٌ سريّ يدوم الى الأبد. يشترك المؤمنون مع طغمة القديسين المتحلّقين حول “الحمل الذّبيح”، القدوس وحده والرب وحده، الذي يمجّد كل من يتناوله بشوق وحب وإيمان بحيث يصير القديسون واحداً مرنمين جميعاً ومسبّحين الكينونيكون: (تسبحة الشكر) سبّحوا الرب من السماوات…” مع الملائكة في جوّ من اللهيب الإلهي يجري من الكأس (الماء الحار الذي يُسكب في الكأس) وهو القوى الإلهية التي يمنحها الروح القدس للمتناولين التائبين عن خطاياهم والمشتاقين للاتحاد في جسد المسيح ليصبحوا جميعاً “ناراً ملتهبة” تنزل على رؤوسهم وتُلهب أفواههم وأحشاءهم وترفعهم عن الأرض وتفصلهم عن العالم المنظور ليكرّروا قائلين: “ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب”.
نعم إنها أعجوبة القدسات، لا بل عطية. ولكنها تستدعي الرجوع عن الخطايا والشوق والجهاد في السعي الى القداسة. والحفاظ على هذا الهيكل ليكون أهلاً لتقبّل “القدسات التي هي للقديسين”. هذه “النار الملتهبة” تُحرق خطايا التائبين وتجعلهم ناصعين كالنور لامعين كالشمس. أما الذين اعتادوا المناولة، بغير استعداد أو بحكم العادة مستغلين رحمة الرب، دون أن يُفرغوا قلوبهم من الحقد والضغينة، فإن هؤلاء – لمجرد اقترابهم – تُحرقهم هذه النار ويصبحون خائنين تماماً كيهوذا الإسخريوطي.
روى أحد الكهنة المعاصرين أنه في يوم سبتٍ عادي، والبرد قارس يلسع الوجوه ويعضّ الأصابع، لم يُبدِ رغبةً في إقامة القدّاس متوقعاً عدم حضور المرتّل. ولكن فجأة حضر المرتل ولكن لم يحضر أحد من المؤمنين. أتمّ الكاهن تحضير الذبيحة على عجل، وبدأ بسرعة القداس الإلهي. وعند قيامه بالدورة الأولى (الصغرى) بالإنجيل دُهش عندما رأى أن جمعاً غفيراً يدخل الكنيسة: أساقفة، رهبان، راهبات، مؤمنين. اتّخذ كلّ واحد من هؤلاء مكانه في الهيكل، ومع الجوقة يميناً ويساراً، وفي صحن الكنيسة، وصدحت التراتيل والألحان العذبة الشجية التي أنسَت الكاهن الوحدة والبرد القارس، فامتلأ حرارة وإيماناً.
وفي الدورة الكبرى (بالقرابين) رأى الكنيسة وقد امتلأت بأناسٍ يعرف بعضهم ويجهل أسماء بعضهم الآخر. وعند تقديس القرابين (التي لك مما لك…) رأى ثلاثة رؤساء كهنة وقد سطعوا كالشمس راكعين يصلّون معه. وبعد أن أخذ المبخرة وأعلن، “وخاصة من أجل الكلية القداسة…” امتلأت نفسه سلاماً وسكينة عميقين.
وعندما حان الوقت ليعلن، “القدسات للقديسين” وهو يحمل “الحمل” ويرسم به صليباً فوق الصينية المقدسة، فابتدأ بتجزئته قائلاً: “الذي يفصّل ولا ينقسم” سمع صوتاً واحداً ينطلق من أفواه المؤمنين: “قدوسٌ واحدٌ، ربٌّ واحدٌ… سبّحوا الرب من السماوات”. وعند الإنتهاء من تجزئة الحمل ووضع الجزء IC (يسوع) في الكأس احتار ماذا يفعل: هل يدعو رؤساء الكهنة للمناولة أولاً!، فأشار إليه أحدهم بأن يتناول، هو ومن ثم يضع بقية أجزاء الحمل في الكأس لمناولة المؤمنين. وعندما انتهى وهتف قائلاً: “بخوف الله وإيمانٍ ومحبة تقدموا” فوجىء بأن الكنيسة فارغة إلا من المرتل. فراح يفكر في نفسه قائلاً: يا له من أمرٍ عجيب! الكنيسة الظافرة اشتركت معه في القداس: رؤساء الكهنة، والكهنة، والشمامسة، والرهبان، والمرتلون، والمؤمنون الذين عرفهم، والذين يذكرهم من وقت لآخر في الذبيحة الإلهية أحياءً وأمواتاً، والذين لم يعرفهم وهم الأعضاء الآخرون مجتمعون مع بعضهم البعض في الكنيسة الجامعة الرسولية… أما رؤساء الكهنة الثلاثة فهم الأقمار الثلاثة: باسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي ويوحنا الذهبي الفم. لقد تحقق من أن كل ما قرأ في حياته من قراءات روحية، وما عمِل من سهرانيات طويلة، والدراسات اللاهوتية الجمّة، لم تعطِه قطرة من الحلاوة والإستنارة الروحية كالتي أعطاه إياها قداس واحد، تردد كثيراً قبل إقامته…!