الرهبنة المعافاة والرهبنة العليلة
الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
مقدمة المترجم: كتب الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس، مطران نافباكتوس، هذه المقالة إثر قطعه الشركة مع دير التجلّي في نافباكتوس بسبب فضيحة إدارية طاولت هذا الدير. لكن التعليم الوارد فيها ينطبق في كل العالم وعلى كل الأديار والأبرشيات.قد يحاول البعض تطبيق ما يرد في هذه المقالة على حالة من هنا أو من هناك في أنطاكية، هذا لا يمنع كون ما في المقالة هو تعليم يمكن تطبيقه، لكن الهدف من ترجمتها ليس الإشارة إلى أي حدث محلي بل هو تعميم النفع الوارد فيها.
الرهبنة هي مجد الكنيسة وكما يعلّم القديس غريغوريوس النيصي، الرهبان هم تاج جسد الكنيسة وهم بالحقيقة جوهرة الرأس، لأنهم مثل الشَعر أموات للعالم فيما يلمعون ويشعّون بنور المسيح. في الحقيقة، الحياة الرهبانية نبوية رسولية وشهادية، وبهذا المنظار يحتفي الأرثوذكسيون بالرهبنة الحقيقية. تُظهِر قراءة أعمال الرسل والرسائل أنّ المسيحيين الأوائل قلّدوا المجموعة الرسولية وعاشوا في الصلاة والحياة المشتركة والوحي وعدم القنية متوقّعين مجيء ملكوت الله الذي اختبروه كارتباط روحي.
خلال الاضطهادات عاش المسيحيون بقوة بحسب الوحي الإلهي ونزلوا إلى أسافل الأرض، إلى السراديب، لعبادة الله. بالطبع، لم يعيشوا مستقلين، بل كانوا مرتبطين ببعضهم البعض مع الكهنة والأساقفة. بعد توقف الاضطهاد ودهرنة المسيحية اتّسعت ظاهرة الانسحاب من العالم فصارت الكهوف والغابات والأرياف ملأى بالرهبان الراغبين في ان يعيشوا “شهادة الضمير” لكي يمجّدوا الله بشكل مستمر مصلّين له ولكي يعيشوا مجيء الملكوت ويطلبوه.
بسبب إمكانية وجود انحرافات في هذه الحالة، جاء القديس باسيليوس الكبير بنصوصه النسكية، خاصةّ “القانون المطوّل” و”القانون المختصَر”، ووضع الأساس للرهبنة الأصلية المعافاة. لقد نظّم الحياة المشتركة متلافياً التطرّف حتّى يستطيع الرهبان أن يعيشوا في الكنيسة التي هي المؤسسة المبارَكَة والمقدّسة التي أسسها الروح القدس كجسد للمسيح ويخلُصوا في ثباتهم ضمنها. وكون الإفراط يمكن أن يُلحَظ في كافة أوجه الحياة الاجتماعية، قررت الكنيسة مجمعياً كيفية عمل الرهبنة وطريقة إدارة الأديار بتراتبيتها ومجمعيتها. يتميّز قانونان من المجمع المسكوني الرابع بكونهما أساس الرهبنة الأرثوذكسية وهما يحددان الفرق بين الرهبنة المعافاة والأخرى المريضة.
القانون الرابع من المجمع المسكوني الرابع واضح جداً: “إن المنخرطين في سلك الرهبنة باستقامة وإخلاص يحق لهم الإكرام اللائق بهم. على أنه لما كان بعض المتوشحين بثوب الرهبان يشوشون نظام الكنيسة ويزعجون الحكومة المدنية بتجولهم في المدن مهملين واجباتهم وساعين في بناء أديرة لأنفسهم فقد حكمنا بأنه لا يجوز لأحد في أي مكان أن يبني أو يؤسس لنفسه بيتاً للعبادة بدون موافقة أسقف المدينة ور خصته. وإن الرهبان، في كل مدينة وناحية، يجب أن يكونوا خاضعين للأسقف ويلازموا السكينة والهدوء ولا يهتموا بغير الصلاة والصوم مداومين على الإقامة بصبر في الأماكن التي عيّنت لإقامتهم بدون أن يتدخلوا في القضايا الكنسية أو يغادروا أديارهم إلا عندما يسمح لهم أسقف المدينة عند الحاجة والاضطرار. ولا يجوز لأحدأن يقبل عبداً يطلب الانخراط في الرهبنة في الأديار بدون رضى سيده وموافقته. وقد رسمنا بأن كل مَن يخالف تحديدنا هذا يُقطَع من الشركة حتى لا يُجَدَّف على اسم الله. على أنه يُطلَب من أسقف المدينة أن يعتني بتدبير كل ما تحتاج إليه الأديار”.
