عبودية الفساد وداء الإرادة المخدوعة
عبود برسيخ
لا نحتاج لتأملٍ كثيرٍ حتى ندرك أن كل مافي عالمنا (الماديّ) عرضة للفساد سواء كان هذا الفساد سريعاً أو بطيئاً، كما أننا لا نحتاج لحوارٍ أو نقاشٍ كثيرٍ لنعلم أن إنساننا الذي لا يدرك إلا حدودَه وذاتَه البيولوجية عُرضةٌ أيضاً لذلك الفساد سواء كان مادياً أو فكرياً… وبالتالي الفساد اليوم (وخاصةً الأخلاقي منه) يستعبد إنسان هذه الأيام ويهدّد تلك الحرية التي ترافقت وخلقَه لا بل يدمر الإرادة الذاتية لهذا التي تميزه تلك الإرادة بأنه على صورة الله ومثاله…
إنّ العقل البشري منذ الطفولة يتّبع منهج التصنيف في تعامله مع محيطه، فالطفل بمساعدة والديه يسعى إلى تصنيف الماديّات التي تدركها حواسه الفتيّة إلى مجموعات وفرقٍ بناءً على إرادته وطبقاً لما تورثه إياه العادات الاجتماعية.. وكلما ارتفع الإنسان في السّلم العمريّة كلما اتسعت دائرة التصنيف هذه لتشمل المشاعر والأحاسيس والأفكار المجرّدة.
في مسيرة البشر الفكرية ظهرت مذاهب فلسفية كثيرة كالمانويّة والغنوصيّة وما إليها، وعبّرت عن ثنائية (الخير – الشر) وجعلت منها تصنيفاً رئيساً (في ذهنها) لكل جوانب الحياة حتى الروحيّة منها… ولكن مسيحياً نرفض مثل هذه المذاهب رفضاً تاماً : ذلك أن الشر ليس “شيئاً” أي أنه ليس كياناً موجوداً جوهرياً إنما هو غياب الخير، كما أن الظلام ليس شيئاً إلا غياب النور…
الله (الخير) أزلي ّ في وجوده بعكس الشرّ، نحن من يصنع الشر، نرتكبه، فيكون هو وفق رغباتنا وإرادتنا الحرّة… عندما خلق الله الكون وجد كل شيء ” أنه حسنٌ ” أي لم يكن هناك شرّ ولم تكن هناك خطيئة…
إذاً الشر ينتقل إلى حيّز الوجود فقط بإرادتنا وبها يستمر، وبالتالي لا تجوز نظرتنا إلى الشر على أنه جزء من هذا الكون، من هذا العالم… نعم إنه موجود لكن ليس منذ الأزل، كما أن وجوده ليس حتمياً بل شرطياً مرتبطاً بإرادتنا.
والسؤال الذي يطرح نفسه : إذا كنا نؤمن بكل ما ذُكر سابقاً وندرك أن طبيعة الخير أقوى بما لا يقاس من عادة الشر الذي لا يوجد إلا في اللحظة التي يصنع فيها، فكيف نفسّر إذاً الانتشار المفجع للشر والخطيئة في عالمنا بما يحقق تشويشاً شديداً على العقول والنفوس ويجعلها تتأرجح بين التصديق والتعاطف والرفض في حركة شبه هذيانية لا تعرف مستقرّاً عند كثيرين ؟؟
الجواب على هذا السؤال بسيط ٌ جداً إنه “داء الإرادة المخدوعة “…وهو مرض العصر بلا منازع… الشر محيط بي، هذا صحيح، يلاحقني في كل مكان ونحن من يصنعه، وهذا أيضاً صحيح، وبالتالي إما أن أرفضه أو أن أتعاطف معه او أن أقبله قبولاً صريحاً… ولكنني أُفاجأ بأن إرادتي لا تقوى على رفضه.. لماذا ؟؟؟ لأنها أُصيبت بهذا الداء الحديث القديم في آنٍ معاً…
بناءً على هذا، الخطيئة ما هي إلا انجذاب الإرادة تجاه عدمية الله وكراهية النعمة الإلهية… وهذا مايشير إليه أوغسطين بقوله ” الخطيئة عدم”.
هذه الـ ” عدمية ” وتلك الـ ” كراهية ” نلمسهما كثيراً في عالمنا… من هو الله بالنسبة للكثيرين من إخوتنا وأبنائنا ؟؟ إنه (بالنسبة لهم) لا شيء، أو مجرد أيقونة في بيتهم أو واجبات وبروتوكولات بقيت هي وزال جوهرها.. إنه (الله) آخِر ما يفكر به إنساننا ” العصري” أو ” إنسان القرن الحادي والعشرين “…
هذا من جهة، ولكن من الجهة المقابلة، نتحدث كثيراً عن البساطة ولكننا لا نعيشها كما عاشها آباءٌ قديسون عرفنا سيَرهم وأمجادهم الروحية، نعتقد أننا نسعى إليها لكننا نعيش في الـ “لامبالة قاتلة” ونعتبرها بساطة… إذا كان الشر (وقد انطبقت عليه كل الأوصاف التي ذكرناها) موجوداً، وبكثرة، فوجوده مسؤوليتنا كما أن إلغاءه مسؤوليتنا أيضاً… لا تحتاج الأمور إلى لامبالةٍ وبرودٍ وفتور.
للآباء القديسين كلمتهم، غريغوريوس اللاهوتي يقول ” لا شيء يمكنه أن يعادل معجزة خلاصي.. لأن بضع قطرات من الدم أعادت خلق العالم بأسره “، لقد وطئ المسيح الموت بالموت وسحق رأس الأفعى ليقول لنا أننا مثلَه إذا كنا مسيحيين (بالمعنى الحقيقي) ندوس الشر ونقهره بعد أن تُشفى إرادتنا المريضة من خلال ولادتنا تلك الولادة الجديدة التي بها يصبح الإنسان جديداً يتجاوز الزمان والمكان، فتصير الزمنيات لاستعماله والأبديات موضوع اشتياقه، هو موجود في هذا العالم لكنه ليس من هذا العالم… هو من المسيح وإليه يعود ويؤول.
فهل ندرك معنى هذا الكلام ؟… يا ليتنا فعلاً “ندرك ونعي ونفهم”.