صيّادو الناس
مرقص 1: 16 – 22
للأرشمندريت توما (بيطار)
باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.
“هلمّ ورائي فأجعلكما صيّادَي الناس”.
الربّ يسوع هو الذي يختار، ومتى اختارَ فاختياره نافِذٌ لا محالة. لماذا؟ لأنّ الكلمة التي تخرج من فمه تخرج بسلطان. والحقيقة أنّ كلمة الله مزروعة فينا منذ البدء. الإنسان الأول لمّا خلَقَه الله جعل فيه نَفَساً منه. لهذا الله حاضرٌ في حياة كلّ واحد منّا بطريقة سرّية لا ندركها. نَفَسُه فينا وكلمته فينا. نحن خِلقتُه وإليه وجهتنا وفيه وحده نستريح. إذا كان آدم أوّلَ ما عايَنَ حوّاء عرَفَها لأنّها منه، فكيف لا تعرف الخليقةُ خالقَها حين يتراءى لها ويكلّمها. سلطان الله على الإنسان إنّما هو بفعل كون الإنسان، برمّته، مركّباً صوب الله. بهذا المعنى، الخراف تعرف راعيَها والخليقة تعرف خالقَها. صحيح أنّ الخطيئة عبَثَتْ بكيان الإنسان، لكنّ كيان الإنسان لم يُفْسَد بالكامل. لا زال في طاقته أن يلتمس الحقّ، أو أقلُّه أن يتبيَّن الحقّ متى عايَنَه في مقابل الباطل الذي سكَنَ فيه وعشَّش في خلاياه. بلى، لا زلنا قادرين، إذا صَدَقْنا وإذا رغِبْنا، على أن نميّز الحقّ من الباطل. ناموس الطبيعة فينا اختلّ لكنّه لم يَفْسُد بالكامل، فكيف إذا نشأ الناس في مناخ الشريعة وتشرَّبوا حضرة الله في كنفها. ليسوع، إذاً، سلطان لأنّه هو إيّاه مَن تشتاق إليه النفس من حيث تدري ولا تدري. ابن الله مزروع فينا، بالصورة التي خَلَقَنا عليها. وها هو مقبل ويَدعو لأنّه يشاء أن يجعل مدعوِّيه صيّادين للناس.
الإنسان، في الحقيقة، في العالم، معتاد اصطياد الناس للشرّ، وقلَّما تروَّض على اصطياد الناس للخير. لماذا؟ لأنّ قلبه مال إلى الفساد منذ حداثته. نيَّتُه، فكره، مَيْله العميق باتَ إلى نفسه بالرغم من كونه لا يزال قادراً على تبيُّن الخير من الشرّ والنور من الظلمة. وإذ شاء الربّ يسوع أن يجعل من مدعوِّيه صيّادين للناس، شاء أن يجعل روحَه فيهم حتى متى انطلقوا إلى الكرازة بكلمة الله، حملوا في أنفسهم حضرة يسوع وسلطان يسوع. إذ ذاك يصير بإمكانهم عملياً أن يجتذبوا الناس المهيَّئين لأن يُجتَذبوا إلى يسوع وإلى كلمة يسوع. فإن ما في هذه الكلمة وما في هذه الحضرة هو، في العمق، من طبيعة الشوق لدى الناس إلى الحقّ، إلى الله، إلى الراعي، إلى مُبْدع نفوسنا.
