كيف يجب أن نرى علامات الأزمنة اليوم
القدّيس إغناطيوس بريانتشانينوف
إعداد راهبات دير مار يعقوب الفارسي المقطّع، دده – الكورة
ما هو الفرق بين علامات السيّد المسيح وعلامات ضدّ المسيح؟
يخبرنا الكتاب المقدّس أنّه قبل المجيء الثاني للسيّد المسيح ستظهر علامات في الشمس والقمر والنجوم والبحر: “وتكون علامات في الشمس والقمر والنجوم وعلى الأرض كرب للأمم حيرة من عجيج البحر وجيشانه” (لوقا 21: 25).
وبالمقابل، يقول لنا بأنّ ضدّ المسيح أو المسيح الدجّال سيصنع علامات عظيمة في الشمس والقمر والنجوم والهواء، فكيف لنا أن نميّز بين هذه العلامات، أي كيف نتحقّق صحّة العلامات التي سيقوم بها المسيح الدجّال من العلامات التي سبق وقال لنا عنها السيّد المسيح؟
إنّ علامات السيّد المسيح ستكون حقيقيّة، فيما علامات ضدّ المسيح ستكون، فقط، ظاهريّة تخدع حواسّ البشر. علامات ضدّ المسيح سيقوم بها هو نفسه أو أحد رسله، فيما العلامات في الشمس والقمر والنجوم… أي العلامات التي تعلن لنا حضور المسيح الثاني ستكون من تلقاء ذاتها من دون أيّ وسيط لإجرائها. كواكب السماء ستكون قد أكملت الهدف الذي من أجله خُلقت، والذي حدّده لها خالق الكون بأن تنير العالم: “وقال الله لتكن نيّرات في جَلَد السماء لتفصل بين النهار والليل، وتكون لآيات وأوقات وأيّام وسنين، وتكون نيّرات في جَلَد السماء لتضيء على الأرض” (تكوين 1: 14-15). مع العلم بأنّ هذه الكواكب سبق لها أن أكملت دورها: ففي ميلاد المسيح ظهر النجم الغريب الذي دلّ المجوس على مغارة الطفل الإلهيّ: “إنّا رأينا نجمه في المشرق…” (متّى 2: 2). وفي صلب السيّد المسيح أخفت الشمس أشعّتها في وضح النهار تحت ستار مظلم كي لا تعاين صلب خالقها: “ومن الساعة السادسة كانت ظلمة على الأرض كلّها إلى الساعة التاسعة” (متّى 27: 45). ولكن في المجيء الثاني ستؤدّي هذه الكواكب والأجرام هدفها بطريقة أكمل بواسطة العلامات التي ستعطيها.
إنّ الإنجيليّ متّى يخبرنا أنّه بعد الضيق الذي سيحصل من جرّاء تسلّط المسيح الدجّال سيوافي، للحال، حضور المسيح، ابن الله وكلمته، وستكون علامات حضوره كالآتي: “وعلى أثر ضيق تلك الأيّام تظلم الشمس، والقمر لا يعطي ضوءه، والكواكب تتساقط من السماء، وقوّات السماء تتزعزع، وحينئذ تظهر علامة ابن البشر في السماء” (متّى 24: 29-30).
ويشير القدّيس ثاوفيلكتس البلغاريّ إلى أنّ كواكب السماء لن تسقط، وإنّما ستبقى ثابتة إلى حين في مكانها، ولكن ستبدو في نظر الناس أنّها سقطت من الفلك السماويّ. إذ سينتشر، حينئذ، على الكون كلّه نور سماويّ مبهر يعلن للعالم قرب حضور الربّ بمجد لا يوصف، ولن يُميَّز هذا النور عن بقيّة الأجسام السماويّة، ولذلك يظنّ الأغلبيّة بأنّ الكواكب المنيرة آخذة في التساقط.
إنّ تعاليم الكنيسة، وبالأحرى تعاليم الآباء القدّيسين، لم تغفل عن ذكر العجائب والعلامات التي ستحصل في آخر الأزمنة، وهي تعاليم دقيقة صحيحة واضحة. فالكنيسة ترى أنّ العلامات الحقيقيّة تساعد المؤمن على معرفة الله، أساس الخلاص، معرفة أكثر عمقًا، فيما ستزيد العلامات الكاذبة من الضلالة، وستقود، تاليًا، إلى الهلاك، لا سيّما وأنّ العلامات التي سيجريها ضدّ المسيح ستأخذ شكل القوّة والعظمة، وسوف تجذب الناس إليه، فيعترفون به ويقبلونه كإله بينما هو في الحقيقة مرسَل من الشيطان لتضليل المؤمنين.
إنّ العلامات الحقيقيّة تكون، عادة، مصدر تعزية وتشجيع في الدرب الروحيّ، ومساعدة قويّة للخلاص. إنّ هذه العلامات تكون بسيطة، وتقودنا إلى معرفة الله المتجسّد بسهولة بما أنّها تشهد لصلاحه وتواضعه، وتقوّي إيماننا بأنّه هو الكلمة، الله.
