سيرة أبينا الشيخ يعقوب
رئيس دير داود البار
نقلها عن اليونانية بتصرّف الأخ يوسف كبا
1- نَسَب الشيخ وسنوات طفولته
آسيا الصغرى، التي أنجبت قدّيسين كثيرين في كنيستنا، هي موطن الأب يعقوب. فقد وُلد في قرية ليفيسي في ماكري (Λιβίσι Μάκρης). كانت أسرته ميسورة الحال، من أغنياء القرية. وغناها الأكبر كان التقوى والمحبة المسيحيتين. وقد أنجبت في تاريخها العريق رهباناً وإكليريكيين وقديس.
وُلد الشيخ في 5 تشرين الثاني 1920. وبسبب أحداث تلك الأيام المريعة وتهجير المسيحيين، انتقل إلى قرية القديس جاورجيوس في أمفيسا (Αμφισσας) وسط اليونان، وبعد سنتين إلى قرية فراكلا (Φαράκλα) في جزيرة آفيا، بقرب دير البار داود، حيث عاش حتى الثلاثين من عمره هناك.
كان لأمه ثيوذورا الدور الأكبر في حياته، وقد كانت مزدانة بالفضائل والتقوى والروح الرهبانية التي أورثتها لابنها المحبوب يعقوب. وقد روى الشيخ يعقوب، عن لسان أمه، أنه كان في طفولته ضعيف البنية في طفولته ولهذا كانت تدعوه “العصفور الخريفي”.
عند التهجير، أثناء النزوح من آسيا الصغرى، بقي الوالد، ستافروس تساليكي، أسيراً لدى الأتراك، وغادرت كل من أمه وجدته وعماته وخالاته بالسفينة إلى بيريا، وكان يعقوب في الثانية من عمره. ثم لحق الأب بهم إلى قرية فاراكلا. لكن الأم بقيت دائماً المربي الأساسي ليعقوب. عن طفولته، كان الشيخ يقول: “نادراً ما كنت أخرج من البيت، إلاّ إلى المدرسة. بعد إنجاب الأولاد، عاش والديّ ممسكَين متعففَين، في حياة روحية أخوية متواضعة مباركة. علمتني أمي الصلاة والسجود، وكنتُ أساعدها في الأعمال البيتيّة النسوية. وهكذا تعلمت الخياطة ومهارات أخرى. هذا أفادني في حياتي الرهبانية كثيراً. كل خمسة عشرة يوماً أو عشرين كان يأتي كاهن إلى القرية ليقيم الذبيحة الإلهية. كنت منذ المساء أذهب إلى الكنيسة لأساعد الكاهن وأبقى هناك مصليّاً إلى أن يأتي الناس صباحاً. لم نكن نعرف الاعتراف. فقط كنَا نصوم صوماً صارماً. أمّا قبل المناولة فكنَا نقبّل أيدي والدينا والشيوخ”.
ويقول الشيخ في مكان آخر: “كانت يدا أمي مفتوحة للمحتاجين. فأبي كان بناءً، وكان بمقدوره تأمين مستوى معيشي جيد لنا. اعتادت أمي على مساعدة الفقراء بسخاء بأطعمة وثياب، إلى درجة أننا، والدي وأنا، مراراً كثيرة عدنا من العمل في البناء ولم نجد ثياباً أخرى لنبدّل ثيابنا المتسخة! لكن حياتنا العائليّة كانت تعبر سلاميّة هادئة”.
يتابع الشيخ متحدثاً عن طفولته فيقول: “اعتدت الذهاب إلى الكنائس الصغيرة في البراري، وخاصةً إلى مقبرة القرية، من دون أن يعني هذا أنه كان لديّ مشكلة نفسية تعكّرني. بالعكس، كنت أتأمل هناك بطلان هذه الحياة الزائلة، وهكذا تولّد في نفسي ذكر الموت بفعاليّة”.
لقد أنار الروح القدس الشاب يعقوب إذ وجد فيه نفساً نقية طاهرة، فأخذ يفكر بتكريس نفسه لله، وبأن يصير ناسكاً عندما يكبر. كان يخرج من القرية إلى التلال المحيطة ويقيم في بعض التجويفات الصخرية التي كان يغطيها بأغصان الشجر، مصلياً ومعتبراُ نفسه ناسكاً. كما كان يزور بعض الكنائس المنتشرة في الريف، ككنيسة القديسة باراسكيفي، ينظّفها ويشعل قناديلها ويصلي فيها حتى الليل في عشرة مع الله وقدّيسيه، الذين طالما ظهروا له وتحاوروا معه.
