قصتان حول النزاع والمصالحة
دير القدّيس يعقوب الفارسيّ المقطّع
النزاع والمصالحة
كان كاهن القرية في شجار دائم مع قارئ الكنيسة الذي كان يحلم بأن يصير شمّاسًا، فكاهنًا. ولكي ينال هاتين المرتبتين الساميتين كان بحاجة إلى شهادة كاهن القرية وأهلها عن حسن سلوكه، ولكنّه، وبما أنّه دائم المشاجرة مع الكاهن، فقد تريّث الأسقف كثيرًا بشأن رسامته.
وذات مرّة تشاجر الكاهن والقارئ حول الخدمة في الكنيسة، فرفع الكاهن صوته ما جعل القارئ أن يردّ بكلمات مهينة قاسية. ازداد غضب الكاهن جدًّا، وحاول أن يضرب القارئ بالمبخرة. فألقى هذا الأخير العديد من الكتب الثقيلة على الكاهن ممّا أثار استياء الناس الحاضرين.
انتشر خبر شجار الكاهن والقارئ في جميع أنحاء القرية، وأبلغوا الأسقف عن الحالة التي وصلا إليها. وكان هذا الأسقف حكيمًا جدًّا. فاستدع إليه كلاًّ من الكاهن والقارئ ليعرف على من يقع اللوم. دعا الكاهن أوّلاً وسأله:
– قل لي كيف حدث كلّ ذلك. اعترف بصراحة وقل الحقيقة كلّها.
– بدأ الكاهن يبرّر نفسه قائلاً: أنا، يا صاحب السيادة، كنت أخدم في الكنيسة، وقلت للقارئ أن يقرأ ببطء، لكنّه هاجمني بالشتائم، وبدأ برمي كتب الكنيسة عليّ، وحتّى ضربني بقبضته. أمسكت بالمبخرة حتّى أدافع عن نفسي، لكنّني لم أفعل أيّ شيء له.
– إذن، هو المسؤول.
– نعم، يا صاحب السيادة، هو المسؤول.
– إذن، هو الذي بدأ بالقتال.
– أجل، يا صاحب السيادة، هو الذي بدأ.
– إذن أنت شهيد. يا لك من رجل مسكين كم احتملت من هذا القارئ الحاقد، ولم أسمع منك يومًا شكوة عليه. ولهذا سوف أكافئك وأرفعك إلى رتبة إرشمندريت. أتسمع، يا بني، غدًا. استعدّ.
– تأثّر الكاهن جدًّا من هذه المكافأة غير المتوقّعة، وقال: ولكن، لست مستحقًّا، يا صاحب السيادة، أن أكون أرشمندريتًا. أنا مذنب أيضًا. أنا الذي بدأ بالمشاجرة. أنا مذنب أكثر من القارئ. نعم أنا مذنب.
– إذن، يوجد أيضًا فيك شيء من الضمير الحيّ. الشكر لله. ثمّ قال للكاهن بابتهاج: الآن أنت تستحقّ هذه الرتبة بجدارة.
– كلا. لا أستحقّ ثمّ أجهش ببكاء الندامة والتوبة.
أرسل الأسقف بعد ذلك يستدعي القارئ الذي لمّا رأى الكاهن يبكي بمرارة، وأنّ الأسقف متجهّم الوجه صارمًا رغم ابتسامته الأبويّة قلق، ولكنّ الأسقف بادره بالسؤال:
– ماذا تقول أنت؟ من بدأ بالمشاجرة؟
– ( وهو يرتجف) الكاهن.
– ولكنّ الكاهن قال الشيء نفسه بأنّه هو المسؤول، فهل هذا يعني أنّك أنت بريء؟ هل يعني هذا أنّك تحمّلت، كشهيد، شتائم الكاهن لمدّة طويلة؟ حسنًا. استعدّ، فغدًا سوف أرسمك شمّاسًا.
لقد توقّع القارئ العقاب، ولكن أن تُعرض عليه خدمة الشموسيّة فلم يكن يحلم بهذا. اضطرب، وشعر أنّه غير مستعدّ لهذه الخدمة بسبب خلافه مع الكاهن. وفجأة سقط عند قدميّ الأسقف وقال بدموع:
– يا صاحب السيادة، أنا لست مستحقًّا أن أكون شمّاسًا. أنا مسؤول أكثر من الكاهن.
– فاحتضنه الأسقف وقال له: بل أنت اليوم أكثر استحقاقًا، لأنّك اعترفت تائبًا كما فعل الكاهن. لذلك، وبكلّ تأكيد سأرفعه هو إلى رتبة الإرشمندريت وأنت إلى رتبة الشموسيّة. تصالحا أذن.
احتضن العدوّان السابقان بعضهما البعض والدموع تجري من مقلتيهما. وفي اليوم التالي برّ الأسقف بوعده فرفعهما إلى رتبتيهما اللتين وعدهما بهما، وأرسلاهما إلى القرية وهما في سلام وفرح.
فرح بهما أهل القرية، ومنذ ذلك اليوم لم يُسمع أنّهما اختلفا البتّة، بل حاول كلّ منهما أن يرضي الآخر ملبيًّا طلبه بكلّ محبّة وتواضع.
كيف يتقاتل الناس
لاحظ أحد الرهبان المستنيرين، ذات مرّة، كيف كانت الشياطين تلقي الناس في التجارب، هامسة في آذانهم شرورًا متنوّعة. ولكن، وبما أنّ الناس كانوا منهمكين مشتّتين بالأمور المعيشيّة، لم يدركوا ألاعيب الشيطان وفنونه، وتاليًا كانوا يقبلون أفكاره الشرّيرة، ويلهجون بها وكأنّها أفكارهم.
