الطيبة المغفّلة
فوتيوس كوندغلو
نقلها إلى العربية راهبات دير مار يعقوب الفارسي المقطع، دده – الكورة
ما أجمل الطيبة!! ما أشرق وجهها وأروع كلّ حركة تبدو منها!! إنّها تماثل ربّها الوديع وهي تقترب منك بكلّ دعة بهدف إراحتك، وتلاحظك بكلّ تواضع وكأنّك أخ لها، وأنت بالفعل هكذا، لتبدي لك صدق محبّتها نحوك وتوجّعها ومعك!! يا لها من نعمة يغدقها الله عليك بأن تحسن التكلّم وتجيده!! ولكنّها منّة أعظم أن تمتلك الطيبة، إذ بها تحاكي الربّ الطيّب الحنون. تشبه الطيبة السماء الصباحيّة الخالية من الغيوم، إنّها كصنبور يجري بسكون في بقعة منعزلة هادئة، ينتظر بصبر مرور تَعِبٍ منهَكٍ ليروي ظمأه من مياهه المنعشة العذبة دون أن ينتظر منه أجرًا، بل بالحري يقابله بالشكر الجزيل، لكونه منحه فرصة العطاء الباذل المجّانيّ، “فالعطاء أعظم غبطة من الأخذ” (أع 20: 35).
كم تتجرّع الطيبة كلّ يوم من مرارات لا سيّما في عصرنا هذا!! فالكلّ يهينها ويزدري بها، وينعتها، بشتّى الوسائل والصور، بأنّها مغفّلة بلهاء سريعة التصديق وعديمة النفع وسط عالم يدّعي الذكاء ويغمره بحر الكبرياء، ويتباهى بحيله ودهائه. إنّ أساليب الشرّ المضلِّلة تتهكّم على بساطة بعض الأشخاص الذين لا يزالون يتمتّعون بها، هؤلاء الذين لم يخبُ في داخلهم نورُ الله تسخر منهم، وتتغامز عليهم. إنّ معظم “أذكياء” هذا الدهر يغتاظون من البساطة والطيبة، ويتساءلون منذهلين: “أحقًّا لا يزال يوجد أناس أبرياء أنقياء في هذا العالم”. وإنّ حيّاهم أحدهم ببساطة يتعجّب من بلاهته، لأنّ هؤلاء “الأذكياء” وأمثالهم لم يعتادوا أن يحيّوا بعضهم بعضًا إلاّ بابتسامة باهتة مصطنعة ترسمها المصلحة على شفاههم، مصلحة أعمالهم، مصلحة زواجهم… وما يضنيك، بالفعل، أنّهم يعتبرون هذا حكمة بالغة تستحقّ المديح!!
إنّ رجلاً مغرورًا، كهذا، يسخّر كلّ شيء لمصلحته، ويسيّر كلّ الأمور بحسب اهتمامه: صداقته، فرحه، حزنه، ضحكه، تقطيبه، أعماله، وحتّى زوجته وأولاده!! يا للقباحة!!! وبكلمة واحدة، إنسان كهذا يعيش الخداع ويتنفّس الخداع، بل لقد أمسى يتغطّى والخداع بجلد واحد بات من الصعب عليه أن ينسلخ عنه، فكيف له، إذًا، أن يعرف الفرح الحقيقيّ. لقد انتفى الفرح من حياته، لأنّ جحيم مصلحته قد طمس كلّ شعاع من الفرح، هذا الجحيم الذي اختاره بنفسه كما يعيش الشيطان فيه باختياره! إنّه إنسان يستميت ليربح العالم كلّه بعقله الفاسد، فيخسر، بذلك، نفسه ويؤذيها غير مبال بها، وكأنّها ليست بنفسه. ولكن أيّ نفس سيطال طالما أنّه عاد لا يملك نفسًا بعد، وإن امتلكها، فهي تعمل كآلة شيطانيّة؟!! إنّ الحسّ الوحيد الذي يملكه هؤلاء الأشخاص هو الجشع الزهرة الوحيدة التي تنبت في مستنقع نفسه، زهرة لا رائحة لها سوى رائحة عفن المصلحة. إنّ الحزن يسيطر على إنسان مريض كهذا غير قابل للعلاج حتّى يأكل النفس برمّتها، ويجعلها قاسية كالبئر الجافّ، ويحوّلها مقرفة يتقزّزها الآخرون. آه، كم هي بعيدة الطيبة عنه!! وكم تتألّم هذا الطيبة الطيّبة لهذا البعد!!
من كان بخيلاً في ماله هو بخيل، أيضًا، في أحاسيسه. يخاف أن يحبّ الآخرين الطيّبين، لأنّ الطيبة بالنسبة إليه تبدو بلهاء مسرفة مبذّرة حتّى في العطاء والحسّ. يختفي كالخلد في حفرته حتّى يحصده الموت، ولكن ماذا سيحصد الموت منه؟ النفس؟ فهو لا نفس له. القلب؟ فهو بلا قلب. الحياة؟ إنّه مائت منذ أمد بعيد، منذ أن جعل مصلحتَه محور حياته، فهل يأخذ ميتًا ليضيفه إلى لائحة الأموات. نعم، إنّه مائت ودفين القبر، أيضًا، رغم مظاهر الحياة التي فيه. كلّ ما هو منعش أصبح يابسًا داخله. كلّ وسائل الحياة أصبحت مدفونة في لحد قلبه، فعاد لا يوجد فيه سوى سمات الموت. الأنا، اضطراب الفكر وتشوّش الذهن، الكبرياء، الدهاء، الجحود، الحسد، وتتوّج كلّ هذه المراءاة صفة الذئاب. هذه هي كنوز النفس المائتة، وهذه هي نفائس مغارة الموت.