بعد إنهائه المدرسة الابتدائية بتفوق، أصرّ استاذ القرية على إرساله إلى خالكيذا لمتابعة الدراسة. إلاّ إن أهله خافوا من إبعاده عنهم، وفضّلوا بقاءه في القرية. هكذا اكتفى بهذا المقدار من العلم العالمي ليمتلئ من “الحكمة التي من فوق” التي أظهرت الصيادين غزيري الحكمة.
تواضع الشيخ وإيمانه وصلوات أمه، جعلته على علاقة حميمة مع والدة الإله وجميع القديسين. يروي الشيخ أنه مرض في طفولته مرضاً شديداً، أصابته بردية وضيق نفس وآلام مبرحة في الصدر. “حينها لم يكن في القرية طبيب إلاّ الله وقدّيسيه. صلّت أمي كثيراً أمام أيقونة عجائبية للقديس خارالمبوس، كانت عندنا في البيت. عند المساء رأيتُ يد كاهن ترسم الصليب على وجهي، وتلامس مكان الألم وتداعبني. ومن لحظتها، أحسست بالتحسن ثم شُفيت. مَنْ شفاني كان القديس خارالمبوس، كما قال لي أمي”.
عندما رأى أهل القرية حياة يعقوب الصغير المقدسة، صاروا يحترمونه جداً ويعتبرونه ابناً باراً للكنيسة وفتى الله. وبما أن القرية كانت بلا كاهن، كانوا يلحون عليه كثيراً لأن يقرأ صلاة ما على المحتاجين أو المرضى، إيماناً منهم بأن صلاته ستساعدهم. وقد روى الشيخ قصصاً عديدة في هذا الخصوص.
كثيراً ما تحدث الشيخ عن ممارسة الصوم في أسرته المباركة. فقد قالت له أمه مرة، خلال الصوم الأربعيني المقدّس: “يا بنيّ يعقوب، أنظر كم أنت ضعيف. كُلْ ولو بيضة صغيرة لتتقوّى قليلاً”. فأجاب: “إن أكلتُ الآن، فلن أشعر بالقيامة. فأنا أريد أن آكل بيضة فصحيّة لأدرك معنى الفصح”.
عندما كان يساعد والده في أعمال البناء، سواء في القرية أو في القرى المجاورة، كان يتجنّب الأكل، في أيام الصوم، ممّا يقدمه لهم أصحاب البيوت التي يبنونها، لأنه غالباً ما كان زفراً. كان يعقوب الفتى يفضّل العودة إلى البيت ليتناول طعاماً صيامياً، على أن يتناول الجبن وغيره مما يقدّم، أمّا إذا وجد بعض الزيتون والخبز فكان يكتفي بذلك.
عند بلوغه الخامسة والعشرين من عمره، جاءت أمه في أحد الأيام وأخبرته أنها رأت ملاكها الحارس وأخبرها بأنها ستغادر هذه الحياة بعد ثلاثة أيام وأوصاها بأن تستعد. كان لهذا أثر كبير في نفس يعقوب، لا بسبب العلاقة الطبيعية بينهما كأمّ وابن وحَسب، بل بسبب العلاقة الروحية أيضاً. وهكذا، مرضت ثيوذورا وانطرحت في الفراش بسلام، باركت ابنها الحبيب داعيةً له أن يصبح كاهناً بعد أن يهتمّ بتأمين مستقبل أخته الصغرى. ثم تنفسّت الصعداء وأسلمت الروح.
2- حياة يعقوب العسكرية
كانت فترة خدمة الشيخ في العسكرية خلال أصعب وأقسى العهود في اليونان، فترة الحرب الأهلية. كانت خدمة يعقوب في مدينة فولوس. وقد أخبر: “كانت أيقونة القديس خارالمبوس دائماً معي. وقد تضرعت إليه مراراً ألاّ يختارني الضابط المسؤول لأكون من رجال الدورية، لأني لم أكن رجل قتل ودماء. وبالفعل لم يحصل ذلك. كلّفوني مرة بالمناوبة في حراسة قطاع معيّن. فجلست وراء الرشاش وأخرجت أيقونة القديس خارالمبوس الصغيرة ووضعتُها عليه، وقلت له: ‘يا قدّيسي الحبيب، أنت أحرسْ الآن الهدف. أحرسْ هذا القطاع من هنا إلى هناك‘. بعدها غرقت في الصلاة بلا همّ، ونجوت من مخاطر كثيرة”.
