كنيستنا كنيسة القدّيسين
الأب الحارث إبراهيم
تطالعنا الكنيسة في كلّ يوم بعيد مجموعة من القدّيسين، فتقرأ علينا سيرتهم في الكنيسة في صلاة السَّحَر ونُرتِّل لهم التعظيمات التي تسلِّط الضوء على الجهاد المقدّس الذي كابدوه من أجل المسيح. كما تدعونا الكنيسة لنعيّد لكلّ القدّيسين في الأحد التالي لعيد العَنصَرة، عيد حلول الرّوح القدس على تلاميذ السيّد المسيح.
فلنتأمّل هذا الجوّ في الكنيسة لنستخلص منه العِبَر لحياتنا. لماذا نذكر القدّيسين ونعيّد لهم؟ يجيب القدّيس بولس عن هذا السؤال في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، حيث يقول: “فَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يَتَأَلَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَتَأَلَّمُ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يَتَمَجَّدُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَفْرَحُ مَعَهُ” (1 كور 12: 26). أي أنّ هذه المشاركة تأتي من كوننا كلّنا أعضاء في جسد المسيح الواحد. فإذا كانت غاية عمل المسيح هي أن يمتلئ النّاس من نعمته، حيث يُذكِّر القدّيس بولس التسالونيكيين بأنّ “إرادة الله هي قداستكم” ( 1 تسالونيكي 4: 3)، وإذا أصبحنا نحن بالمعموديّة أعضاء في جسد المسيح، في ناسوته، في بشَريّته، فإنّ الامتلاء من ألوهيّته التي سكنَت في ملئها في جسده ( كولوسّي 2: 9) يُصبح أمرًا مُحتَّمًا؛ وهذا ما يدعو الأعضاء المجاهدين ليفرحوا مع الذين حقّقوا الفوز وتمَجَّدوا مع المسيح. أمّا الذين خسروا عضويتهم في جسد المسيح بسبب تهاونهم وسقطوا وهلكوا فهؤلاء مدعاة حُزن في الكنيسة لأنَّ إرادة ربَّنا وسيِّدِنا يسوع المسيح هي أن يَخلُصَ جميع النّاس (1 تيموثاوس 2: 4) إذ جاء أصلاً ليُخَلِّصَ ما قد هلَك (متّى 18: 11). لماذا عندما نعيّد للقدّيسين نذكر أتعابهم التي كابدوها في هذا العالم؟ هل الأتعاب ضروريّة إلى هذا الحدّ لبلوغ القداسة؟ لا شكّ أنّ كلّ امرء يتمنّى أن يتقدّس، لكن أن يبذل جُهدًا وتضحيات لبلوغ القداسة فهنا تكمن المعضلة. يتحدّث القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم عن أنّ الله جعل الفضيلة ثمرة العمل لكي ينحني الإنسان ويتواضع بالروح (العظة 7 على 2 كورنثوس 2: 6 و7). لكنّ القدّيس بولس يتحدّث عن حبّ القدّيسين للحياة مع الله حتّى إنّهم ازدروا بكلّ أنواع العذابات؛ تعرّضوا للوحوش والنّار والسّيف وتقطيع الأعضاء والضرب والرجم والجَلد والهزء والسجن (عبرانيين 11: 32-39)، واحتملوا كلّ هذا لأجل معرفة ابن الله في وجه يسوع المسيح (2 كورنثوس 4: 6). لم يَثْنِهم عن محبّة المسيح أيّة محبّة أخرى (متّى 10: 37)، ولم تقف صنوف التجارب عقبة تحول دون بلوغهم الحياة مع الله. أدركوا أنّ غاية الإنسان، على ما قال القدّيس سيرافيم الذي من ساروف، هي اقتناء الروح القدس، أي أنْ نحيا بروح الله فيصير روح المسيح الذي فينا هو مُحيينا. هؤلاء القدّيسون سكن روح الله فيهم، في أجسادهم، بل امتلكهم، فصاروا هياكل لروح الله (1 كورنثوس 6: 19). عاشوا في سلامٍ داخلي مع الله وفرح، فواجهوا الشرّير بعزمٍ لا يلين ونالوا من المسيح الإله نِعَمًا تفوق الوصف. في حديث الأب باييسيوس الآثوسي مع القدّيسة أوفيميّا التي ظهرَت له، قال لها: هل صحيح ما يذكره السنكسار عن العذابات التي كابَدْتها من أجل المسيح؟ أجابته: لو كنتُ أعلم ما أعدّه المسيح لي من الأمجاد لقَبِلتُ عذابات أكثر. هنا يتبادر إلى ذهننا سؤال بديهيّ: تُرى لماذا لا نشعر نحن بسلامٍ كما القدّيسين؟ لماذا لا نحتمل الضّيقات بفرح؟ الجواب البسيط هو: لأنّنا لا نحمل نعمةً تجعلنا صابرين على الضّيق ومتشوّقين للحياة مع الله. ما نعانيه من اضطراب وخوف أمام الضّيقات، جماعات وأفراد، إنّما هما انعكاس لحالة فقدان النّعمة التي نحن عليها اليوم.
