عظة حول قراءة الأعمال الروحية
أفلاطون مطران كوستروما
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
قراءة الأعمال الروحية وصية أعطاها الرسول بولس إلى تلميذه المحبوب تيموثاوس. قراءة الكتابات المقدسة المفيدة هي أحد الوسائل الرئيسية للنجاح في الحياة الروحية. على خطى الرسول، الآباء أيضاً يوصونا بأن نقرأ الكتابات المقدسة باستمرار، لأنها وسيلة مهمة للكمال الروحي. هذه القراءة ضرورية على نحو قاطع، خاصةً في العصر الحالي، حيث تهدد التربية العالمية والعادات الدنيوية بخنق كلّ تذوّق لكل ما هو روحي، وتنتشر التعاليم الكاذبة بشكل سريع.
أيها الإخوة، أنتم بلا شك تقرؤون الكثير من الكتب، ولكن كَم من بينها هي الكتب التي تعالج شؤوناً روحية؟ إن القراءة هي انشغال محترم ونافع ومُرضٍ.
أولاً، إن قراءة الكتب الروحية عمل مشرِّف. أيّ قراءة يمكن أن تماثلها؟ أين هو الشرف في قراءة التاريخ أو أعمال الفلسفة التي لفلاسفة الماضي الوثني؟ إذا كان الشرف الحقيقي والمجد يتضمنان إحساس القارئ بأنّه قريب من الله وقديسيه، إذاً من خلال القراءة الروحية نبلغ هذا الشرف وهذا المجد، لأن من خلالها يتكلّم الله إلينا؛ من خلالها يحادثنا القديسون العظماء ومن خلالها ندخل في شركة مع الملكوت السماوي بأكمله. يا لهذا الشرف بالنسبة لبشري مائت ومجرّد مخلوق!
يتحدّث الله إلينا عندما نقرأ الكتاب المقدّس، إذ ماذا يوجد فيه غير كلمة الله نفسها؟ فيه حقيقته وتعليمه ووصاياه. لكن أنستمع عندما يتكلّم أو عندما نقرأ؟ بغض النظر عن زمان كتابة هذه الكلمات، فالله الذي يكلمنا هو نفسه في كل الأزمنة. يقول القديس باسيليوس: “إذا قرأنا الكتاب المقدس بإيمان نحسّ بأننا نرى المسيح نفسه ونسمعه. أنحتاج صوتاً فعلياً أمّ الذي يتكلّم؟ إن الأمر نفسه. في الكتاب المقدس، يكلّمنا الله بشكل فعلي كما نكلّمه في الصلاة”. لهذا السبب، يجب أن تكون الصلاة وقراءة الكتب المقدسة شغلنا الدائم. اقرؤوا وصلّوا بشكل مستمر إذا أردتم أن تكونوا مع الله دائماً.
لمَ لا نريد أن نعتاد على القراءة والصلاة في خارج وقت الكنيسة؟ لمَ لا نريد أن نلتقي المسيح ونكلّمه ونسمعه؟ نحن نكلّمه عندما نصلّي ونسمعه عندما نقرأ الكلمة الإلهية. لمَ نهمل كلمة الله ولا نقرأ إلا الكتب التي تغذّي فضولنا وقد تكون في بعض الأحيان مؤذية وضارّة؟ إن أحد شرور هذا الزمن هو القراءة غير الانتقائية.
يكلّمنا القديسون عندما نقرأ قراءاتهم. من خلال كتاباتهم يقودوننا ويكلموننا ونحن، إذا صحّ القول، نقوم من خلالهم بعد موتهم. إذاً، ما من سببٍ عندنا لنحسد معاصري الذهبي الفم وباسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي وأثناسيوس الكبير وأمبروسيوس وغيرهم. يمكننا أن نختار مَن يناسبنا من صف الآباء المقدّس ونتحدّث إليه. ما من طريقة أفضل أو أكثر إبهاجاً ونفعاً لقضاء الوقت من قراءة كتابات الآباء القديسين. أخيراً، بقراءة الكتب النافعة للنفس، ندخل في شركة مع قاطني الفردوس. يقول الشهيد في الكهنة تيموثاوس: “عندما أقرأ كتباً عن الله تحيط بي ملائكته”.