ثم انتقل يعقوب إلى أثينا. هناك أنار الله قلب الضابط المسؤول عنه، فكان يعطيه كل يوم إذناً خطياً بزيارة كنائس أثينا وبيريا. واستمرت الصداقة بين الشخصين إلى أن أصبح الشيخ في دير البار داود، حيث زاره الضابط مراراً. ورغم وداعته وبراءته، ورغم محاولاته أن يعيش مع المسيح بخفية، إلاّ إنه لم يسلَم بالطبع من تهكمات بعض العساكر وإزعاجهم، إذ لم يكونوا يفهمون تصرفاته العجيبة بعقولهم البشرية. لكن البعض الآخر كانوا يحترمونه، وقد زاروه في ديره فيما بعد.
وهكذا مرّت سنوات خدمته العسكريّة الثلاث بسلام فعاد إلى قريته وهو في الثلاثين من عمره. وبعد أن أمّن على أخته، كما أوصته أمه، أصبح حرّاً في تحقيق ما حلُم به منذ الطفولة.
3- حياة الشيخ يعقوب الرهبانية
في السيرة الرهبانية، رغب الشيخ باتباع حياة هادئة في بعض المغاور، كما في الأماكن المقدسة، مكتفياً ببعض الماء والأعشاب البريّة المتوفرة. لكن قبل المباشرة في تنفيذ رغبته، رأى ضرورة أن ينال البركة من دير البار داود. عندما وصل إلى الدير، كما يروي هو نفسه، وجده متغيراً عمّا كان عليه، أي أكثر جمالاً وعظمة وبهاء. “هناك قابلت شيخاً وقوراً أبيض اللحية. كان هذا هو البار داود. سألته وأنا مندهش إن كان بالإمكان أن يعطوني غرفة في الدير فأجابني: ‘أنت أتيت لتسجد كزائر. فإن كنت ستبقى يمكن أن نعطيك غرفة‘. فأجبته في الحال: ‘سأبقى أيها الشيخ‘. فأدخلني الدير بعد أن تفوهت بهذا الوعد ثم غاب الشيخ الوقور عن عينيّ وكأن جداراً انفتح ومر عبره. بعد لحظات أدركتُ واقع الحال، فالدير بسيط، وفيه خرائب هنا وهناك، وكنيسة صغيرة. لقد أتيتُ كزائر عادي، لكن من خلال ما حدث وجدتُ نفسي أعطي وعداً من كل قلبي بأن أخدم دير القديس داود”. حينها، كان في الدير ثلاثة رهبان كبار السن يعيشون بطريقة انفرادية. الأرشمندريت نيقوديموس كان رئيساً للدير وكان يتردد عليه من حين لآخر. وقد تمتع بفضائل كثيرة، لكنه كان يعاني من أمراض عديدة بالإضافة إلى وجود بعض الإخوة من داخل الكنيسة كانوا يضطهدونه. وقد رقد هذا الرئيس الرحوم بعد فترة قصيرة. يقول الشيخ: “كنتُ اطلب بركتَه في كل أمر. وهذا لم يكن سهلاً. فقد كنتُ أمضي أربع إلى خمس ساعات للوصول إلى القرية التي كان يخدم فيها الرئيس نيقوديموس، لآخذ بركته في أمور تخص الدير”.
كان الدير مهمَلاً لسنوات، فأخذ الشيخ يعقوب يعمل فيه طوال النهار مع الصلاة المتواصلة. ولكي يصبح الدير قادراً على الاعتماد على نفسه، وحتى على تقديم الإحسان للفقراء، عمل في كافة الأشغال: إصلاح، بناء، زراعة، وغيرها.