كما يظهر بوضوح تامٍّ من هذا القانون، لا ينبغي أن يشرف الرهبان على أنفسهم بل أن يطيعوا أسقف منطقتهم. عليهم أن يحققوا جوهر الرهبنة الذي هو الهدوء والصوم والصلاة والثبات بصبر في المكان الذي اختاروه. إلى ذلك، ليس لهم أن يقوموا بأعمال تسبب الإرباك في الكنيسة والجماعة، وليس لهم أن يغادروا الدير ويتجوّلوا في العالم من دون إذن الأسقف. الرهبان الذين يقومون بخلاف ذلك فلا يطيعون الأسقف ولا يسلكون رهبانياً ينبغي قطعهم. في حالات تمتع الأديار بالصحة، على الأسقف تأمين حاجاتها.
واضح أن الكنيسة تتألّف من أساقفة في شركة مع الكهنة والشعب. الإدارة في الكنيسة تراتبية ومجمعية ما يعني أنه ليس لكل واحد أن يفعل ما يحلو له، بل على كل واحد أن يقدّم حساباً في مكان ما. أيضاً، في الكنيسة فرق واضح بين الرعية والدير. الأمر المشتَرَك الوحيد بينهما هو الإفخارستيا وغيرها من الأسرار، بينما الفرق هو طريقة الحياة، حيث أناس الرعية يُرشَدون رعائياً بينما في الدير فتُرعى الصلاة المكثّفة لخير كل المسيحيين.
يغوص القانون الثامن ممن المجمع المسكوني الرابع فيحدد سلوك الرهبان والعلمانيين نحو الأسقف. أقتبس ما يلي: “يجب أن يكون الإكليريكيون المعيّنون لمساكن الفقراء أو الأديرة أو مزارات الشهداء تحت سلطة أسقف المدينة التي يقيمون فيها حسبما فرض الآباء القديسون. وكلّ مَن تجاسر على مخالفة هذا الأمر ورفض أن يكون تحت طاعة الأسقف فإذا كان إكليريكياً تُفرَض عليه العقوبات بوجب القوانين وإن كان راهباً أو عامياً يُقطَع من الشركة”. هذا القانون أيضاً واضح جداً إذ يشير إلى أن أسقف الكنيسة المحليّة ليس عنصراً للزينة بل هو مَن يؤسس وحدة الكنيسة المحلية.
لا ينبغي أن يقوم أكليروس الأديار في وجه الأسقف بكبرياء. يقول القانون في اللغة الأصلية ” καί μη κατά αυθάδειαν αφηνιάτωσαν του ιδίου επισκόπου ” (لا يرخينّ أحد قانون أسقفه بغرور).
نحن نقول عادةّ أن الحصان يصير برياً في حالة هيجان (αφηνίασε). تنعكس هذه الصورة في الرهبان الذين يقومون في وجه الأساقفة (Aφηνιάζω تعني حرفياً التقاط شكيمة الحصان بين الأسنان). يفسّر زوناراس عبارة αφηνιάζειν بالفرار والتفلّت من سلطة الأسقف. أيضاً في هذا القانون أنّ الذين يسببون الاضطراب في هذا النظام يخضعون للكفارة. بالطبع، تُستَعمَل الكفارات كعوامل علاجية لشفاء أعضاء الكنيسة المرضى، على مثال ما يتمّ مع مرض الجسد. هذا يعني أن كل مَن لا يطيع القوانين المقدسة والإدارة المجمعية والرئاسية في الكنيسة هو مريض ويموت روحياً إن لم يتُب.
إلى جانب إكليروس الأديار والرهبان، يشير هذا القانون إلى العلمانيين أيضاً. يكتب القديس نيقوديموس الأثوسي في تفسير الإشارة إلى العلمانيين في هذا القانون: “بهدف إظهار هؤلاء العلمانيين الذين يتّكل على الإكليروس والرهبان على جسارتهم وحمايتهم في إظهار قلّة الاحترام للأسقف ورفض الانصياع لسلطته”.
