الرهبان والقوانين المقدسة

الرهبان والقوانين المقدسة

من كتاب “الرهبنة الأرثوذكسية” للميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس


من المعروف جيداً أن القوانين المقدسة التي وضعها الآباء القديسون في المجامع المحلية والمسكونية تمثل في الواقع علم اللاهوت الرعائي الذي تطبّقه الكنيسة على المسائل المتنوعة التي برزت على مدار تاريخها. بعد انتهاء الاضطهاد، اخترقت العلمانية أعضاء الكنيسة وظهرت ممارسات عشوائية ما استدعى من الآباء القديسون أن يضعوا القوانين المقدسة حفاظاً على وحدة الكنيسة وشفاء المسيحيين. ليست القوانين المقدسة وثائق قانوية. فعلى الرغم من صياغتها القانونية، إلا أنها ثمرة قوة الروح القدس وخبرة قديسي الكنيسة. يظهِر القانون الأول من المجمع المسكوني السابع رأي الآباء في قيمة القوانين المقدسة: “نمط أولئك الذين تلقوا الكرامة الكهنوتية موجود في الشهادات والتعليمات الموضوعة من قِبَل الدساتير القانونية، التي نتلقاها بفكر مبتهج…”. القوانين المقدسة هي “شهادات” لله، إعلانات لله معطاة للكنيسة ومعبَّر عنها من قِبَل الآباء من أجل وحدة الكنيسة وخلاص أعضائها. القوانين المقدسة هي تعبير عن الخدمة الرعائية التي تمارسها الكنيسة. كل مَن يشتاق للخلاص ويشارك فكر الكنيسة يراعي تلك القوانين، وبهذا يقدم تعبيراً عملياً عن حقيقة أنه يريد أن يكون عضواً في الكنيسة.

من القضايا التي شغلت الآباء القديسين في المجامع المحلية والمسكونية هي الرهبنة وكيفية التأكّد من عملها بشكل صحيح داخل حقل الكنيسة. سوف نتناول فيما يلي بعض القوانين المقدسة التي تتعامل مع النقاط الرئيسية للحياة الرهبانية ومؤسسة الرهبنة.

أولاً، ينبغي أن نلاحظ أن الحياة الرهبانية هادئة ومتوحدة. “من جهة أولئك الذين حياتهم هادئة ومتوحدة، أي أولئك الذين عزموا أمام الله أن يحملوا نير الوحدة، ينبغي عليهم أن يجلسوا وحدهم وفي صمت” (قانون 22، المجمع المسكوني السابع). لا ينخرط الرهبان في أية أنشطة، ولكنهم يمارسون الهدوئية المقدسة ويصلون لله بلا انقطاع. هذا هو السبب الذي لأجله توصف الحياة الرهبانية على أنها متوحدة، وهادئة، ومنفصلة.

بحسب آباء الكنيسة، قبول الحياة الرهبانية يعني قبول الطاعة والتلمذة، وعدم الاضطلاع بدور المعلم أو القائد. بكلمات أخرى، يصنَّف الرهبان بين قطيع الكنيسة، وليس بين الرعاة. يضع القانون الثاني  من مجمع الحكمة الإلهية في القسطنطينية (879-880) تمييزاً واضحاً: “تتحدث نذور الرهبان عن الطاعة والتلمذة، وليس عن التعليم والظهور. إنهم مدعوون لأن يكونوا رعية، وليس رعاة لآخرين”. السبب في قول ذلك هو أن بعض الأساقفة في ذلك الوقت أرادوا أن يساموا رهباناً بعد تكريسهم كأساقفة، بينما يحتفظون بنعمة الأسقفية. لقد قرر المجمع أنه لو قرر الأسقف دخول الحياة الرهبانية والاضطلاع بحياة التوبة، ينبغي عليه أن يكف عن أن يكون أسقفاً، لأن قبول الحياة الرهبانية يعني الطاعة والتلمذة. ينص القانون على: “لو أن الأسقف أو أي أحد آخر من الرتبة الأسقفية يرغب في النزول إلى الحياة الرهبانية وأخذ دور التائب، فإنه لا يستطيع فيما بعد أن يطلب رتبة الأسقفية” (مجمع الحكمة الإلهية، قانون 2).