في انطلاقة حياة الشيخ الرهبانية المشتركة، عانى صعوبات وتجارب كثيرة. هذا ليس غريباً، فهو قانون الحياة المسيحية، وقد طبّقه الله على شيخنا يعقوب، فكانت حياته استشهاداً طوعياً حيناً وقسرياً حيناً آخر. لقد أثار إبليسُ الرهبانَ السابقين في الدير عليه، لكي يقفوا في وجه حماسته ويحملوه على اليأس ومغادرة الدير. لقد كان “منظره ثقيلاً عليهم”. إلاّ إن فضائله وبساطته الموهوبة من الله تغلبت على شرورهم. قلايته كانت شبه خربة: لا زجاج على النوافذ، بالإضافة إلى الشقوق في الباب صيفاً وشتاءً. وقد كان الشيخ يعقوب يعزّي نفسه بمقارنتها بالنسّاك العموديين، الذين لم يكن من سقف يحميهم، وبالنسّاك سكان البراري الذين لا مأوى لهم. هكذا كان يرى ذاته أفضل حالاً منهم ويشكر الله. و كان الشيخ مستفيداً وأكثر خبرةً في مختلف التجارب والآلام. لكن الشيطان زاد أيضاً من تجاربه، على غرار تجربته لآباء البرية المتوشحين بالله. وقد روى الشيخ حادثة عن هجوم الشياطين عليه في أحد الأيام، فيما كان مستلقياً قليلاً قبيل الظهر ليرتاح من العمل، فضربوه ضرباً مبرحاً في كل أنحاء جسمه وأسمعوه الشتائم والتجاديف مانعين إياه حتّى من رسم إشارة الصليب. إلاّ أنه أخيراً استطاع رسم إشارة الصليب وطردهم باسم يسوع.
في أحد الأيام، جاء رئيس الدير وقال له: “يا أبانا يعقوب، اغتسِلْ واستحمّ وسرّح شعرك. لأننا سننزل معاً إلى خالكيذا”. أطاع الشيخ يعقوب من دون أن يدري ما القضية. “بالفعل نزلنا إلى مطرانية خالكيذا، وكان المطران غريغوريوس هناك إنساناً قديساً متواضعاً رحوماً… استقبلنا ورحّب بنا، ثم أخبرني بأنهم قرروا منحي رتبة الكهنوت. هذا الأمر لم يكن يخطر على بالي. إلاّ إني لم أستطع أن أجادل احتراماً لرئيس الدير والأسقف القديس. وهكذا في الثامن عشر من كانون الأول 1952 رسموني شماساً، وفي اليوم التالي كاهناً. وقد أهدوني محفظة فيها أيقونة للسيدة العذراء كُتب تحتها: ‘أيها الأب يعقوب، أيقونة العذراء هذه فلتحفظْك في المكان القفر، هناك حيث تقيم…‘ ثم بعد أيام أخذت إذناً مكتوباً بممارسة الأبوّة الروحيّة وسرّ الاعتراف”.
4- حياة الشيخ يعقوب الكهنوتية
منذ بداية حياته الكهنوتية، أخذ الشيخ يعقوب يقيم الصلوات اليومية والقداس الإلهي ويتناول القدسات بتواتر، مما كان يعطيه قوة روحية كبيرة ونشاطاً كل النهار. ونظراً لحاجة المنطقة إلى كهنة، صار يخدم القرى المحيطة بالدير. لقد كانت غيرته على بيوت الله الناطقة (المؤمنين) وغير الناطقة كبيرة جداً. فكان يعمل بنشاط وحماس في خدمة النفوس والكنائس والأوقاف.
كان الشيخ يغار من فضائل القديسين الذين يقرأ عنهم، ويحاول تطبيق شيء منها بنفسه. لذلك عندما قرأ عن إمساك القديس دانيال العمودي حتى عن ضروريات حياته اليومية محبةً بكثرة زائريه، راح الشيخ يعقوب يمسك عن حاجاته الطبيعية منذ خروجه من الدير في الصباح، ليخدم في مختلف القرى المحيطة، إلى أن يعود إليه.
حسب عادة ذلك الزمان، كان الأب يعقوب يطوف برفات البار داود في القرى المجاورة ليتبرّك منها المؤمنون. وقد كان هذا متعباً جداً له بالرغم من طبعه النسكي. يروي تعزية حصلت له إحدى المرات عندما كان عائداً من إحدى جولاته في الرعايا المحيطة، إذ عندما دنا من الدير، رأى نوراً بهياً خارج الدير ينير الطريق الضيقة المؤدية إليه. ثم “عندما وصلتُ إلى الدير دخلتُ الكنيسة. فوجدتُ شيخاً منتصباً عن اليمين ينتظرني. بعد أن وضعتُ الرفات وسجدتُ للأيقونات بحثتُ عن ذاك الشخص لأحيّيه معتقداُ أنه أحد آباء الدير، إلاّ إني لم أجده. فقد اختفى. لقد كان البار داود حيّاً ينتظر عودتي بسلام”.