لنفهم، يا إخوة، أنّ يسوع، في المبدأ، في ذاته، ليس بحاجة لأن يشهد له أحد من الناس. تكفيه شهادة الآب السماوي وشهادتُه هو لنفسه لأنّه يعرف، تماماً، مَن هو ومن أين أتى وإلى أين يمضي. لكنْ شاء الربّ الإله أن يشهد له الناس من أجل خلاصهم هم، من أجل أن يساهموا في عمل الله. هو يقيم فيهم بكلمته. هو يقيم فيهم بسلطانه. هو يقيم فيهم بروحه، وهم ينطلقون ليجتذبوا بعضهم بعضاً كشركاء في خلاص بعضهم البعض. صحيحٌ، في المبدأ، أن الربّ يسوع هو المخلِّص ولا مخلِّص سواه وأنه الوسيط الوحيد، ولكنْ هو شاء أن نكون نحن له إيقونات ورموزاً للخلاص. هو لا يفعل ولم يشأ أن يفعل من دوننا. هو يفعل فينا ومن خلالنا. هناك مبدأ شاءه الربّ الإله أن يكون راسخاً بين الناس، وهو أنّ الإنسان بالإنسان يَخلُص. والربّ شاء ذلك لأنّ قِوام البشريّة الحبّ. والحبّ يعني المشاركة والتعاون. الحبّ يعني أن يحمل الناس أثقال بعضهم البعض، أن يُعين الناس بعضهم البعض، أن يأخذ الناس بعضهم البعض كلاً على عاتقه. هذا مبدأ شاءه الربّ الإله أن يكون راسخاً فيما بيننا. وهو، تالياً، يعمل على أساس هذا المبدأ ومن خلال هذا المبدأ بحيث إنّ الرسل، وتالياً المؤمنين، متى خرجوا ليصطادوا الناس، يصطادونهم بما اصْطيدوا هم به، بالسيّد نفسه. نحن نصطاد الناس بكلمة الله، بقوّة الله، بحضور الله. أو، بكلام آخر، هو الذي يصطادهم فينا ومن خلالنا وبالتعاون معنا وفي شركة معنا. نحن في ذواتنا لا نستطيع شيئاً على الإطلاق، لكن الربّ الإله شاء أن يجعل نفسه في موقِع مَن يحتاج إلينا وإلى تعاوننا. هو شاء ذلك. هو رتَّب ذلك لكي يتحابّ الناس، لكي تكون شركة بين الناس، لكي يكتمل قصد الله في خلقه للناس، أن يكونوا محبّة كما الله محبّة، وأن تكون شركتهم، في ما بينهم، شركة محبّة كما شركة الثالوث القدّوس شركة محبّة أيضاً. إذا ما فَهِمْنا هذا الأمر إذ ذاك نكون على بيِّنة من جهة كيفية تعاطي الله مع الإنسان ومن جهة جَعْله المؤمنين شركاء له في عمل الخلاص كما الجسد شريكٌ للرأس في كل ما يأتيه من أعمال. بهذا المعنى، إذاً، استودع الربّ يسوع نفسَه رسلَه، فصاروا في موقع مَن له سلطان. جعل الربّ يسوع الحلَّ والرَّبْط بين أيديهم. كل ما تحلّونه على الأرض يكون محلولاً في السماء وكل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء. غير أنّ هذا السلطان لا يتفعَّل للإنسان إذا ما رغِب في أن يستعمله بمعزل عن قصد الله، بمعزل عن كلمة الله، بمعزل عن حضرة الله. والربّ علاّم بمقاصد القلوب، فقط بالتبنّي الكامل لكلمة الله، بالإمّحاء الكامل بإزاء حضرة الله، يصير الرسل صيّادين للناس، وكأنّ يسوع يصطاد الناس في كلّ منهم ومن خلالهم. هذا معنى أن نكون جميعاً إيقونات حيّة ليسوع. مَن هو القدّيس عندنا؟ القدّيس عندنا هو يسوع مقيماً في فلان أو في فلان بالروح القدس. هذا هو القدّيس. لماذا نوقِّر رفات الشهداء؟ نحن لا نوقِّر رفات الشهداء ورفات القدّيسين بعامة لأنهم أتقياء وحسب، بل بالحريّ لأنهم هياكل لروح الربّ. نحن نوقِّر روح الرب الذي فيهم. وروح الربّ الذي فيهم اتَّحَد بهم، سكن فيهم، صار وإيّاهم واحداً من دون خلط أو تشويش. لذلك إذ نوقّر القدّيسين، إذ نكْرِمهم، إنّما نُكْرم روح الربّ فيهم، نكرم الربّ يسوع في الروح القدس فيهم، في كل خليّة من خلاياهم، في كلّ ما له علاقة بهم. بهذا المعنى، في الحقيقة، في تعاطينا وكلّ قدّيس، نحن نتعاطى الربّ يسوع في الإيقونة الحيّة لفلان أو فلان. وتعاطينا مع أيّ من القدّيسين لا يختلف في مرماه الأخير عن تعاطينا مع سواه. لهذا لا غيرةَ بين قدّيس وقدّيس، لأننا نتشوّف، في كلّ حال، إلى مَن هو مقيم فيهم. الربّ يسوع يفعل فينا من خلال جسده، من خلال قدّيسيه. وآباؤنا تعلّموا بالخبرة أن يتعاطوا الأمور في هذا المستوى. لماذا يوقِّرون والدة الإله مثلاً؟ لماذا هذا الإكرام الكبير لوالدة الإله؟ لماذا هذا التوقير المميَّز للقدّيسين؟ ليس لأننا بحاجة إلى وسيط يتوسّط بيننا وبين يسوع. كلا أبداً. هذا الكلام غير صحيح وغير مقبول. بل لأن الرب يسوع شاء أن يعمل في والدة الإله وفي هؤلاء القدّيسين لخلاصنا. هل يعني هذا أن لا تكون لنا علاقة مباشِرة بالربّ يسوع؟ كلا أبداً. نحن، في كلّ الأحوال، في علاقة مباشِرة مع الرب يسوع تحت علامة قدّيسيه. هذا إذا كنّا لا نلتفت، في والدة الإله والقدّيسين، إلى ما هو من اللحم والدّم والعواطف البشريّة، بل إلى الروح الذي فيهم، وتالياً إلى يسوع أوّلاً وأخيراً. تعاطينا مع القدّيسين، في الحقيقة، هو تعاطٍ مباشِر في الربّ يسوع. أمّا أن يجد الإنسان نفسه مستغْنِياً، في وقت من الأوقات، عن القدّيسين وعن والدة الإله وأن يقيم صلةً مباشِرة مع الربّ يسوع بمعزل عن جسده، ففي هذا، لا شكّ، إلغاء للسِّياق الذي جعل الربّ يسوع نفسَه فيه وشاءنا نحن أن نعرفه فيه ومن خلاله.
