لا مساومة على الحقّ!
الأرشمندريت توما بيطار
باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.
يا إخوة، في هذا الإنجيل المبارَك ثلاث أفكار أساسية تتكامل. الفكرة الأولى تتمثّل في وصيّة الربّ يسوع لتلاميذه: بهذا أوصيكم أن يحبّ بعضكم بعضاً. إذاً، هذا هو الأساس، هذا ما يطالبنا به الربّ يسوع أولاً وقبل كل شيء، أن يحبّ بعضنا بعضاً. ما لم تكن هناك محبّة بين الذين يؤمنون بالربّ يسوع، فكل شيء بعد ذلك يفشل. هذا هو الأساس. لذلك، علينا أن نجتهد لكي تكون محبّتنا لبعضنا البعض خالصة نقيّة صافية. وهذا معناه أن نجعل كل شيء مشترَكاً بيننا، كما كان حال التلاميذ في الفترة الأولى بعد صعود الربّ يسوع. كان كل شيء بينهم مشترَكاً. حين تكون لدينا هذه الغيرة على الإخوة وهذا الإحتضان لهم، حين تكون لنا هذه الشركة معهم، إذ ذاك، نُثبت بالفعل أنّنا للمسيح. من دون هذه الشركة، كلامنا عن كوننا أعضاء في جسم المسيح يكون كلاماً في الهواء ولا يكون كلاماً في الحقّ.
إذاً، بهذا أُوصيكم أن يحبّ بعضكم بعضاً. هذا هو جهدنا الأول والأساسي، هذا هو تعبنا قبل كل شيء، هذه هي الفكرة الأولى.
الفكرة الثانية لها علاقة بتعاملنا مع العالم، بنظرة العالم إلينا. في العالم لا بدّ أن يكون لنا اضطراب. العالم يبغضكم، ولكن لا تخافوا لأنّه قد أبغضني قبلكم. هنا لا بدّ من توضيح الصورة بشأن ما هو العالم. في الحقيقة، لهذه اللفظة ثلاثة معانٍ. المعنى الأول عالم الله، وهذا العالم، أي الملكوت، نكون نحن له، إذا أحبّ بعضنا بعضاً، إنعكاساً على الأرض. والعالم الثاني هو العالم الذي خلَقَه الله، الحجارة، الأشجار، العصافير، الإنسان. كل ما خلَقَه الله ينتمي إلى هذا العالم. والعالم الثالث هو عالم الخطيئة والعالم المعادي لله، العالم الذي رئيسه الشيطان. هذا هو العالم الذي نقرأ في شأنه هنا وهناك “لا تحبّوا العالم ولا الأشياء التي في العالم”. “محبّة العالم عداوة لله”. “أنتم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم”.
والحقيقة، يا إخوة، أنّ العالم الثاني، أي العالم الذي خلَقَه الله، والعالم الثالث أي عالم الخطيئة، متداخلان لدرجة أنّه يستحيل على الإنسان، إن لم يكن مستنيراً بنور الله، أن يميِّز، في أحوال كثيرة، ما هو من خليقة الله وما هو من ابتداع الشيطان أي من عالم الخطيئة. وطبعاً، إذا كان هذا هو الحال في عالمنا، إذا كان حال العالم هو هذا التداخل بين خليقة الله وابتداع الشيطان، فهذا لأنّ قلب الإنسان يتداخل فيه ما هو من الله وما هو من الخطيئة. لأنّ قلوبنا ليست نقيّة، لهذا السبب موقفنا من الخطيئة في العالم يكون موقفاً ملتبساً في الكثير من الأحيان، بحيث نَنسُب ما هو من الخطيئة إلى الله، وما هو لله للخطيئة. هذا لأنّ العين الداخلية التي فينا، عين القلب، ليست نقيّة. العين الخارجية حين يَعتوِرنا الغبش لا يمكنها أن تميِّز بسهولة بين الأشياء. هكذا القلب حين يكون في غباشة يصعب عليه أن يميِّز بين ما هو لعالم لله وما هو لعالم الخطيئة. لهذا السبب، كل إنسان، لكي يقتني فضيلة التمييز، عليه أن يعمل على تنقية قلبه، ولهذا السبب أُعطيت لنا الوصيّة. الوصيّة هي أداة التنقية بامتياز، نسلك فيها فتفعل فينا نعمة الله، نستنير. وإذ نستنير يصبح بإمكاننا أن نخرج من غباشة قلوبنا ويصبح بإمكاننا أن نبصر، أن نميِّز ما هو لله مما هو لعدوِّه، ما هو من البِرّ مما هو من الخطيئة.
