رهبنة أنطاكية
الأب أنطوان ملكي
مضت قرون طويلة كانت فيها أنطاكية بلا أديار بالمعنى الفعلي للكلمة. فالأديار الأنطاكية القليلة كانت بلا رهبنة، يسكنها مجموعة من المتبتلين دون أن يشكّلوا أدياراً، أو عائلات تهتمّ بالأوقاف وتمدّ المطرانيات بالملابس والمؤن. ومع أن بيوت المطارنة في تقليدنا الشعبي تسمّى قلايات، إلا أن السمة العامة في الألف الأخير لا تشير إلى أن الاسم كان على مسمّى. طبعاً، هنا وثمّة شذرات منيرة إذ لا يطلب الروح القدس إذناً لهبوبه حيث يشاء. لذا نجد أن بعض الأديار كان يمر في فترات يشعّ نورها ثم يخبو. إلى أن أرسل الله الطيّب الذكر الأرشمندريت الياس مرقص وكرّت السبحة مذّاك.
ما هو حال الرهبنة في أنطاكية اليوم؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من التوقّف عند قوانينها، موقف الرئاسات منها وتفاعل البيئة الأنطاكية معها.
الرهبنة في القوانين الأنطاكية
مع عودة الحياة الرهبانية إلى أديار أنطاكية، يمكن ملاحظة التطوّر في القوانين لمجاراة هذه الحياة. ففي قوانين ما قبل 1955، لم يكن هناك كلام عن رهبان إلا كمدراء ووكلاء على الأديرة التي كانت المواد القانونية تصف علاقتهم بالمطران عَرَضاً فيما تركّز على شؤون إدارة الريع فيها. في قانون 1970، يوجد مادة وحيدة قوامها 17 كلمة تحدد مَن هو الراهب فيما بيقى التركيز على ريع الأديار وطرق إدارتها. أمّا قانون 1983 فيفرز فصلاً كاملاً للرهبان مؤلّفاً من 12 مادة، تحدد مَن هو الراهب وما هي نذوره وعلاقته بالأبرشية وتتطرّق إلى العديد من صفاته. هذا التطوّر القانوني يعكس جديّة تعامل كنيسة أنطاكية وتقبّلها للرهبنة وسعيها إلى ترتيب أمورها، خاصةً وأنّ الأديار الرهبانية كان قد بدأ عددها بالازدياد واستقطابها للشباب صار ظاهراً ودورها في النهضة الأنطاكية أكثر وضوحاً.
موقف الرئاسات الكنسية
في أنطاكية، أغلبية أعضاء المجمع المقدس ليسوا من الرهبان ولا ممن خبروا عيشة الأديار، لهذا قد تكون نظرتهم وموقفهم في التعاطي مع الرهبنة نظريَين في حالات كثيرة. الثابت هو أن كل آباء المجمع يشجعّون الرهبنة ويريدون أن يروا زيادة في الأديار، لكن الواضح أيضاً أن عدداً من العوامل تتحكّم بالعلاقة بين الرئاسة والأديار وتجعل التعامل مع أي مشكلة تنشأ فيها صعباً، خاصةً أن كل الأديار العاملة يمتد فعلها إلى أكثر من أبرشية ورعية وبيت.
من أهمّ المؤثّرات على السادة الأساقفة هو نظرة الغرب للرهبنة. فالفرق كبير عن نظرة الشرق. فيما ينذر رهبان الغرب نذور الفقر والعفّة والطاعة، إلا إن المبدأ اللاهوتي الذي تكمن خلف نذورهم يختلف جذرياً عمّا في الشرق. فيما هذه المقالة ليست لدراسة الفرق بين النظرتين، إلا إنّه ضروري التوقّف عند عدد من المفاهيم التي تظهر الاختلاف وأولها تبنّي الغرب لفكرة الرهبنة الاجتماعية حيث الرهبان ينشِئون المؤسسات ويديرونها وبالتالي يتنقّلون تبعاً للحاجة إلى اختصاصاتهم. في الشرق، الرهبنة رهبنة صلاة، والعمل هو لسدّ الحاجة وأهمّ من ذلك أنه لتلافي الوقوع في الكسل والبطالة. لهذا نرى الراهب الغربي كل فترة في مكان، دير أو مدرسة او مستشفى، بينما الراهب الشرقي ثابت لا يخرج من ديره إلا للضرورة.