من هذين القانونين المقررين في المجمع المسكوني الرابع ذي السلطة العليا في الكنيسة واللذين ينبغي تطبيقهما بدقة، يُستَنتَج ثلاث نتائج:
1. للدير الأرثوذكسي المقدّس في تقليد الكنيسة هدف محدد ورسالة محددة. فهو يستقبل بعض أبناء الكنيسة، رجالاً ونساءً، ممن يريدون بأن ينمّوا الصلاة الحارّة ويعيشوا بالصوم والهدوء، أي أن يسلكوا نسكياً في كامل تقليد الكنيسة الهدوئي. يختلف الدير بشكل واضح عن طريقة إتمام العمل الرعائي في الرعايا، ولا ينبغي أن تحلّ الأديار مكان الرعايا ولا أن تباري عملها الرعائي. بتعبير آخر، الرهبان رعاة بطريقة غير مباشرة، بإظهارهم للعلمانيين مثال الصلاة والحياة الروحية ضمن الكنيسة، في احترام للكهنة وخاصةً للأساقفة. بهذا لا ينبغي بالأديار أن تصرف انتباه الناس بطريقة منظّمة عن الرعايا ولا أن ترفع نفسها إلى المستوى والطريقة التي تعمل بها الرعية.
على سبيل المثال، لا يستطيع الرهبان أن يحوّلوا الأديار إلى مراكز للمؤتمرات، أو الضيافة، أو التخييم مع كثافة شبابية ومحطات راديو وغيرها. لا يمكنهم أن يطوّروا برامج كالرحلات والتسلية بالأدوات وما شابه. لا يستطيع الرهبان الأرثوذكس أن يحوّلوا الأديار إلى رعايا، خاصةً من دون موافقة الأسقف، الذي ينبغي أن تكون موافقته دائمة وليس مجرد إشارة إلى بركَة لا يرافقها أي تفسير من الماضي من الأسقف نفسه أو من سابقه.
إذا اراد بعض الرهبان أن يعملوا في الرعاية يمكنهم ذلك بإذن الأسقف. فليقرروا ويحصلوا على الإذن بأن يكونوا كهنة رعايا يمارسون عملهم الرعائي نحو الشعب. لا يمكن علمنة الأديار بتحويلها إلى رعايا وبالتالي تغيير روح الرهينة الأرثوذكسية، وبالإجمال السماح بإحداث منافسة بين الأديار والرعايا.
لا يمكن تنظيم الدير الأرثوذكسي المقدّس مثل “أبرشية” مستقلّة. لا يستطيع الرهبان أن يعيشوا بشكل مستقلّ، ولا يمكن تقديم رئيس الدير وكأنه سلطة كنسية ثانية أي مثل خورأسقف (Χωρεπίσκοπος). بالطبع، يتمتع كل دير وكل رعية بحكم ذاتي دون أن يستقلّ ولا يُقطَع عن إدارة الرئاسة الكنسية المجمعية.
2. إن لأسقف كل كنيسة محلية نعمة خاصة لرعاية الكنيسة جمعاء والاهتمام بها، حتّى تتمّ كل الأمور بلياقة وترتيب، على أساس القوانين المقدّسة والتقليد الكنسي. فهذه السلطة ليست عنصراً تزيينياً ولا مؤسسة إدارية علمانية. هو يقود قطيعه، الإكليروس والرهبان والعلمانيين، بمعرفة التقليد المقدس والقوانين الإلهية، التي أكّد في سيامته أنّه يحافظ عليها ويوقّرها. إن عصا الرعاية التي تُعطى له في سيامته اسقفاً ليست للزينة بل لها رمزيتها البارزة بشكل مميز من الكلمات التي تُقال عند تسليمه” هذه العصا لترعى بها رعية المسلّمة إليكَ. ولتكن لك نحو الطائعين عصا رعاية وحماية. ولكن أرشِدْ العصاة والمتردين إلى الإصلاح واللطف والطاعة، وهم يسلكون في التسليم الواجب”. تشير عصا الرعاية إلى الخدمة الأسقفية، لأن على الأسقف أن يسند المراعين بعصا الحماية، ويعلّم بعصا التوبيخ السخفاء والمستهزئين، الذين ينشئون ما يثير الهزء والسخرية.
إذاً، لا يمكن أن يحلّ الدير المقدّس مكان الخدمة الأسقفية أو أن يقدّم ذاته كمثل “سلطة اسقفية” على الأرض، مبارياً أسقف المنطقة وعاملاً كسلطة كنسية ثانية. بالطبع، الأسقف ذو التمييز والحكمة لا يرى في رئيس الدير المتكبّر غريماً له، لكنه لا يستطيع أن يحتمل الأعمال غير الكنسية التي تقسِم مدى الكنيسة وتجعل الناس متعصبين، محوّلة إياهم إلى أعضاء في مجموعة فوضوية مستقلة يستعملونها بيدقاً في سعيهم الشخصي في محبة السلطة. لا يستطيع الأسقف أن يبقى غير مهتم بوضعية تغيّر الروح الكنسية والفكر الكنسي. لا يمكنه أن يداري الانشقاقات في الجسم الكنسي والتعديلات في التقليدين الرهباني والكنسي.