تحدد أيضاً قرارات المجامع المحلية والمسكونية الشروط القانونية لمن يريد دخول الحياة الرهبانية. وكون هذه الحياة متوحدة، وقاسية، ومجاهدة على كل من يرغب في حياة النسك وبأهدافها الرفيعة أن يخضع للاختبار الذي يتم بإرشاد روحي مناسب. يشير القانون الثاني من المجمع الأولالثاني إلى تلك النقطة: “من جهة حقيقة أن البعض يدخلون الحياة الرهبانية برياء، ليس بهدف أن يصبحوا خدام لله بالتمام، ولكن لأنهم يستطيعون اكتساب مظهر الوقار بالمظهر المهيب للزي الرهباني، وهكذا يجدون طريقاً للتمتع بوفرة بالملذات المرتبطة بها، وهم إذ يضحون فقط بشعرهم يقضون وقتهم في منازلهم الخاصة، دون إتمام أية خدمة أو قاعدة تخص الرهبان،  قرر المجمع ألا يرتدي أي أحد الزي الرهباني دون حضور الشخص الذي يدين له بالولاء والذي يعمل كرئيس أو أب روحي له والذي يساهم في خلاص نفسه، والمقصود من ذلك رجل محب لله رئيس دير وقادر على تخليص نفس قدّمت نفسها لله حديثاً. لو ضُبط أحد يسام راهباً دون حضور رئيس الدير المسئول عنه، فليعزل عن وظيفته لكونه غير مطيع للقوانين ومتعدٍ على نظام الحياة الرهبانية الحسن، على حين أن الشخص الذي تمت سيامته بشكل غير شرعي وعشوائي فليعُهَد به إلى أي من يرعاه وإلى دير يراه الأسقف المحلي مناسباً له. حيث أن السيامات الطائشة والمشكوك فيها ازدرت بالزي الرهباني وتسببت في التجديف على اسم المسيح” (قانون2، المجمع الأولالثاني).

من الواضح من هذا القانون أن بعض الناس يأتون إلى الدير مدَّعين أنهم يرغبون في خدمة الله، فيما هم في الواقع يفعلون ذلك لكي يحصلوا على مديح الناس عن طريق كرامة الإسكيم الرهباني. لأجل ذلك حدد المجمع المقدس أنه ينبغي على رسامة الراهب أن تتم تحت رعاية رئيس الدير الذي يحب الله والقادر على العناية بخلاص نفس المرشح. لو لم تُستَوفَ تلك الشروط، فللأسقف الحق في التدخّل كما ينص القانون: “حيث أن السيامات الطائشة والمشكوك فيها ازدرت بالزي الرهباني وتسببت في التجديف على اسم المسيح”.

يتحقق اكتساب الهوية الرهبانية من خلال الرسامة وتلقي الإسكيم الرهباني. يوجد تقليد غني يخص هذا الموضوع، لكننا سوف نؤكد هنا على النقاط الأكثر جوهرية والأكثر أهمية. بحسب الآباء توجد هوية رهبانية واحدة وحيدة. يكتب القديس ثيودوروس الستوديتي قائلاً: “لا تعطِ ما يسمى الإسكيم الصغير ثم الإسكيم الكبير بعد بضعة سنوات، لأنه يوجد إسكيم واحد، تماماً مثلما توجد معمودية واحدة. هذا هو العُرف الذي كان يراعيه الآباء القديسون”. وبحسب بالسامون: “يشير حلق الشعر بصورة رئيسية إلى ارتداء الإسكيم الملائكي العظيم. الإسكيم الصغير هو عربون لهذه الحالة الكاملة”. بالتالي نرى أنه مثلما توجد معمودية واحدة، بالتالي توجد رسامة واحدة، على الرغم من وجود درجات من التقدم والصعود الروحي.

بعد الإسكيم، ينبغي على الراهب ألا يترك ديره إلا لأسباب خطيرة. يحدد القديس نيكيفوروس المعترف بشكل واضح هذه الأسباب كالتالي: “يسمح للراهب أن يترك ديره لثلاثة أسباب: أولاً، لو كان رئيس الدير هرطوقياً؛ ثانياً، لو أتت نساء إلى الدير؛ وثالثاً، لو تمّ تعليم الأطفال تعاليم دنيوية في الدير” (قانون17).

بالإضافة إلى ذلك، لو ترك الراهب ديره ودخل ديراً آخراً، ينبغي أن يتم ذلك بمعرفة رئيس الدير السابق. القانون 21 من المجمع المسكوني السابع واضح: لا يجوز لراهب أو لراهبة أن يترك أحدهما ديره ويذهب إلى دير آخر. وإذا اتفق حدوث ذلك فيكون قبوله هناك كضيف إذ لا يجوز على كل حال أن ينتمي راهب أو راهبة إلى دير آخر إلا بموافقة وإذن رئيسه أو رئيستها”.