أمّا الاختلاف الثاني والأهم فهو حول مفهوم العفّة. فالبتولية في الغرب ليست للعفّة وحَسْب بل لتلافي الدنس، لأن العلاقات مع الجنس الآخر دَنِس، بما فيها الزواج. هذا المنطق هو ما يحرّم زواج الكهنة في الغرب الكاثوليكي. فنظرة الغرب إلى الزواج على أنه دنس تدفع بالكثير من الفتيان الأتقياء المتحمّسين إلى الرهبنة أو إلى الكهنوت المبكر، حيث تتلاقى رغبتهم مع حاجة إدارة كنيستهم إلى طاقم بشري، فيُصار إلى سيامات مبكِرة، يُطلَق أصحابها إلى العالم أيضاً قبل نضوجهم، ما يؤدّي إلى سهولة وقوعهم في خطايا الجسد كالزنى أو التحرّش وغيره. بعض الواعين منهم يتراجعون وينسحبون، ولهذا تظهر الإحصائيات أعداداً كبيرة من الذين يتركون الكهنوت في الغرب، وأرقام مرعبة عن علاقات كهنة بنساء أو بمثليين وغيرها.
حتّى في وجوه العفة الأخرى، يغلب المنطقُ القانوني على المنطق الروحي. لهذا نقرأ عن حالات غريبة في الأدب الغربي. نذكر واحدة، على سبيل المثال، من سيرة فرنسيس الأسيزي، أنه أكل لحماً فاستدعى رهبانه وكانوا بالآلاف وطلب من أحدهم أن يربط حبلاً حول رقبته ويسير أمامه فيما هو يدبّ على الأرض وراءه. ثم شرح لهم أنه عامَل نفسه بهذه الطريقة عقاباً له على أكله اللحم. هذا سلوك لا يعرفه الشرق، لا بل يرفضه، بينما الفرنسيسكان حوّلوه أيقونة في “التواضع”!
جدير بالذكر أن الإشارة إلى هذا الفرق بين الشرق والغرب لا تهدف إلى القول بأن الغرب سيء والشرق بألف خير أو العكس، بل هي فقط لتسليط الضوء على هذا الفرق لأن درجة تأثّر بعض الشرقيين بالغرب عالية. مشكلة بعض الأرثوذكس، ومنهم للأسف مطارنة وكهنة، أنّهم يطبّقون ما يرون عند الغرب على كنيسة الشرق. فكَمْ من الشرقيين يعتبرون أن حياة الرهبنة لا نتاج لها فينادون إلى تحويل الأديار إلى مراكز إنتاج، أي مدارس ومستشفيات ومياتم ودور شيخوخة وغيرها. أغلب الذين يقارنون بين رهبنتي الشرق والغرب لا يهتمّون للخلفية اللاهوتية التي ترسم خط كل من الرهبنتين. من هنا، صار سهلاً لدى الكثيرين أن يتّهموا رهبان الشرق بالتقصير عمّا لدى الغرب، كما أن يعتبروا أن كل ما ينطبق على الغربيين لا بدّ أن ينطبق على الشرقيين بغض النظر عن الخلفية اللاهوتية والمجتمع الحاضن وبنية الكنيسة.