الأسقف يكون صبوراً يعلّم الشعب ويقترح ما يناسب، لكن متى بدأت بعض الحالات المَرَضية بالتكوّن يكون ملزَماً بأن يتّخذ التدابير المناسبة لعلاجها الروحي، بحسب ما يصف القديس يوحنا السلّمي في الدرجة الحادية والثلاثين من السلّم إلى الله، وهي المعنونة “إلى الرعاة”. من غير الممكن لديه أن يكون غير مبالٍ بالسرطانات الكنسية وبأن يترك لخلفائه ميراثاً من الحالات الكنسية الشاذّة.
3. ينبغي أن يكون الدير الأرثوذكسي المقدّس نموذجاً وحتّى قالباً للحياة الاجتماعية والشفافية المالية والشرعية والحرية والعدالة. من الأديار، حيث يصلّي الرهبان ويعيشون عمق الحياة في المسيح وارتفاعها، ينبغي أن تنبثق روح المحبة والحرية الروحية والتحرر من كل إدمان، عطراً روحياً من الكياسة والعظمة الكنسية. إن الدير الذي يحفظ هذه يكون أرثوذكسياً. عندما يكون الرهبان أنواراً للرهبان يكون الرهبان أنواراً للشعب. وبالعكس، كما يقول أحدهم: “إذا كان الراهب بلا أجنحة (أي أنه ليس ملاكاً) يكون ذا قرنين وذيل”.
أنا شخصياً أؤمن أن وجود ثلاث حالات مرضية تحمل مشكلة للمجتمع:
أولاً، عندما تسود اللامبالاة نحو أمور الفساد المالي وسوء التصرّف المادي ومختلف أوجه عدم الانتظام. إن مجتمعاً لا يبالي بهذه الحالات يظهِر ضياعه.
الحالة المرَضية الثانية هي وجود أعمال عنف، أي عندما يظهر المقيمون طلباتهم بطريقة فاشية عنيفة بدلاً من الطريقة السلامية الديموقراطية. ينبغي قيادة المجتمع على أسس ديموقراطية تنحو نحو تربية الشعب.
الحالة المرَضية الثالثة هي وجود مراكز للترهيب، أي أن يخاف الشعب من التعبير عن ذاته لأنه يعرف أنه سوف يتعرّض للابتزاز والضغوط والتشهير والتهديدات.
إن مجتمعاً تسوده هذه الحالة المرضية يعجز عن الوقوف على رجليه، ويعجز عن تحقيق موهبة تقديم المعنويات والأمان والحرية لأعضائه.
إني أقدم هذا النص بالإشارة إلى الرهبنة، لأن هذه الحلات المَرَضية الثلاث (الفساد المالي، العنف والتهويل) إذا انبثّت من مراكز كنسية، من أديرة متدهرنة، تحاول أن تتحكّم بالمجتمع بموارد سياسية واجتماعية وتسعى إلى ضبط أمور المجتمع حتّى السياسية والاجتماعية منها، من منظار سياسي وحزبي، فالمجتمع برمته يكون في حالة إحباط. أرى أن أسقف الكنيسة المحلية يراقب ويراجع كل هذه الأمور ويحاول علاجها بالتمييز والعقل وأحياناً بالجراحة الروحية. لا ينبغي عليه الاكتفاء بحضور النشاطات الاجتماعية اللامعة بل أن يكون واعياً لهدف رسالته وخاصةً العمل ضمن التقليد الكنسي وبالشروط المسبقة الضرورية والمعرفة بأن عليه أن يبرر تصرفاته وكلماته وأعماله أمام الله. بالطبع، في هذا الموقع الجدّي والمسؤول، هناك مخاطر ومجازفات بوجود بعض الفساد، والبعض يعرّضون حياتهم للخطر بهذه الأمور المتعارضة مع الأسقف الشرير.
للختام، أريد أن أذكر أن الرهبنة المعافاة هي مجد الكنيسة، بينما الرهبنة العليلة التي تحوّل نفسها إلى رعية أو أبرشية أو مؤسسة علمانية، تهبط على مقياس عبارات القوانين الإلهية، وتكون مصدر شوائب عديدة في الكنيسة والمجتمع، وهي بالحقيقة قرحة للكنيسة ومصدر أذى أبدي للرهبان.
Ναυπάκτου Ιερόθεος: «Ο υγιής και ο άρρωστος μοναχισμός» http://www.romfea.gr/epikairotita/15315-2013-01-22-00-48-22