إذ تسعى القوانين المقدسة إلى وحدة الكنيسة، فإنها تحدد بوضوح أن الأسقف هو مركز هذه الوحدة. من هذا المنطلق، جعلت الرهبنة وكل مؤسسة الحياة الرهبنية تخضع للمسؤولية الرعائية للأسقف ووضعتها تحت إشرافه. في تعليق بالسامون على القانون الأول من المجمع الأول والثاني يشير إلى مقدار حقوق الأسقف. إنه إذ حدد أنه ينبغي على الأسقف ألا يمارس السلطة على الدير وألا يتصرف باستبداد، فإنه يكتب قائلاً أن الأسقف “له حقوق فقط على التالي: الحكم على الأخطاء الروحية، الإشراف على أولئك الذين يديرون الدير، أن يُذكر اسمه، وأن يوافق على رسامة رئيس الدير”. تظهر هذه الحقوق الأسقفية المجال الكامل لمسؤولية الأسقف الرعائية عن الأديرة. يحكم الأسقف على أخطاء الرهبان الروحية، ويراقب إلى أي مدى يؤدي المسؤولون عن إدارة الدير مهمتهم بشكل صحيح، وإن كان اسمه يذكر في الصلوات الطقسية، كما أنه أيضاً ينصّب رئيس الدير. لا تشكّل تلك الحقوق الأسقفية تدخلاً من الأسقف في شؤون الدير الداخلية، لكنها تسمح له بمراقبة الدير والإشراف عليه بحيث يعمل بحسب التقليد الكنسي وبحيث يكون مكاناً للخلاص والتقديس.

أولاً وقبل كل شيء، تؤكد القوانين المقدسة على أنه غير مسموح لأي أحد أن يبني أو يقيم ديراً بدون معرفة أسقف المدينة “فقد حكمنا بأنه لا يجوز لأحد في أي مكان أن يبني أو يؤسس لنفسه ديراً أو بيتاً للعبادة بدون موافقة اسقف المدينة ورخصته” (قانون4، المجمع المسكوني الرابع). لقد نُص أيضاً أنه يجب أن تبقى الأديار التي كُرِّسَت بموافقة السقف أدياراً إلى الأبد ويجب أن تُصان الأملاك المختصّة بها ولا يجوز إعادتها إلى مساكن زمنية” (قانون24، المجمع المسكوني الرابع).

ثم بعد ذلك، ينبغي على الرهبان الانخراط في الهدوئية، والصوم، والصلاة، وطاعة أسقف المسيح: أن الرهبان، في كل مدينة وناحية، يجب أن يكونوا خاضعين للأسقف ويلازموا السكينة والهدوء ولا يهتمّوا بغير الصلاة والصوم مداومين على اإقامة بصبر في الأماكن التي عيّنت لإقامتهم” (قانون4، المجمع المسكوني الرابع).

ينبغي على الرهبان ألا يتسببوا في مشاكل في الكنيسة، وألا يكسروا النظام المدني، وألا ينخرطوا في شؤون دنيوية، تاركين أديرتهم، باستثناء أن يكون ذلك بسماح من أسقف المدينة بسبب احتياج خاص. ينص نفس القانون بدون التباس على: أنه لمّا كان بعض المتوشّحين بثوب الرهبان يشوشون نظام الكنيسة بتجوّلهم في المدن مهملين واجباتهم وساعين في بناء أديرة لأنفسهم… فقد رأينا أن لا يتدخلوا في القضايا الكنسية أو يغادروا أديارهم إلا عندما يسمح لهم أسقف المدينة عند الحاجة والاضطرار… على أنه يُطلَب من أسقف المدينة أن يعتني بتدبير كل ما تحتاج إليه الأديار” (قانون 4، المجمع المسكوني الرابع).