لكي يسترجع الله الآب الصلة المقطوعة مع الإنسان الساقط، سرّ أن يتّخذ كلمتُه الجسدَ البشريّ، وأن يظهر بين الناس، وأن يخالطهم، وأن يوطّد علاقته بهم لتغدو علاقة حميمة متينة، وأخيرًا أن يصعدهم معه إلى السماء. ولكن، ولو أنّ كلمة الآب لبس الجسد البشري، إلاّ أنّه يبقى كلمة الله، ويعمل ككلمة الله بحسب ما تقتضيه طبيعته الإلهيّة وعظمته. لقد جلس عن يمين الآب بطبيعته البشريّة الذي سبق له أن اتّخذها من البتول مريم، ومع ذلك فهو حاضر في كلّ مكان بما أنّه الله، حتّى في الذهن والقلب والجسد، ويتحدهم معه بالروح القدس ويؤلّههم.
ولذلك، فإنّ عجائب المسيح تساعدنا على اكتساب معرفة عظمة ابن الله، فكلمة الله هو الواحد الأحد الذي ندين له بأجمعنا، ونحتاج إليه كلّنا: “وإنّما الحاجة إلى واحد” (لوقا 10: 42). إنّ كلمة الله جاء ليتمّم الخلاص للجنس البشريّ، ومعرفته تدلّ عليها أعماله، هذه المعرفة التي تعطي الإنسان المسيحيّ نقاوة القلب، وتشعّ في حياته الروحيّة كما تتلألأ الشمس في كبد السماء الخالية من الغيوم.
إنّ شروق الشمس بعد ظلمة الليل الداجي تجعل رؤية الأشياء تختلف وتتغيّر، فبعض الأشياء التي كانت غير مرئيّة تصبح مرئيّة، والتي كانت مرئية ولكنّها مختلطة تبدو بظهور الشمس متمايزة ومنفصلة. وهذا لا يحصل لأنّ الأشياء تتغيّر، فهي ثابتة لا تتغيّر، بل نظرتنا إليها هي التي تتغيّر، والسبب في ذلك انتقالنا من الظلام إلى النور. وهذا ما يحصل، تمامًا، في علاقة ذهننا مع الأمور الروحيّة، فعندما ينار الذهن بنور المعرفة الإلهيّة التي يسبغها علينا الروح القدس، يستطيع، عندئذ، أن يكمل مسيرته غير المنظورة نحو الله. فقط بنور المعرفة الروحيّة نستطيع الهرب من الضلال، وتاليًا من الهلاك. فإنْ فُقد هذا النور، فُقدَت معه الحقيقة وكلّ فضيلة تروق في عينَي الله، ويصبح الخلاص لجنس البشر عسيرًا، لكون هذا النور هو الذي يُدخل الإنسان إلى المظالّ الفردوسيّة. وعندما ينير هذا النور بصر الإنسان الروحيّ، عندها يستطيع أن يعي بأجلى بيان حقيقة العجائب والعلامات، وعندها يستطيع أن ينجو من المظاهر التي تجرفه وتغويه لكونه أدركها بمفهوم بشريّ بحت.
ولا بدّ لنا أن نشير إلى أنّ لعجائب الإله المتأنّس دورًا في خلاص البشر، فهي تهيّئ النفوس لقبوله والإيمان به هو الذي سبق أن قال لنا: “ها أنا معكم إلى منتهى الدهر” (متّى 28: 20).
من هم الذين يطلبون العجائب؟
من المعلوم أنّ العجائب والآيات رافقت في القديم كرازة الرسل أو مع معادليهم واقترنت بها. ثمّ بقيت العجائب تحدث بواسطة أشخاص صاروا، بجهادهم وبنعمة الله، أواني مختارة للروح القدس. ولكن، لا بدّ أن نشير إلى أنّه مع مرور الوقت فسدت الأجيال، تدريجيًّا، فسادًا مريعًا، وندر وجود أشخاص متوشّحين بالله، حتّى وصلنا إلى وقت غاب وجودهم كلّيًّا أو كاد. وهكذا خسر الناس، بفقدهم، روح التّقى واحترام كلّ ما هو مقدّس، وأضاعوا التواضع الذي يجعل الإنسان يرى نفسه غير مستحقّ لاجتراح العجائب فقط، بل ولأن يراها أيضًا، فصار عَطِشًا إليها أكثر من أيّ وقت مضى. الناس، اليوم سكارى بحبّ الأنا والاعتماد على الذات والذراع البشريّة وعبيد للجهل والهوى، يجرفهم طيش لا يُقهر ولا يُغلَب لكلّ ما هو غريب وجديد لا سيّا العلامات والعجائب، وهنا يكمن الخطر الجسيم في دكّ أسس الحياة الروحيّة الصحيحة وإمكانيّة الخلاص.
* عن اليونانيّة من كتاب العلامات والعجائب.