تتكلّم الكتابات المقدّسة عن مجد القديسين ونعمتهم وفضائلهم وجهاداتهم النسكية، التي من خلالها ومن خلال قراءتها مُنِحوا أن يكونوا ورثة لملكوت الله. نحن أنفسنا، على غرارهم، نصير مواطنين لعالم مختلف وسكّاناً للملكوت. نسمع فقط ما يختص بالملكوت حتى يصير لسان حالنا “إِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي السَّمَاوَاتِ” (فيليبي 20:3)، “فَلَسْتُمْ إِذًا بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ اللهِ” (أفسس 19:2). أليس مجداً عظيماً أن تدخلوا في حوار وحديث مع سفراء الملك السماوي؟ ما الذي يمنحنا مجداً أكبر من التحاور من خلال قراءة الكتب المقدسة مع الملائكة السماويين ونفوس المبارَكين ومع الله نفسه.
ثانياً، إن تمرين قراءة الكتب النافعة للنفس ليس دراسة مشرِّفة وحسب، بل نافعة أيضاً. أي نوع من الفائدة قد يُجنى من قراءة الكتب الأخرى؟ ما تجلبه هو مجرّد إرضاء لفضولنا، مجرّد اكتساب للمعرفة. لكن الكثير من الكتب، خاصةً تلك التي تعارض تعليم الكنيسة الأرثوذكسية تجلب الأذى ليس إلاّ. السيد يسوع المسيح، نورنا وملكنا، يقول أنّ من ثمارهم تعرفونهم. ما هي الثمار الممتعة للكتب المخالفة للإيمان والأخلاق؟ إنّها تغرّبنا عن ناموس الربّ، وأكثر من ذلك عن الله معطي الناموس. إنّها أماكن سكنى الأبالسة وأميرهم الشيطان. إنها لا تقود قارئها إلى النور بل إلى الظلمة وحسب. إنها لا توقظ خوف الله بل تزيد الإحراز في الخطيئة. إنّها الزؤان الذي بذره العدو في حقل ربّ البيت. إنها الأشواك التي تنمو على الأرض ملعونةً من الربّ الإله. إنها الكذب والظلام والخديعة. اهربوا منها، خاصةً الشبان منكم، حتّى لا يتجذّر تعليمها في قلوبكم. اهربوا من الكتب التي تثير الأهواء، حتى لا تنئوا بأنفسكم عن ملائكة الله والروح القدس. اهربوا من الكتب المؤذية لأنّها تجفف دموع وخز الضمير وتظلِم القلب وقد أفسدت وما زالت تفسِد وسوف تفسِد الكثيرين.
يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي عن كتب القديس باسيليوس الكبير: ولكن عندما أقرأ الكتب المقدسة يستنير نفسي وجسدي وأصير هيكلاً لله وقيثاراً للروح القدس تلعب عليه القوى افلهية التي من خلالها أتأدّب وأتلقّى نوعاً من التغيّر الإلهي واصير إنساناً آخراً. كلام رئيس الأساقفة العظيم غريغوريوس عن قراءة الكتب الإلهية نابع من خبرته. إنّها تجلّي الإنسان بالكامل وتجعله قديساً.
أتذكرون كيف تمّ تحوّل المغبوط أوغسطين؟ لقد كانت نعمة الله تلامس قلبه منذ زمن ولم يكن يتحمّل عذاب النفس الناتج من حياته في الخطيئة ومع ذلك في الوقت نفسه كان عاجزاً عن تركها. لقد كحان يريد هذه الحياة ويرفضها في الوقت نفسه. ولكن ما أن سمع هذه الكلمات “خُذْ اقرأ”، وما أن قرأ بعض الكلمات، حتى قرر مباشرة ترك حياة الخطيئة. ما الذي حرّك هذا التغيير؟ كثيراً ما نسمع هذه النصيحة “خُذْ اقرأ”، ولكن نادراً ما نعطيها الانتباه اللائق. لهذا، تعلّقوا بقراءة الكتابات الروحية. إنّها تقودكم إلى التغيير الرائع الذي اختبره للكثير من القديسين. من خلال هذه الأعمال نحن نتلقّى الاستنارة الإلهية العظيمة. من خلالها، نتعلّم الطريق إلى الخلاص، ونتعلّم عن أنواع التجارب التي تنتظرنا على هذه الطريق والوسائل التي قد تخلّصنا منها. كلّ مَن لا يقرأ الكتب الروحية ينفصل عن الله لأنه يقع في الخطايا القديمة بسبب جهله للكتاب المقدس. هذا هو مصدر الهرطقة والإهمال للحياة الروحية الحقيقية. الذين لا يقرؤون الكتابات الإلهية يسيرون في ظلام دامس وهم مثل العميان الذين ما من أحد يقودهم فيسرعون ويقعون في الحفرة. لذا، فلتستنِر عيوننا بنور كلمة الله لأن الكتب المقدّسة تنير بإشعاع أكثر من الشمس للذين يقرؤون بمحبة ويحفظون وصايا الله.