يمنع القانون 3 من المجمع المسكوني الرابع الأساقفة، والكهنة، والرهبان من الانخراط في المشاريع الدنيوية وإدارة المقتنيات، ما لم يُطلب منهم فعل ذلك بالقوانين لكي يصير وصياً على أشخاص قاصرين، أو بسماح من أسقف المدينة. يقول القانون: “فالمجمع الكبير المقدس قد حدد بأنه من الآن فصاعداً لا يُسمَح لأسقف أو إكليريكي أو راهب أن يستاجر ملكاً أو يقوم بتجارة أو يتولّى إدارة مصالح عالمية إلا إذا كان لا بدّ له من ذلك حسب شريعة الوصاية على أولاد قاصرين، أو إذا سمح له الأسقف أن يعتني بمصالح الكنيسة أو الأيتام أو الأرامل الذين ليس لهم مَن يعتني بأمورهم وهم في حاجة قصوى إلى مساعدة الكنيسة على أن يقوم بعمله بخوف الله. وكلّ مَن يخالف بعد الآن هذه الحدود الموضوعة يعرّض نفسه للعقوبات الكنسية” (قانون3، المجمع المسكوني الرابع).

بسبب وجود احتمال أن يرتكب المسيحيون خطيئة التسبب في المتاعب أو التحزب بسبب علاقتهم الروحية مع عضو من الإكليروس أو راهب، يشجب آباء المجمع المسكوني الرابع كل مثل تلك الأعمال، التي تقود إلى تمزيق وحدة الكنيسة فيرِد في القانون 18: “إن الشرائع المدنية تمنع المؤامرات وتأليف العصابات منعاً باتاً فبالأحرى أن تكون ممنوعة في كنيسة الله. فإذا اكتشف إكليريكيون أو رهبان في مؤامرة أو عصابة للقيام بمكايد ضد أساقفتهم أو رفاقهم في الإكليريكية أو الرهبنة فيُجرّدون من درجاتهم ويحرَمون من كل حق فيها”.

يظهر كل ما أوردناه حتى الآن مدى نبل الحياة الرهبانية. إنها تذكرنا بحياة آدم وحواء قبل السقوط، بل وتتوقع الحياة الآخرة للأبرار في ملكوت الله. ينبغي أن تُمارس الحياة الرهبانية بتواضع، وطاعة، وصلاة، وهدوئية مقدسة. إنها تختلف تماماً عن الحياة الدنيوية. هذا هو السبب الذي يجعل إبليس يحاول إفساد طريقة الحياة الرهبانية، تماماً كما جرّب آدم وحواء في الفردوس. إذ كان آباء الكنيسة القديسون واعين بكرامة الحياة الرهبانية، بل وأيضاً بالتجارب التي يشن بها إبليس الحرب عليها، فإنهم حددوا الإطار الذي ينبغي عليها أن تعمل داخله. هذه هي قيمة القوانين المقدسة. هذه هي الطريقة التي يتم بها الحفاظ على وحدة الكنيسة.

فالقوانين المقدسة للكنيسة ليست وصايا بشرية، ولا هي وثائق تشريعية، ولكنها نتاج لنعمة الله التي أنارت الآباء القديسين لكي يصيغوها من أجل وحدة الكنيسة وخلاص المسيحيين وهي تعبّر أيضاً عن خدمة الكنيسة الرعائية لكل أعضائها. إنها خلاصة مقدّسة للخبرة الكنسية.

ينبغي علينا في هذا المنظور أن نقبل روح وجوهر القوانين المقدسة للكنيسة. يجب أن يكون الرهبان ذوي حسّ مرهف من ناحية عقائد الكنيسة وقوانينها وبهذا يطيعون الروح القدس الذي يعمل في الكنيسة. وعندما يعيش الرهبان داخل هذا الإطار القانوني والكنسي ويقبلون نعمة الله الثالوث، فإنهم يتطهرون، ويستنيرون، ويتحدون بالله. إنهم الغدد الصماء الروحية للكنيسة، التي تعطي حياة وصحة للعديد من أعضاء الكنيسة. ثم أن الأساقفة يتلقون هم أيضاً الخفيات والظاهرات، ويساعدون على الحفاظ على الإيمان الأرثوذكسي ويدعمون خدمتهم الرعائية للمسيحيين. تحدد القوانين المقدسة، التي تتناول الطريقة التي ينبغي بها ممارسة الحياة الرهبانية، الإطار الذي به يتطهر الرهبان، ويستنيرون، ويتحدون بالله، بحيث يُفيدون أعضاء الكنيسة الآخرين بطريقتهم الخاصة.

أولئك الذين لا يقبلون روح وجوهر القوانين المقدسة ليس لديهم في الحقيقة فكر الكنيسة. إنهم لا يقبلون علم اللاهوت الرعائي المقدس الذي لآباء الكنيسة، ولا هم قادرون على اختبار قوة الله المطهرة والمنيرة  والمؤلّهة التي هي هدف الحياة الروحية والرهبانية.



Leave a comment