عجائب أخرى عديدة حصلت مع البار بنعمة الله، لا يسعنا ذكرها جميعاً. نذكر أن الشيخ يعقوب كان يسعى دائماً لتأمين الزيت لجميع الكنائس المحيطة بالدير. بالإضافة إلى الإحسانات الأخرى التي كان يقدمها للمؤمنين. في أحد الأيام، كان يصلّي متضرعاً إلى العذراء والبار داود والنبي إيليا بشكل خاص، لأن يساعدوه في تأمين الزيت في كل المنطقة. بعد فترة من صلاته، نزل إلى المستودع حيث وعاء الزيت الكبير، فوجد الغطاء يتحرّك والزيت ينسكب من الوعاء، فظنّ لأول وهلة أن فأراً في الوعاء يحاول الخروج منه بعد أن أسال كل هذا الزيت على الأرض. إلاّ إنه عندما دنا ورفع الغطاء، لم يجد لا فأراً ولا ما شابه، بل تأكّد أن الزيت كان يفيض عجائبياً! فمجّد الله على مراحمه وشكر قدّيسيه.
لقد كان الإحسان والعطاء بلا حدود شيمةً راسخةً في الشيخ البار يعقوب. وقد ورث ذلك عن أمه. كان دائماً يفرّغ يديه ممّا يملك، فيعود الله ويملؤها أكثر فأكثر. وكان الشيخ يتعجّب من مراحم الله هذه العظيمة.
كانت صحة الشيخ حديدية إلى أن بلغ الخامسة والخمسين. إلاّ أن الله سمح، بعد هذا العمر، بأن يعاني الشيخ من أمراض كثيرة ثقيلة. يقول الشيخ عن هذا: “لقد أخذ إبليس الإذن بأن يجرّب جسدي” كما حصل مع أيوب البار في العهد القديم. “لم أكن أريد الذهاب إلى الأطباء في البداية، إذ كنت أعتبر أنه من العيب أن يروا جسدي عارياً، جسد كاهن”. إلاّ إنه اضطر مراراً لزيارة الأطباء فيما بعد، خاصةً عندما كان يعاني آلاماً مبرحة. وخضع لعمليات جراحية. وكثيراً ما كان القديس البار داود يزوره مع القديس يوحنا الروسي، فيراهما واقفين بجانبه، حتى في غرفة العمليات، يتشفعان من أجل شفائه.
في تلك الأيام، بالرغم من توصيات الأطباء له بتجنّب الوقوف، إلاّ إنه لم يكن يتهاون في أداء الخدمات الكنسية الشريفة وإتمام القداس الإلهي، رغم الآلام اللاحقة التي كان يعاني منها عند المساء وطوال الليل. وقد كانت تنتابه نوبات من الآلام في عنقه ورأسه وأماكن أخرى من جسده، خاصةً بعد قضائه ساعات طويلة في تقبّل اعترافات أبنائه الروحيين. لقد كان يعتبر كل هذا نوعاً من النسك، يحتمله بصبر وشكر.
5- رقاد الشيخ يعقوب
آخر تجاربه كان مرض القلب الذي أودى به إلى الحياة الأخرى. وقد أجرى عمليتين جراحيتين في القلب، وكانت الثانية من دون تخدير، بعد فشل العملية الأولى. رغم آلامه المتواترة، حافظ الأب يعقوب على ابتسامته وخدمته للآخرين بمحبة، في نفوسهم وأجسادهم. كانت أحاديثه في سنيه الأخيرة تتناول علاقته الحميمة بالبار داود، وطفولته وقصصه الروحية المختلفة، ونصائحه ورؤاه العجائبية. كان يتحدث دائماً ببراءة طفولية تطفح منها النعمة والبساطة، معزياً كل مَن حوله وناصحاً ومشدداً لهم، رغم ما كان يخفي من آلام وضعفات في جسده.
رقاده في البرارة كان أيضاً مدعاة للعجب. لقد سبق وعرف اليوم الذي سيموت فيه. في ذلك اليوم كان سعيداً جداً. في صباح يوم الحادي والعشرين من تشرين الثاني من عام 1991، عيد دخول السيدة، كان يرتل في كنيسة الدير. وبعد الظهر حوالي الرابعة، حينما كان يتقبّل اعترافات المؤمنين كالعادة، عَبَر إلى الراحة الأبدية، مغادراً ما في العالم، منتقلاً إلى قرب السيد الرب.
صلواته تحفظنا. آمين.