فلماذا علينا أنْ نكابد كلّ هذه الضيقات؟ هل خَلَقنا الله للشّقاء؟ كيف وصلنا إلى هذه الحال؟ يُجيب الكتاب المقدّس عن هذا السؤال، فيقول: “كان الإنسانُ في كرامة فلم يَفْهَم، فماثَلَ البهائم وتشبّه بها” (مزمور 49: 13 و21)، أي كان الإنسان يعيش بالنّعمة مع الله ولم يكن يشقى، لكنّه حالما تَكَبَّرَ وظَنَّ، بخديعة الشيطان، أنّه سيكون إلهًا من دون الله، فَقَدَ نعمةَ الله التي كانت عنده، تعرّى منها بإرادته. على الفور أدرك الإنسانُ فداحة فِعْلَتِه لمّا اتَّخَذَ له الشّيطان مُرشِدًا، إذ خَسِر البَرَكَة الإلهيّة ومعه أيضًا خسر الكونُ البَرَكَةَ الإلهيّة. يقول الكتاب العزيز: “فانفتحَت أعينهما (آدم وحوّاء) وعَلِما أنّهما عريانان” (تكوين 3: 7). ويُفسِّر المغبوط أوغسطين ذلك قائلاُ: “انفتَحَتْ أعينهما لا لينظرا، فإنّهما كانا ينظران من قَبْلُ، إنّما ليُمَيّزا الخير الذي فقداه والشرّ الذي سقطا فيه… عرفا أنّهما عريانان من تلك النّعمة التي حفظَتهما من خزي عُري الجسد” (مدينة الله 14: 17). فقدا حياة الله فيهما! ويذهب القدّيس امبروسيوس في القول إلى أنّ الإنسان “عرف أنّه عريانٌ لمّا فقد ثوب الإيمان الصالح” (الرسالة 20: 7) بأنّ الله هو حياته. فكيف السبيل إذًا إلى استعادة الحياة مع الله إنْ لم نستعِد أولاً ثوب الإيمان الصالح بأنّ الله هو حياتنا؟ لأنّ الله وحده هو القادر أنْ يستر عُرْيَنا. ونفهم من الكتاب المقدّس أنّ آثار ما فعله الإنسان كان كارثيًّا حتّى على الكون الذي تحت سلطانه، إذ فَقَد الإنسانُ سلطته عليه، وصار هاربًا من الحيوانات ومن ظلم الطبيعة، ولم تعد الأرض مبارَكة تُنبِتُ له الثّمار كما في السابق بل أصبحت ملعونةً بسببه وتُنبتُ له الشوك والحسك. صار على الإنسان أن يأكل خبزه بعرق جبينه (تكوين 3: 14). وكما فَقَدَت الأرض برَكَتها بسبب خطيئة الإنسان وصارت ملعونة تُثمر له شوكًا وحسكًا، كذلك جسد الإنسان الذي من أديم الأرض، فَقَدَ بركته وصار ملعونًا، خسر سلامه واتّزانه، وصار يُنبت شوكًا وحسكًا، يُفسد النَّفْسَ ويُحطّمها. من هنا صار يترتّب على الإنسان أن يَحْرُثَ أرضه، أي يُهذِّبَ جسده، لكي يُثمر في الفضيلة، لأنّ الإهمال يجرّ عليه المفاسد. إن لم يُهذّب الإنسانُ جسدَه بالصّوم وطاعة المسيح لا يُثمر بالفضيلة. لا يمكننا أن نستعيد كرامتنا الأولى، القداسة