تأمل في أسبوع الآلام
الميتروبوليت افرام كيرياكوس
هذا الأسبوع منفصل عن الصوم الأربعيني، في الماضي كان المؤمن الموعوظ في فترة الصوم الكبير يتهيأ للمعمودية، وفي الوقت الحاضر في أسبوع الآلام، حسب التفسير اللاهوتي، يتهيأ المعمَّدون للمعمودية الثانية، أي للتوبة. فترة الصوم كانت سابقاً فترة تهيئة، هذه الفترة هي فترة جهاد، أما أسبوع الآلام فهو فترة يأخذ الجهاد أهمية ثانوية لأن الإنسان المؤمن يدخل فيه في تأملٍ واشتراك بسرّ محبة المسيح، محبة الله الفائقة، سر آلام المسيح وقيامته. والذي يشترك بالصلاة لا بد أن يلمس ذلك من خلال التراتيل والمقاطع الكتابية.
تعرفون أن الآباء يوصون المؤمنين بقراءة الأناجيل في بيوتهم في هذه الفترة، والكبار في السن عندهم هذه العادة، على الأخص المقاطع المختصة بالآلام والقيامة.
إذاً هناك هذا السر العظيم الذي نشترك نحن به، هذه الحقيقة التي تفوق الإدراك والبشرية، كيف أن الله يأتي إلى الآلام والعذاب والصلب، ويموت من أجل هذا الإنسان، هذا الخروف الضال الذي خلقه أصلاً على صورته، ويقيم هذا الإنسان من مأزق واقع فيه، الحقيقة تفوق إدراكنا. تفوق وتتخطى نظرنا، تتخطى تطلعنا. ما هو هذا السر؟ تعبّر الكنيسة عنه بعبارات مختلفة ولكن يبدو أن هناك تعابير مفضّلة مثل التعابير التي يقول فيها: “المسيح إلهنا الذي تنازل”. إن لاحظتم في الختم “تنازل لكي يتجسد من البتول… لكي يركب جحش ابن أتان… لكي يحتمل الآلام من أجل خلاصنا…”
في هذا الأسبوع نأخذ عدّة وجوه، في الكتاب المقدس تستخدم الكنيسة وجوهاً تشير إلى المسيح، مثلاً يوسف العفيف، أيوب الصدّيق. هذا التنازل هو أحد ميزات شخص يسوع المسيح، ليس فقط شخصه بل طريقه، أي الطريق التي كشفها أمامنا، وفي الوقت نفسه هذا التنازل والانسحاق “أن يرتضي… أخلى ذاته…” هو مرتبط حسب تدبير الرب بالقيامة. حكمة الله انكشفت في المسيح، وكشفت أنه لا قيامة بدون موت، بدون ألم، بدون تنازل، بدون تواضع. هذا الشيء ظهر في حياة عدّة قديسين، مثلاً في أيوب: تعرّى أيوب من عائلته وحتى من سلامة جسده، تجربته بصحته هي نوع من تعرّي الإنسان حتى من راحته في سبيل المسيح أي الله، لأن أيوب لم يتذمر وبسبب إيمانه ارتضى أن يتألم محبةً بالله. يوسف العفيف قد تخلّى عن محبة الدنيا لأنه كان في بلاط فرعون وتمسّك بعفّته، أي مثل موسى “فضّل أن يكون مظلوماً مع شعبه من أن يكون ملكاً في قصر فرعون”. يوسف تجرّب بشيء مقابل السلطة، الذي هو اللذة الجسدية وهي نوع من سلطة، وارتضى محبةً بالله أن يحرم نفسه حتى يبقى أميناً.