نعرف الربّ يسوع مباشرة في والدة الإله وفي القدّيسين. لماذا يرغب قومٌ في معرفة يسوع من دون والدة الإله ومن دون القدّيسين؟ إذا كانوا هم قد صاروا واحداً والربّ يسوع، فكيف يمكننا نحن أن نكون واحداً والربّ يسوع من دونهم؟ هذا إلغاء لجسد يسوع وهذا مستحيل!
إذاً، لا بدّ أن تكون الأمور واضحة في الأذهان. نحن لا علاقة لنا إطلاقاً بأيّ من القدّيسين ولا بوالدة الإله على نحو علاقة اللحم والدّم والعواطف والمشاعر البشريّة بين الناس. كلا، علاقتنا بوالدة الإله وبالقدّيسين ليست كذلك أبداً. علاقتنا بهم هي علاقةٌ في الروح القدس الواحد. لهذا، نحن إذ نتّجه إلى والدة الإله بخاصّة، إنّما نتّجه إليها لأنّ الربّ الإله جعلها في مَقام فذّ فريد بيننا، بعلاقته هو بها أوّلاً. نحن نتعاطى معها باعتبار هذه المكانة، لأنها مكانة مهمّة وخلاصية. كذلك الأمر بالنسبة للقدّيسين. كلّ واحد منهم عنده من روح الربّ ومن حضرة الربّ يسوع ما يبثُّه إيّانا بشكل خاص مميَّز. لكل واحد من القدّيسين وجه. لكل واحد من القدّيسين مقام خاص مميَّز. والربّ يسوع المسيح يعطي ذاته لنا من خلال هذا المقام. هناك تنوُّع كبير في إعطاء الربّ يسوع نفسه لنا طالما ليس هناك وجهان بين القدّيسين متماثلَين تماماً. لكل واحد منهم وجهه الخاص. والربّ يسوع المسيح يعطي نفسَه لأحبّائه من خلال هذه الوجوه الخاصة ولا يلغيها. هذه وجوه خاصة تألّهت وتدعو كل وجه إلى التألّه لبناء المؤمنين.
إذاً، يا إخوة، صيّادو الناس كلّ يصطاد الناس بيسوع المسيح بطريقة خاصة مميّزة. وفي هذا إغناء كبير. في هذا انعكاس لوجه الثالوث، لوجه المحبّة الإلهية التي تأتينا أبداً بألف ألف شكل ولون.
الربّ الإله يحبّنا، كما نحتاج نحن لأن نُحَبّ. وعندنا من الباقات الإلهية ما لا يُعَدّ ولا يحصى من الأزاهير، ما يناسبنا، ما يوافقنا، ما نحن بحاجة إليه حتى ندخل، من خلال هذا أو ذاك من قدّيسي الله، في شبكة يسوع الذي يضمّنا إلى مخازنه أسماكاً جديدة ويملؤنا من حضوره ويفعمنا من روحه القدّوس، جاعلاً إيّانا إيقونات لمجده، كلاً منّا بحسب خاصّيته. هكذا يتعظّم الله بيننا وبهذا يتجلّى مجدُه أمجاداً لا تعرف حدّاً.
فمَن له أذنان للسمع فليسمع.
v v v v v