التي كانت لنا، إلاّ بالكدّ والأصوام والأسهار. في هذا المجال يقول القدّيس ديديموس الأعمى: “إن كانت حوّاء تلِد بالأوجاع نتيجة الخطيئة، فالكنيسة تُنجب أولادًا وهي في العالم خلال الألم، لأنّ الفضيلة تستلزم الحُزن على الخطيئة، والندامة تُنشئ توبةً للخلاص بلا ندامة (2 كورنثوس 7: 10)… هذا هو الباب الضيّق والطريق الوعرة التي تؤدّي إلى الحياة (متّى 7: 13)” (العظة 102 على التكوين). التراخي والكسل وحدهما يجعلاننا نهوي أمام التجارب، كما يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم في العظة 16 على التكوين. لا ينبغي أن نتعلّل بعِلَل الخطايا، ونحيك لأنفسنا أعذارًا واهية نريد أن نستُرَ بها عورتنا، أي كسلنا وخطايانا، كمن يلجأ إلى أوراق التّين، “لأنّها لا تقدر أن تستره” (العظة 85 لديديموس الأعمى على التكوين). إذا كان الإنفصال عن الله جعلنا واقعون في الظّلمة فلا سبيل لاستعادة النّور إلاّ بمقاومة الظّلام. الذين يَرضَون بالظلام ولا يقاومونه هم أشرارٌ في قلوبهم، ينصرفون عن الله كما تنصرف الظّلمة عن النّور ويُديرون لله ظهورهم (إرمياء 2: 27)، أمّا أصحاب القلوب الصّالحة فيُوَلّون وجوههم نحو الله الحيّ، “حيٌّ هو الله الذي أنا واقفٌ أمامه” (2 ملوك 5: 16)، يقفون أمامه يسألونه الغفران والرحمة فيسكب عليهم نعمته بغزارة. فَهَلُمّ يا محبّي الله لنطرح عنّا الكسل “وكُلّ ثِقَل الخطيئة المحيطة بسهولة بنا، ولنسابق بالصبر في الجهاد الذي أمامنا، ناظرين إلى رئيس الإيمان ومُكَمّله يسوع” (عبرانيين 12: 1)، حتّى كما حَلّ ملء اللاهوت في جسد يسوع المسيح (كولوسّي 2: 9) يصبح جسدنا نقيًّا ومسكنًا للروح القدس، يتقدّس بالنّعمة الحالّة فيه ويُقدِّس بها محيطه وكلّ ما تقع عليه يده. وقتها يستعيد اللهُ المسكونةَ ومَن عليها إليه (مزمور 24: 1) ويدخل القدّيسون إلى فرح ربّهم (متّى 25: 21). فلنتّعِظ! الغافلون والكسالى لا يرثون ملكوت الله، والمتقدّسون يغتصبونه. لنتذكّر أنّ الإنسان وحده هو صورة الله. كان مع الربّ في الفردوس، ومطلوب منه أن يرجع إلى الله. اللهُ جهَّز له كلّ شيء وهو يُعينه في الطريق الضيّقة حتّى يصل إلى السماء. يقول القدّيس يرونيموس: “كما يُقال للخاطئ: أنت ترابٌ وإلى التراب تعود، هكذا يُقال للقدّيس: أنتَ سماءٌ وإلى السّماء تعود” (العظة 46 على المزامير).