إذاً، تنقية القلب هي العمل الأساسي للإنسان المؤمن. وإذا كانت الوصيّة أن يحبّ بعضكم بعضاً، فلأنّ هذه الوصيّة لا يمكن إلاّ أن تكون ثمرة تنقية القلب. إذا لم يعمل الإنسان على تنقية قلبه من كل الشوائب، إذا لم يكن سالكاً بأمانة في الوصايا الإلهية، يستحيل أن يحب بعضنا بعضاً. لهذا السبب، أول الطريق، يا إخوة، حفظ الوصيّة. عملنا كل يوم هو أن نحفظ الوصيّة، أن نكون أمناء لها، أن نكون مستعدّين، في كل حين، لأن نضحّي بكل غالٍ ورخيص حفظاً للوصايا الإلهية. إذا كانت الوصيّة أن لا نكذب، فعلينا أن نكون مستعدّين للتضحية بكرامتنا وسمعتنا لكي لا نكذب. إذا كانت الوصيّة أن صلّوا في كل حين، صلّوا ولا تملُّوا، فيجب أن نكون مستعدّين في كل حين لغصب نفوسنا حتى نحفظ الصلاة. مهما كانت الصلاة صعبة أحياناً ومتعِبة أحياناً، علينا أن نحفظها. على المؤمن بالربّ يسوع أن يجعل نصب عينيه هذه المعادلة: إمّا حفظ الوصيّة وإمّا الموت. عليه أن يعمل على حفظ الوصيّة حتى الموت. إذا كانت الوصيّة تقول بالصيام أو تقول بالمغفرة أو تقول بالصبر أو تقول بالاتضاع أو تقول بالثبات أو تقول بالكَرَم والسخاء، فعلينا، في كلّ منها، أن نجتهد، على الدوام، لكي نتمِّمها. هذا وحده هو عمل الإنسان المؤمن الذي يبتغي عالمَ الله، ملكوت السماوات. ليس هناك شيء آخر في الدنيا أكثر أهمية من حفظ الوصايا. ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه. والإنسان متى سلك في الوصيّة بأمانة سوف يكون في التعب، ولكنّه في داخل نفسه سوف يكون في الراحة، لأنّ روح الربّ يُسَرّ بأن يستقرّ فيه وأن يعمل فيه. القاعدة هي أنّنا كلّما تعبنا من أجل الملكوت كلّما أوْلَد التعب راحةً في النفس. كلّما سلكنا في الحزن، بحسب هذا الدهر، كلّما وجدنا أنفسنا ننعُم بالفرح بحسب الدهر الآتي. علينا أن نلتزم الموت من جهة هذا العالم، في كل حين، لكي تُعطى لنا الحياة من جهة ملكوت السماوات في كل حين أيضاً. كلّما سلك الإنسان في حفظ الوصيّة كلّما صفَتْ نفسه، أي صارت صافية، وصفَتْ رؤيتُه، وصار بإمكانه أن يعاين الأمور في نفسه وفي العالم من حوله بوضوح. التمييز يأتي من حفظ الوصيّة. آباؤنا قالوا: التمييز يأتي من التواضع، ولكنّ الإنسان إن لم يحفظ الوصيّة لا يمكنه أن يصل إلى التواضع، لأنّ الوصايا كلّها تصبّ صبّاً في التواضع. السلوك في الوصيّة فيه دائماً موقف تواضع، وإلاّ يستحيل على الإنسان أن يكون سلوكه في الوصيّة الإلهية قويماً. معاناتنا في العالم ليست أبداً في كون العالم يهاجمنا من الخارج، بل العالم، عالم الخطيئة، نجده متربِّعاً حيث لا ينبغي، أي في الكنيسة، في