وهكذا السبيل الذي كشفه المسيح في موته وصلبه وقيامته، أي بواسطة التعرّي الدنيوي – أن يحرم الإنسانُ نفسَه من مغريات هذه الدنيا محبةً بالأفضل، لأنه هو يفضّل شيئاً آخر – يجب أن يتأمّل كلّ واحد منّا في آلام الرب، أن يتأمل ويقرأ كلّ المراحل التي أطاع فيها الربّ يسوع منذ دخوله إلى أورشليم حتى الصلب والقبر، كلّ حادثة وتعليم، التعاليم الأخيرة في الهيكل، كلّ يوم، الثلاثاء مثل العذارى الحكيمات والجاهلات: كلهنّ عذارى، منتظرات، ما الخطأ الذي ارتكبنه الجاهلات اللواتي حُرمن من الدخول وهنّ مكرِّساتٌ حياتهنّ للعفة، الكنيسة تقول لم يكن معهن زاد (زيت) – الزاد هو الرحمة، كلّ عملِ رحمة صغير هو ادّخار في الملكوت كالذي يشتري حصةً له في الملكوت، إذا كنا نحن فعلاً مؤمنين، فعلينا أن نتمسّك بهذه التعاليم وتبقى هي مرشدة لحياتنا، لا يستطيع أحد أن يقول أن الدنيا تمشي هكذا. في النهاية، كل إنسان يمشي نتيجة حقيقة، وأن يرضى أن شر العالم يُرتضى فيه. هل تخدمنا طريق المسيح؟ هل نحب أن نحيا هذا الخوف والقلق الذي نعيشه؟ هذا أيضاً من تساؤلاتنا خاصة هذه الأيام، حيث موقف الإنسان مُحرج، أي أنه مضطرٌ أن يكون صادقاً مع نفسه، لأنه إن أراد أن يتعلّق بمبدأ المسيح عليه أن يحرم نفسه من أشياء كثيرة، العالم يجذب بشكل كبير والإنسان بحاجة لتمسّك أكثر، إذاً أنا يجذبني المسيح وتعليمه وأنا مستعد للتضحية والسرّ الكبير الذي يبقى بذهننا هو أنّ هذه الآلام هي مرتبطة بالقيامة، أي لا قيامة أو اشتراك بالقيامة بدون عبور الآلام من خلال جسدنا وشخصنا، المسيح هو القائم بالنسبة لكنيستنا، لا نستطيع أن نرى وجه المسيح إلا بالمجد ونحن غير ممكن أن نستمر إلا في صورة القيامة.
إذا لم تعبر فينا آلام الرب، إذا لم نختبر هذا التعري كما اختبره المسيح، إذا لم نشارك، يبدو، بحسب الإنجيل، أنّه لا يمكننا الاشتراك بالقيامة، هل نرتضي أن نتألّم من أجل الرب، هل نؤمن أن هناك فرح مع المسيح حتى نكون مستعدين أن نتألم. العالم بكل الوجوه والطرق يحاول أن يُبعد الألم فيما هو يتألّم، يستخدم وسائل لكي يُبعد عنه الألم (الطب… المخدرات…) ولكن هذه الوسائل تُتعب نفسَه. هل نحن مستعدون للتألم وهل نؤمن أننا سنحصل على الفرح؟ هل اختبرنا ذلك؟ هذا هو التحدّي اليوم، هل يبقى مؤمنون في هذا العالم يسيرون بعكس التيار؟
الدعوة للإنسان المسيحي اليوم هي أن يعمل ويؤمن كما يقول الأب ليف جيليه: أن نؤمن أن هناك شيء أسمى ويتخطى الوجود الإنساني البشري، العالم الظاهر، حقيقة أسمى. يجب أن يكون الإنسان مجنوناً، والإيمان شيء من الجنون ولكنه يعطي تعويضاً فظيع الشكل، الإنسان يعيش في عزلة في وسطه ولكنه يملك تعويضاً داخلياً لا حدود له، هذا شيء من القيامة، أي الحياة، عيش أو تذوّق سابق لقيامة الرب. ونحن في وسط العالم، إذا آمنّا وارتضينا بالتواضع الأقصى <أيقونة المسيح في القبر>.
“أخلى ذاته آخذاً صورة عبد صائراً بشبه البشر طائعاً حتى الموت موت الصليب” (فيليبي6:2). هذه هي صعوبة الحياة المسيحية وحلاوتها. إذا حذفنا هذه الصورة نقلّل من قيمتها، واجبنا نحن كأولاد كنيسة أن نواجه ولا نهرب، إذا واجهنا شيئاً ما ولم نقتنع به هناك مبرر، هناك أناس لا يقتنعون بحقيقة هذا المثال، ولكن الإنسان الذي لمس شيئاً ويهرب منه ويؤجّله يخسر ويُلام لأن حياته تكون وقتاً ضائعاً. يلمس الإنسان هذا الشيء بالإيمان والحياة. الإيمان هو الثقة بالأمور المنتظرة ولكن بحياتك أنت تقترب منها.
حديث في 1241993