إحدى الصعوبات الناتجة عن هذا الإسقاط هي اعتبار أن ما يصل من أخبار “الفضائح”، وقد اهتزّت كنيسة الغرب بسببها مؤخراً، لا شيء يمنع حدوثها في الشرق، حتى أن البعض يجزم بأنها لا بد حاصلة في الشرق. على سبيل المثال، نسبةٌ لا يستهان بها من الشعب اليوناني ذوي الخلفية اليسارية، يؤمنون بأن جبل أثوس هو مرتع للمثلية الجنسية. لا تناقش الكنيسة هذا الأمر معهم ولا ترى نفسها في موقع المتّهم لأن الخلفية واضحة. يتلاقى هذا المنطق مع فكرة شعبية في بلادنا مفادها أن الفتيات ينضممن إلى الأديار كنتيجة لفشل عاطفي ما أو هرباً من تسلط والدي. وهذا المنطق أيضاً، معطوفاً على خلل المنطق الروحي الذي صار قانونياً على المثال الأوروبي، يجعل البعض يرون في اعتراف النساء عند الكهنة اختلاءً لا بد أن ينتج عنه أمور سيئة، وتَربِيت الأب المعرّف على كتف ابنه تحرشاً. هذا منطق مريض والمؤسف أن بعض متعاطيه يصرّحون بقبولهم العلاقة المثلية إذا كانت ثابتة وقائمة على “الحب”، أي بين نفس الشخصين، لكنهم يدينون ما يعتبرونه تحرّشاً بالأحداث لأن القانون الأوروبي هكذا يقول، بغض النظر عن تعليم الكنيسة وموقف الرسول بولس من المثليين.
ملاحظات
من التأثيرات الغربية على الفكر الشرقي بعامة في القرن الحادي والعشرين، هو تجذّر حضارة الجنس وثقافته. فمن جهة، وبتأثير فرويدي واضح، صار الفكر البشري يرى أن التبتّل كبتاً لا بدّ أن ينفجر. مبدأ تهذيب الجسد مرفوض في هذه المدرسة. ومع تكريس التلفزيون معلّماً اجتماعياً، ترسّخت في فكر الناس صور الخيانة والتحرّش والاغتصاب وغيرها. من جهة أخرى، صار الرهبان يتنقّلون ويزورون ويُزارون، ما سهّل على أصحاب المخيّلات إطلاقها للطعن، وأسهل أشكال الطعن بالرهبنة هو الطعن بالعفة. من هنا، إن الخفّة في التعاطي مع عفّة الرهبان واستسهال التعرّض لها خطر جداً، لأنه في الصميم تعرّض للرهبنة نفسها، وبالتالي للكنيسة بأكملها.
الرهبنة هي عمود الكنيسة الأهم، سواء اقتنع الجميع بذلك أو لم يقتنعوا. خبرة أنطاكية، كما خبرة غيرها من الكنائس، تشير إلى ذلك. في أنطاكية كنّا بلا رهبنة منذ القرن التاسع، أي أيام الأتراك وقبلهم، لذا صرنا بلا تراث وبلا تقليد. فليدلّنا أحد على التراث الأنطاكي “لنحييه”. في اليونان، اربعمئة سنة من الاضطهاد التركي المبرمَج، وفي روسيا، سبعون عاماً من القمع السوفياتي الممنهج، لكن ثمّة أديار بقيت هنا وهناك ورهبان يستقبلون المؤمنين ويخرجون بين الحين والآخر ويبثّون الروح ويشددون الكهنة والعلمانيين، فحُفِظ التقليد وأغني بزرافات من الشهداء والشهود، حتى متى انقشعت سحابة الظلم، ظهرت الكنيسة في تلك البلاد ناصعة مزهرة فاتحة يديها لاستقبال أبنائها المشتاقين.
واقع الرهبنة الأنطاكية والمرتجى
في أنطاكية اليوم أسئلة كثيرة، بحاجة إلى رؤية وتمييز ونضوج للإجابة عليها، وهاك بعض منها:
- – هل قانون الرهبنة القائم كافٍ؟ هل هو مطبَّق بدقّة أم أنّه شأن غيره من القوانين في أنطاكية؟
- – على أي أساس نفتح ديراً جديداً؟ وعلى أي أساس يتمّ اختيار الرئيس؟
- – ما علاقة الأديار بالرعايا؟ وهل يصحّ أن يصير للأديار رعاياها الخاصّة؟
- – ما علاقة الأديار ببعضها البعض؟ مَن يراقبها؟
- – مَن يحاكم الرهبان؟ وهل يُحاسَب رؤساء الأديار كأي كاهن آخر؟
- – مَن يدير المال في الأديار؟ ومَن يعطي الإذن بالبناء والشراء وغيره؟
- – فيما نستورد التقليد، أيٌّ هو الأنسب للنفس الأنطاكية، التقوى الأثوسية أو التراتبية السلافية؟ أم هل صرنا في مرحلة من النضوج تتيح لنا التصوّر أن عندنا تقليدنا؟
- – مَن يرعى الأشخاص الذين انضموا إلى الأديار وتراجعوا؟
هذه بعض الأسئلة التي لا شكّ أن هناك غيرها الكثير، والتي ينبغي أن تكون أجوبتها جاهزة وواضحة ومعلَنة.