إنّنا نرى الأشخاص اليوم، وأكثر من أيّ وقت مضى، ملتصقين بالخطيئة، مضطربين رغم أنّ مظاهر السعادة تشمل كلّ نواحي حياتهم. لم يكن الإنسان يخشى الفقر والمرض والموت بقدر ما يخشاه إنسان اليوم، لأنّه عاد لا يخاف الله. نحن اليوم، أناس هذا العصر، لا تواضع لنا ولا صبر، ولا نستطيع تحمّل الظلم، إذ لا رجاء لنا، الرجاء الذي يحلّي مرارة الحياة. وليس فقط لا نمتلك التواضع، بل لا يروق لنا الإنسان المتواضع، لأنّنا فقدنا سكون الحواسّ، فالسكون والتواضع صنوان لا يفترقان. وحيث توجد المحبّة الحقيقيّة تختفي الكبرياء، والطيبة هي الابنة البكر للمحبّة، ومن يحبّ الرفاهيّة والعيش الرغيد لا يستطيع أن يمتلك شعورًا متواضعًا، وصدق الآباء حين شبّهوا الفضائل والرذائل بسلسلة ترتبط حلقاتها بعضها ببعض، فالفضيلة تلد الفضيلة، والرذيلة تلد الرذيلة..
إنّه أمر غريب كيف يغرق الإنسان في بشاعة النفس هذه لدرجة أنّه يرى ناموس الربّ أمرًا ثقيلاً وصعبًا، بينما هو سهل ومفرّح وبهيّ. لا يطلب المسيح منّا أن يتعدّى واحدنا على الآخر، ولا أن نقتل بعضنا بعضًا، وأن نسرق، ولا أن نغضب، ولا أن نتعرّض للمخاطر لنحصل على الغنى إن كان في البرّ أو في البحر. أليس هذا صعبًا، ونحن نجعله هيّنًا، لا بل ممتعًا بسبب سوء معتقدنا؟ القتل والدمار وسرقة الأموال والاقتصاص والثأر نراها أمورًا سهلة عاديّة، ونعملها بكلّ قناعة ورغبة. بينما نقول بأنّ المحبّة والتواضع والإحسان وبقيّة الأمور الفاضلة الصالحة صعبة التطبيق ومتعبة. لماذا؟ ألأنّ المسيح يطلبها منّا؟ نعم، إنّ الشيطان يجعلنا نرى الأمور معاكسة لحقيقتها، فهو لا يبغي سوى إلقائنا في أحضانه، وكلّنا نعلم ما هي أحضانه، أو إلى أين يؤدّي طريقه.
لا تخافوا الفقر الجسديّ بقدر ما ترتعبوا من فقر النفس وخلّوها من الصلاح، لأنّ هذا يجعل المرء جثّة معدودة بين الأموات. فويّل نفسك، عندئذ، ولكن لا تيأس، بل تشجّع وكن رجلاً، وابدأ من جديد. أحبّ الوداعة والصبر، وستجد كيف ستلقى الراحة، وتتذوّق طعم الخلود، ولا تشمئزّ من الطيبة، وتنفر منها، فتملك سريعًا البساطة والفرح.
الرجل الطيّب الصبور يشعر وكأنّه يعيش في قصر منيف لايستطيع أيّ عدو اقتحامه والاستيلاء عليه. الرجل الوديع الصبور لا يعرف القلق والاضطراب، ولا يخاف أن يغرّقه أيّ إعصار يجابهه. فاطرد الأفكار الشرّيرة من داخلك، وستشعر بعد فترة بالرائحة الكريهة التي كانت تصدر من أفكارك، تلك التي كنت تحبّها وتأويها. اخرج قليلاً من ظلام الكبرياء التي تغطّيك، وسيلمع أمامك نور التواضع بقوّة، وستشعر بالفرح النيّر والهدوء العظيم يسودانك. ارغب في البكاء على ذاتك، وستدرك من أين ينبع الفرح الحقيقيّ. لا تحتفظ بما يحزنك طويلاً، وستشعر بتعزية حقيقيّة. تذكّر دائمًا أنّك اليوم موجود، وغدًا لن توجد بعد في هذا العالم، وسوف يأتيك الاتّضاع على طبق من فضّة. وإن اتّضعت ستكون قريبًا من الله، وستفتح رحمتُه عينيك على عالم منير تشرق فيه شمس الرجاء التي لا تغيب.
وفي الختام لا بدّ أن نسألك: تُرى هل ما زالت الطيبة في عرفك مغفّلة بلهاء؟!! تُرى من هو الأبله، الآن، أأنت “الذكيّ” أو الطيبة “المغفّلة؟!!!
* عن اليونانيّة من كتاب “الملجأ المبارك” للرسام فوتيوس كوندغلو