ثالثاً، أيّ فرح وابتهاج وراحة يمكن اكتسابها بقراءة الأعمال النافعة للنفس؟ ما من شيء أكثر لطفاً من هذا الانشغال. يقول كاتب المزامير “مَا أَحْلَى قَوْلَكَ لِحَنَكِي! أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ لِفَمِي” (مزمور 103:118). هذا الطعام يرضي كل حاسة ذوق. هذا هو المنّ الحقيقي، الطعام السماوي، الخبز الملائكي المهيأ في السماوات من دون أي جهد منّا، والذي فيه كل أنواع الحلاوة والأرائج مشبعاً كل حاجات الناس. أيّ شيء ممكن أن يكون أكثر حلاوة من هذا؟ إذا كنتَ لم تختبر ذلك إذاً صدّق خبرة القديسين الذين لا يُحصَون الذين وجدوا في قراءة كلمة الله كلّ فرحهم وراحتهم العظمى. إذ كم من المرات وبأي قوة عزّت القراءة المكابيين في وسط أحزانهم الكبيرة. ألَم يجدوا فرحاً في قراءة الكتب؟ ينصح السول بولس أهل روما بطلب التعزية في الكتابات المقدسة (روما 4:15). بمَ عزّى بولس نفيه في السجن؟ لقد طلب من تلميذه المحبوب تيموثاوس أن يرسل إليه الكتب التي تركها ليستعملها خلال احتجازه (2تيموثاوس 4:13).
هل نحن، مع القديسين، نجد فرحاً في قراءة الكتب النافعة للنفس؟ للأسف! نحن نجد عزاءنا ومجدنا وغذاءنا في الأمور الباطلة. نحن نقرأ الكتب التي لا تغذي إلا فضولنا والتي غالباً ما تضرّ. يبدو النهار قصيراً جداً لاكتساب المعرفة ونقضي الليل بأكمله دون أن يقاطعنا أي شيء. ماذا يمكن أن يُقال عن الذين يقضون النهار والليل في قراءة الكتب المثيرة للتجارب التي تخمد الإيمان وتغذّي الشهوات وتنمّيها؟ يقول أحد النساك الكبار “اتركها يا أخي! حتى لا تحوّط قلبك بالنار الشيطانية وحتى لا يُبذَر حقلك بالزؤان بدل الحَب، وبدل الحياة تتلقّى الموت، و… (لماذا أكرر الكلمات؟) وبدل المسيح تتقبّل في ذاتك الشيطان. لا تتأخّر في ذلك، بل خلّص نفسك كما فعل لوط في سدوم (القديس برصنوفيوس).
لا تكُونوا كسالى أيها المسيحيون! اقرؤوا الأعمال الروحية حتى لا تموت روحكم جائعة لسماع كلمة الله التي بها حذّرنا من خلال الأنبياء. تذكروا أن وزير الملكة كنداكة الشريف، فيما كان على الطريق في عربة، كان يقرأ الكتب المقدسة ولهذا أعطي له أن يُدعى إلى مملكة يسوع المسيح. فلنقرأ باستمرار الكتاب المقدس، كتابات الآباء القديسين، وغيرها من الأعمال النافعة للنفس. لكن عندما تقارب قراءة هذه الكتب، علينا أولاً أن نصلّي من كلّ قلبنا إلى الله السيد حتى يفتح أعين قلبنا ولا نفهم ما نقرأ وحَسْب بل ونعمله أيضاً. فَمَنْ يقرأ ولا يعمل ما هو مكتوب يزدري بالكتابات المقدّسة.