من الواضح أنه فيما هلّل الكثيرون لوصول راهب إلى السدّة البطريركية الأنطاكية، إلا إن البعض لم يخفِ انزعاجه. لذا، يُنتَظَر أن يُصوَّب على الرهبنة تعبيراً عن الاعتراض على نهج صاحب الغبطة. من هنا، مهمٌ أن يتعاطى الكلّ بحكمة وتروٍّ وتَعالٍ مع ما يُطرَح. فالرهبنات في أنطاكية – كون الكلام عن رهبنة واحدة يفتقر إلى الدقة – فتيّةٌ فيما بالمقابل الفكر الدهري ناشط ينخر جسم هذه الكنيسة على كافة المستويات الكهنوتية والعلمانية والمؤسساتية. وبالتالي قد تُغلَق قضية لتُفتَح قضايا. وفي غياب القوانين التفصيلية والتقليد الثابت بالخبرة، الشرير جاهزٌ ليبثّ سمّه مركّزاً على قلة الخبرة لدى بعض رؤساء الأديار، مصوّراً اهتمامهم تحرّشاً أو إدارتهم سرقة أو اختلاطهم زنى أو رعايتهم تطاولاً، فيحوّل غيرة البعض إلى عدائية فيما يقتل غيرة البعض الآخر، ويشعِر الكهنة بأن هناك مَن يسابقهم ويضارب عليهم فيقوم الشقاق بينهم وبين الأديار.
لقد كان للأديار دور رئيسي في ما وصلت إليه أنطاكية. إن الله يريد لأنطاكية أن تنهض، وهو يعرف أن الرهبنة هي العمود الصلب المؤهّل لحمل هذه النهضة والمتابعة بها. لهذا، شاء الله أن يكون آخر انتخابَين في هذا الكرسي من الرهبان، ملاك طرابلس ومن ثمّ صاحب الغبطة. هذا يعني أن الله وضع الرهبنة في وسط هذه الكنيسة، أي معه. هذا يتطلّب من الجميع أن يفهم الرسالة لأن هذا الاختيار سوف تقابله حرب ضروس يستغلّ الشرير لخوضها عقول بعض أبناء الكنيسة من كافة الرتب. فهدفه ليس الرهبنة بحد ذاتها، بل الكنيسة ككل. فالوعي والتمييز والاتضاع والانفتاح وتقبّل الآخرين مطلوبون من الأساقفة أولاً ومن الرهبان ثانياً ومن المؤمنين كافةً ثالثاً.
من الأمور الفائقة الضرورة أن يتحرّك الرؤساء ليظهّروا خدمة الأديار في هذه الكنيسة بدل أن يتركوا بعض المغرورين يتطاولون على هذا وذاك من الآباء، سواء للتجريح به أو للدفاع عن غيره. إن مشاكل الكنيسة، وخاصةً المتعلّقة بالأديار منها، ليست ساحة أريوس باغوس ولا هي هايد بارك لكل واحد أن يدلي بدلوه بغض النظر عمّا يعرف أو لا يعرف أو ما له وما ليس له.
ختاماً، إن مصارعتنا ليست مع لحم ودم بل مع رؤساء هذا العالم. إن لم يتبنَّ المجاهد هذا المبدأ، لأي طغمة انتمى، يكون جهاده هباء وغيرته قبض الريح. الأكيد هو أن الرب يشاء لرهبنة أنطاكية أن تقوم في وجه رئاسات العالم وعلى الجميع احتضانها.