نفوس الناس المؤمنين بالذات، أو المعتبَرين مؤمنين. انظروا إلى كل ممارساتنا الليتورجية، انظروا إلى كل المواقف التي يقفها المحسوبون على الإيمان. هناك خلْط رهيب، في ما يقولون وفي ما يفعلون، بين ما هو لله وما هو لهذا الدهر وما هو لعالم الخطيئة. يقولون: علينا أن نعمِّد العالم. هذا مستحيل، الخطيئة لا تُعمَّد. لذلك عالم الخطيئة يُرذَل. نميِّز الخطيئة ونلفظها خارجاً. لا نحاول أن نعمِّد الأشكال التي تتمثّل فيها الخطيئة في العالم. الزنى مثلاً يأتينا بألف لون وشكل. تصرّفات الناس، الألبسة التي يعتمدها الناس، طريقة سلوك الناس، كلّها تحمل آثار روح الزنى. كيف يمكننا أن نعمِّد ما يلبسون والطريقة التي يتصرّفون بها. الخطيئة هي برسم الرذل، برسم القطع. الشيطان هو أمير هذا العالم. مَن يقتبل الخطيئة يؤمِّر الشيطان على نفسه. ومَن يؤمِّر الشيطان على نفسه لا يمكنه أن يكون أميناً لله. لأنّ القائل قال:لا يمكن الإنسان أن يعبد ربَّين، مَن ليس معي بالكامل فهو عليّ، مَن لا يجمع معي بالكامل فهو يفرِّق.
لذلك، يا إخوة، نحن بإزاء العالم، وهذه هي الفكرة الثالثة، نحن في موقع الشهود فقط ولسنا في موقع مَن يريد أن يغيِّر العالم. يسوع جاء شاهِداً للآب السماوي ولم يغيِّر العالم، بل العالم صلَبَه. الروح القدس هو الآن في العالم، وهو هنا للشهادة يبكِّت العالم على خطيئة، وأنتم أيضاً تشهدون. نحن المؤمنين نشهد ليسوع، والشهادة دائماً استشهاد. الإنسان الذي يريد أن يكون شاهِداً حقيقياً ليسوع لا بدّ له من أن يلاقي المصير نفسه الذي لاقاه سيِّده. “إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم أنتم أيضاً. وسيفعلون بكم هذا كلّه من أجل اسمي لأنّهم لم يعرفوا الذي أرسلني”. لا يعرفون الله، ولهذا لا بدّ لنا من أن نتوقّع منهم الاضطهاد. وقمّة الضلال في العالم أنّ الذين يضطهدون السيّد وتلاميذه وكل الذين يسلكون في الوصيّة بأمانة، يضطهدونكم على أساس أنّهم بذلك يقدِّمون عبادة لله. خباثة الشيطان تذهب إلى هذا الحدّ. يجعل في أذهاننا مكراً قتّالاً أنّنا إن التزمنا روح العالم فإنّما يكون ذلك من أجل الله. الشيطان في زعمه، وزبانية الشيطان في زعمهم، يقتلون الله باسم الله ويقتلون عبيد الله باسم الله. فلا نتوقّعنّ، إذاً، في هذا العالم، عالم الخطيئة، إلاّ الاضطهاد. الاضطهاد في هذا العالم سيكون هو العلامة الفارقة أنّنا للمسيح. وبالعكس، ويل لنا إذا قال فينا جميع الناس حسناً. إذا كنّا نحن، في عالم الخطيئة، محبوبين ومقبولين، فهذا يدلّ دلالة صريحة على أنّنا قد خنّا الوصيّة الإلهية. العالم يكره الله ويكره