الفوضى في الكنيسة
الأب أنطوان ملكي
الفوضى، لغةً، هي عدم احترام القوانين والأصول. هذا ينطبق في كل شيء: في الكنيسة، كما في أي جسم آخر. من دون القوانين تكثر المشاكل من غير أن يكون هناك مرجع يُستَنَد إليه في الحلّ. أوّل مَن بدأ بوضع القوانين الكنسية هو السيد نفسه: “أما أنا فأقول…”. أوائل القوانين الكنسية نراها في انتخاب ماتيّاس في أعمال الرسل. فالقانون لا بدّ من وجوده، لا ليقيّد الناس بل لينظّم أمورهم. تتالَت المجامع وكانت أعمالها تتجسّد في قوانين حفظت الكنيسة لألفي عام، حتى يمكن القول أنّ لكل أمر في حياة الكنيسة قانونه، بدءً من قبول الناس في الكنيسة وصولاً إلى تجنيزهم. بدأت الإشارة إلى القوانين على أنها تدابير تنظيمية منذ المجمع المسكوني الأول، ومذّاك بدأ التمييز بين القوانين والتشريع في الكنيسة، مع التشديد على أنّ الواحد يكمّل الآخر.
ولما لم يكن الناس جميعاً من الطينة ذاتها، ولم تكن الأمور دوماً على نفس الدرجة من التحديد والوضوح، نشأ مبدأ التدبير. فالشرع والقوانين في الكنيسة ليسوا جامدين، خاصةً أن الهدف ليس الصحّة القانونية بقدر ما هو الصحّة والكمال الروحيين. من هنا أن بعض الاستثناءات للقوانين ممكنة، في حال كان ذلك في مصلحة الجماعة كلّها. فالشرع الكنسي هو قانون النعمة قبل كل شيء، واهتمامه الأوّلي هو النفوس والأرواح. ولكي لا يكون تطبيق التدبير عشوائياً فقد وضعت الكنيسة أسساً تحدد كيف ومَن يطبّقه. فالتدبير ينطبق فقط على ما ليس عالمياً عامّاً، وللمجمع الحق في ممارسة هذه السلطة. هذا، ولا يمكن إنكار الخطر المرافق للتدبير، أقلّه لأن البعض ينحو إلى جعل الاستثناء قاعدة.
ما ينبغي التنبّه له هو أن القوانين الكنيسة، في تحديدها للأخطاء أو لأعمال التوبة المناسبة لها، لا تتصرّف بمنطق الانتقام أو فرض العدالة بمنطق بشري. إن للقوانين الكنسية وجه أساسي تربوي علاجي رعائي. فمفهوم الخطيئة في الكنيسة الأرثوذكسية يقوم على أن الإنسان في مخالفته مشيئة الله، أساء إلى نفسه أولاً، ولم يسِئ إلى الله، الذي هو فوق الإساءة. من هنا أن ما يُفرَض على الخاطئ هو لشفائه وخلاصه وليس لاسترضاء الله ولا للانتقام من الخاطئ. فالكنيسة، مثلاً، في قولها أنّ على السارق أو القاتل أو الزاني أن يبقى مع التائبين عدداً من سنوات، فهي لا تعاقبه على سرقته ولا على قتله ولا على زناه، بل تعطيه المدة التي رأت أنّها ضرورية لشفائه مما علق بنفسه من وسخ الخطيئة. فالفترة الزمنية المشار إليها ضرورية لكي يتنقّى فكره وذاكرته من صورة الخطيئة التي ارتكبها ولكي تركد الشهوة التي أدّت إلى تلك الخطيئة في داخل نفسه. فالهدف من فترة التوبة ليس إصلاح الخاطئ فقط بل تجديده أيضاً وحماية الجماعة من انتشار هذه الخطيئة. لأنّه إذا أخطأ واحد ولم يُعالَج تنتقل خطيئته إلى غيره من الإخوة أصحاب النفوس الضعيفة. من هنا، حرمان أحد المؤمنين من المناولة ليس قصاصاً بل هو دعوة علنية إلى التوبة خوفاً من الحرمان من المشاركة في المسيح، لأن الخطأ جسيم. فعندما يرى أعضاء الجماعة ذلك يمتنعون عن مثل هذه الخطيئة. وعندما تكون الخطيئة معروفة علناً، يظهَر بشكل أقوى أنّها مرفوضة. عندما تكون الكنيسة حيّة، لا يشكّل القصاص العلني مشكلة والمثال أنّ في الكنيسة الأولى كان الاعتراف علنياً. عندما تبرد النفوس تبرز المشكلة مع إعلان الأمور، ويصير في كل كلمة أو عمل معثرة للنفوس.
من هنا، أن ما ينطبق على خطايا الكهنة هو دائماً أكثر مما ينطبق في الحالة نفسها على العلمانيين. ليس لأن الكهنة مطالَبين أكثر من العلمانيين، بل لأن أخطاءهم هي أكثر علنية من أخطاء الآخرين، وبالتالي أثرها الضارّ على الجماعة أكثر جسامة من أخطاء العلمانيين. فعلى سبيل المثال، عندما تقول الكنيسة بأنّ الزاني لا يمكن أن يكون كاهناً، ذلك ليس فقط لحماية الكهنوت والزواج والعفة، بل لأن الذي عجز عن حفظ هيكل الروح الصغير، أي جسده، يصعب عليه حفظ الهيكل الكبير أي الكنيسة بمؤمنيها. وإذا قالت أن الكاهن يُجرّد إذا زنى، فلأنّه معلّمٌ يقتدي به الناس.
الكنيسة، كونها الجسد السري للمسيح، عندها وسائلها لتحقيق خلاص أبنائها. عدم احترام القوانين يعرقل عمل الكنيسة ويشوّش على الخلاص. ومع أنّ الكنيسة هي مؤسسة بشرية وإلهية في وقت واحد، فإن وجهها الأرضي يسود عليه الروح. وطالما أن الكنيسة ما زالت مجاهدة في هذا العالم، فإن تقليدها القانوني والشرعي يبقى جزءاً أساسياً من حياتها الأرضية يؤمِّن لها وسائل الأمان والحماية التي في إطارها تنمو الحياة في الروح وتُحفَظ. مَن أراد الحفاظ على الكنيسة وخلاص أبنائها يحفظ قوانينها.