وهكذا كان البعض منهم يستسلم للغضب مدّعيًا بأنّ الحقّ معه، وأنّه هو المظلوم وليس الظالم. والبعض الآخر كان يسقط بسهولة في الافتراء على الآخرين أو في إدانتهم. وقسم ثالث يسقط في الخصومات والأحقاد والعداوات. وآخرون يقعون في التشهير بإخوتهم وفضح عيوبهم ونقائصهم…
ففيما كان هذا الراهب المستنير يسير، ذات صباح، متوجّهًا إلى الكنيسة القريبة من ديره، شاهد إنسانًا منهمكًا في عمله يريد أن ينجزه بأقصى سرعة ممكنة. وإذا برجل أسود الوجه جاحظ العينين يقترب منه بطريقة غير منظورة، ويهمس بأذنه بضع كلمات، ثمّ جلس في زاوية الشارع وهو يضحك باستهزاء منتظرًا ليرى نتيجة عمله. ظهرت بوادر الغضب الشديد، فجأة، على وجه العامل، وأخذ يلتفت حوله وكأنّه يستعدّ لهجوم عنيف.
وعلى مسافة قريبة من هذا العامل، كان هناك شخص آخر يعمل. وبغتة ترك العامل الأوّل عمله، وبدأ يركض وهو يلوّح بيديه مهدِّدًا متوعّدًا العامل الآخر، ثمّ بدأ يشتمه ويهاجمه. وعندها اقترب رجل أسود آخر من العامل الثاني، وأيضًا، بطريقة غير مرئيّة، همس في أذنه بضع كلمات أشعلت غضبه، ودفعته إلى لكم وركل العامل الأوّل، ثمّ ما لبث أن ابتعد عنه وهو يفرك بيديه ويقول بلهجة المنتصر الظافر: “لقد تغلّبت عليه، ولقّنته درسًا لا ينسى”. وهنا صافح كلّ من الرجلين ذوي البَشَرة السوداء مهنّئين بعضهما البعض لنجاح عملهما.
وهكذا قام الرجلان الأسودان، واللذان كان بالحقيقة شيطانين خبيثين، بزرع العداوة والخصومة بين العاملين، حتّى إنّهما بقيا مدّة طويلة حاقدين على بعضهما البعض دون أن يدركا فعل الشيطان فيهما، وكيف أنّهما وقعا في فخّه ومصيدته.
حزن الراهب جدًّا لما حصل، واستدعى العامل الثاني، وأخذ ينصحه ويشرح له خطورة تصرّفه سواء كان بالنسبة إلى رفيقه أو إلى نفسه، فقال له:
– لقد رأيتُ، يا ولدي، ما حدث، بل رأيت الشيطانين اللذين لم ترياهما أنتما، وكيف دبّرا لكما هذه المشاجرة. انتبه، يا ولدي، فالعنف دليل الضعف، فإذا لم يتسع قلب الإنسان بالحبّ، وإذا لم يتمكّن عقله من حلّ الأمور بحكمة وهدوء ورويّة، وإذا لم يقدر أن يضبط أعصابه باتّزان، حينئذ يلجأ إلى العنف، ويكون عنفه دليلاً على قلّة الحيلة والعجز عن التصرّف السليم. من يلجأ إلى العنف يدعو الشيطان إلى الاستقرار داخله بسهولة، بل ويرتاح داخله راحة تامّة، لهذا فالعنيف ابن للشيطان بامتياز.
لا تظنّ، يا ولدي، أنّ الضرب واللكم هما، فقط، من أساليب العنف، بل وتحطيم المعنويّات كالزجر الشديد والتوبيخ القاسي والتركيز باستمرار على الأخطاء وتحطيم الشخصيّة والتهكّم اللاّذع والازدراء والتشهير والتجاهل والمقاطعة والسبّ والعتاب العنيف والذي قد يكون لسبب تافه.
– ولكن، يا أبي، هل كلّ عنف مرذول وسيّئ؟!
– طبعًا لا. لا نستطيع أن نسمّي كلّ عنف خطيئة، فهناك مواقف توجب العنف كمعاقبة الخطأة أو اللصوص الذين يهدّدون المجتمع بجرائم تحطّمه. وهناك خطايا يستهتر بها مرتكبوها ويكرّرونها ويكونون قدوة سيّئة لغيرهم، لذا وجب معالجتها بحزم وحسم وسرعة. وهنا طبعًا يكون العنف فضيلة لا رذيلة.
والآن، وبعد أن تكلّمنا بما فيه الكفاية عن العنف، هلمّ بنا نذهب إلى رفيقك لنتصالح معه، فمن صفات الإنسان المسيحيّ الوداعة والصفح. ولا تسمح مرّة أخرى للشيطان أن يلعب بك، بل في كلّ مرّة تحسّ بوشوشته ارسم على نفسك إشارة الصليب، فيختفي للحال مع وشوشاته.
قام هذا العامل المجاهد، وذهب مع الراهب إلى منزل رفيقه الذي كان يعاني من آلام كبيرة نتيجة للضرب واللكم اللذين نالاه، وركع عند سريره يطلب منه المغفرة. ثمّ عاد مع الراهب إلى بيته وهو يحسّ بسلام داخليّ كبير.
لم ينسَ الراهب أن يعظ العامل الثاني بكلام مماثل، مبيّنًا له قيمة التروّي وعدم الانجراف وراء انفعالاتنا.