الحقّ ويكره النور ويكره كلّ مَن يلتزم كلمة الله. لذلك إذا قال فينا حسناً فلكي يستدرجنا لأن نقول قوله ولأن نسايره ولأن ندخل في مساومة معه. لهذا، كل الأحاديث التي تُطلق ابتغاء ما يسمّونه “العيش المشترَك” وابتغاء إرضاء الناس وغضّ النظر عمّا تفعله الخطيئة في هذا الدهر، كل هذا إذا كنّا لنلتزمه، فلا شكّ أنّ هذا سيكون ابتغاء مَرضاة الناس والشيطان. وهذا لا يمكن إلاّ أن يكون على حساب وصيّة الله والأمانة لله ومحبّة يسوع. مَن يحبّون يسوع ينبغي عليهم أن يعرفوا، من أول الطريق، أنّهم برسم الاضطهاد، أنّهم مَرذولون، مرفوضون. حتى في الكنيسة، حين نقول كلمة الحقّ بوضوح وبصراحة، يُقال عنّا إنّنا أصوليّون ومتصلِّبون ولا حوارِيّون. الضغوط تتزايد على كل إنسان مؤمن خارج البيت، أي خارج الكنيسة، وفي البيت أيضاً أي داخل الكنيسة، لكي يكون مستعداً لأن يدخل في مساومة مع روح الباطل وروح الخطيئة. هذا يُعتبَر حكمةً في هذا الدهر. ولكنْ حكمة الله جهَّلت حكمة هذا العالم. مَن يحبّون الله بالروح والحقّ عليهم أن يتروَّضوا، أولاً وأخيراً، على محبّة الحقّ، على محبّة الوصيّة، على عدم المساومة في حفظ الوصيّة. ومتى فعلوا ذلك يكونون، إذ ذاك، جَسورين ومستعدّين لأن يتكبّدوا كل المشاقّ الممكنة حِفظاً للأمانة لربّهم، فيما البشر الذين يخلطون ما هو للعالم بما هو لله، هؤلاء يَجبَنون، يصيرون جبناء، يسلكون في المُداراة لأنّهم يسلكون في المُداورات. ويسمّون ذلك كلّه حكمة ورعاية وحسن تدبير.
نحن مرسوم علينا صليب يسوع. مَن أراد أن يتبعني فليحمل صليبه كل يوم ويأتِ ورائي. كلّما كان الواحد منا صارماً في تعامله مع نفسه، من جهة الوصيّة، كلّما تخلّى عن سعيه لإرضاء العالم. إمّا أن نُرضي الله وإمّا أن نرضي العالم. مستحيل أن نرضي الله والعالم في وقت واحد. إذا كنا نريد أن نرضي الله فعلينا أن نستميت في حفظ الوصيّة والأمانة لها، وإلاّ دخلنا في المساومة، في سلسلة لا حدّ لها من الأكاذيب. وهذا بالضبط هو ما يزرعه الشيطان بالخطيئة فينا. كل واحد منا يقتبل نصف الخطيئة أو ربع الخطيئة أو ثلاثة أرباع الخطيئة ويظنّ أنّ بإمكانه، في آن، أن يكون للمسيح، هذا يكون في الكذب وكل مواقفه من الناس والعالم تكون مواقف مشوبة بالكذب والمداهنة.
لهذا، يا إخوة، كان علينا، من أول الطريق، أن نتبنّى الموت لأجل يسوع، وإلاّ استحال علينا أن نعرف يسوع. يسوع لا يُعرَف إلاّ بالحقّ وبالحقّ الزّلال، بالحقّ الصافي، بالحقّ النقيّ، بالحقّ الكامل.
فمَن له أذنان للسمع فليسمع.
عظة في السبت الثالث من يوحنا، يو 15: 17 – 27، 16: 1 – 2، في 24 / 11 / 2007