كلمة في يوحنّا المعمدان
الأرشمندريت توما بيطار
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
يا إخوة، هناك سؤالان نحتاج إلى أن نسألهما، بعد قراءة هذا الإنجيل الّذي تُلي على مسامعكم، هما: لماذا قُتل يوحنّا؟! ولماذا صار هيرودس قاتلاً؟!
السّؤال الأوّل: لماذا قُتل يوحنّا؟! – يوحنّا قُتل لأنّه كان متمسّكًا بالحقّ، ولأنّه قال الحقّ، ولأنّه لم يساوم في مسألة الحقّ، وبقي أمينًا للحقّ إلى المنتهى. طبعًا، كانت هناك إمكانيّة لأن يفكّر يوحنّا كما يفكّر النّاس الّذين يجدون تدبيرًا لحلّ المسائل. النّاس، اليوم، يحبّون كثيرًا أن يستعملوا كلمة “تدبير”، أي “إيكونيميّة”. لذلك، اليوم، بكلّ أسف، صار الحقّ قليلاً جدًّا، لأنّ كلّ النّاس يتلاعبون بالحقّ، ويتلاعبون بالكلام، ويتلاعبون بالمصالح، ويسمّون عملهم “رعاية”، ويسمّون مساعيهم “تدابير”… لهذا السّبب، الحقّ، في هذه الأيّام، يموع، بحيث لا يبقى منه إلاّ القليل، ولا تبقى إلاّ أصوات قليلة تنادي به، هنا وهناك، وهذه، في العادة، ممجوجة ومُستبعَدة، لأنّ النّاس لا يحبّون الحقّ؛ الّذي يتمسّك بالحقّ يقولون عنه إنّه أصوليّ، وعنيد، وغير واقعيّ، وغير رعائيّ… ولكن، يوحنّا مات من أجل الحقّ. لهذا السّبب، صار أعظم مواليد النّساء. هذا السّؤال الأوّل.
السّؤال الثّاني: لماذا صار هيرودس قاتلاً، لماذا صار مجرمًا؟! هيرودس كانت يمتلك فرصة لأن يتقدّس. وكلّ الدّلائل تشير إلى أنّ يوحنّا كان يؤثّر فيه تأثيرًا ليس بقليل. طبعًا، هو كان يعرف أنّه ارتكب خطأ، لكنّه كان متمسّكًا به. وفي آن معًا، إذ كان يسمع يوحنّا يقول له: “لا يحلّ لك أن تكون لك امرأة أخيك”، كان يرتعد! هيرودس كان يخاف من يوحنّا، لعلمه أنّه رجل بارّ وقدّيس. ولاحظوا ما يقول عنه النّصّ: “ويحافظ عليه”! هيرودس كان يحافظ على يوحنّا! هذه المخافة الّتي يتكلّم عليها النّصّ هي المخافة الّتي يزرعها الله في قلوب النّاس الّذين يكونون مستعدّين لأن يسمعوا كلمة الحقّ. كلّ إنسان يمتلك إحساسًا بالحقّ هو إنسان يخاف الله. الإنسان الّذي مات إحساسه بالحقّ هو إنسان لا يخاف الله. هيرودس كان يعرف أنّ يوحنّا رجل بارّ. والبارّ هو الّذي أرضى الله، وتمّم مشيئة الله، وحفظ وصايا الله، وهو قدّيس أيضًا! قدّيس من القدّوس! أي إنّ القداسة تعني أن يكون الإنسان مفرزًا لله. “وكان يحافظ عليه، وكان [أي هيرودس] يصنع أمورًا كثيرة على حسب ما سمع منه، وكان يسمع منه بانبساط”. هذا يعني أنّه كان قد بدأ يسمع منه ويطيعه: “وكان يسمع منه بانبساط”، بفرح! إذًا، هيرودس كان في طريقه إلى التّوبة! ولو استمرّ على هذه الوتيرة، لكان قد شُفي وتخلّى عن هيروديّا، وسلك وفق الشّريعة. ولكن، ماذا حدث؟! – “لمّا كان يوم موافق”: موافق لماذا ولمَن؟! – موافق للشّيطان! “لمّا كان يوم موافق”، أي إنّ الشّيطان ينتظر، دائمًا، ساعة الصّفر ليوجّه ضربته إلى النّاس. كلّ واحد يريد أن يسلك في الأمانة والاستقامة يحاول الشّيطان أن يوقعه في وقت موافق. بالنّسبة إلى هيرودس، هذا اليوم كان يومًا موافقًا. ماذا جرى فيه؟! – “صنع هيرودس في مولده عشاء لعظمائه وقوّاد الألوف وأعيان الجليل، ودخلت ابنة هيروديّا ورقصت، فأعجبت هيرودس والمتّكئين… اطلبي منّي ما أردتِ، فأعطيك”. حلف لها! “فخرجت وسألت أمّها: ماذا أطلب؟ فقالت: رأس يوحنّا المعمدان. وللوقت، دخلت على الملك بسرعة، وطلبت قائلة: أعطني فورًا رأس يوحنّا المعمدان في طبق؛ فاستحوذ على الملك حزن شديد”. هذا يعني أنّ الملك لم يكن راضيًا، إطلاقًا، عن التّخلّي عن يوحنّا. ولكن، أين الفخّ الّذي أوقعه فيه الشّيطان؟! – “لكنّه من أجل اليمين والمتّكئين معه لم يُرِد أن يصدّها”. ما معنى هذا الكلام؟! – هذا الكلام يعني أنّ هيرودس خضع للتّجربة بسبب المجد الباطل، بسبب الكرامة الشّخصيّة؛ “فأمر أن يُقطَع رأس يوحنّا ويُؤتى به في طبق”؛ فصار، إذ ذاك، مجرمًا. بكلام آخر، مشكلة هيرودس الأساسيّة لم تكن أنّه كان إنسان شهوات واشتهى امرأة أخيه، مع العلم أنّ هذه معيبة ومخالفة للشّريعة. مشكلته الأساسيّة كانت كرامته. الشّيطان لم يتمكّن من اصطياده بشهوة جسده، لأنّه كان في طريقه إلى أن يُشفى، لكنّه تمكّن من اصطياده بالمجد الباطل. إذا وضعنا مكان المجد الباطل التّواضع، فالإنسان، إذ ذاك، يُشفى مهما كانت خطاياه، ومهما كانت شهوات نفسه وجسده مستحوذة عليه.
إذًا، على الإنسان أن ينتبه كثيرًا حتّى لا يملك عليه روح المجد الباطل، وحتّى لا تكون كرامته هي المُسيِّر في حياته. كرامة الإنسان ينبغي أن تكون من سلوكه في الوصيّة، لا في خلاف الوصيّة؛ من سلوكه في الحقّ، لا في خلاف الحقّ. ولكن، عندما يطلب الإنسان كرامة نفسه في الباطل، فإنّه يقطع نفسه، بصورة كاملة، عن الله، لأنّه يكون قد سقط، فعليًّا، في عبادة ذاته، وعبادة الذّات هي أخطر الخطايا، وأمّ كلّ الخطايا. من المهمّ جدًّا أن يسمع المرء الكلمةَ، وأن يقول عن الحقّ إنّه حقّ، وعن الباطل إنّه باطل، وأن يكون مستعدًّا لأن يقول إنّه أخطأ عندما يكون ما فعله مخالفًا للحقّ، مهما كان. كرامته غير مهمّة. كرامته تكون في أن يعترف بأنّه أخطأ عندما يكون قد أخطأ. إذ ذاك، يحصّل كرامة عند الله، وعند النّاس الّذين عندهم الله. أمّا الإنسان الّذي ليس له الله، بل روح إبليس هو الفاعل فيه، فهذا يطلب كرامة بمعنى عبادة الذّات. ومثلُ هذا الإنسان ينتهي به الأمر إلى أن يكون مجرمًا بحقّ الحقّ. إذًا، علينا أن نحذر دائمًا لكي نسلك بتواضع القلب. أجمل ما يحقّقه الإنسان، في حياته، هو أن يصل إلى وقت يكون فيه مستعدًّا لأن يقول: “أخطأت، سامحوني”. الرّبّ لا يريد أكثر من ذلك. في الأنبياء: في أرمياء وأشعياء وسواهما، كان الرّبّ يطلب من إسرائيل أن تقول فقط إنّها أخطأت. وكان مستعدًّا لأن يبيّض ثوبها، ويغفر لها خطاياها. الرّبّ الإله يعرف أنّ الإنسان واقع في جبّ لا يستطيع أن يخرج منه وحده. كلّ واحد منّا يحتاج إلى الله ليعينه، والرّبّ الإله هو المعين. المهمّ أن نقول كما قال الابن الشّاطر: “أخطأت إلى السّماء وأمامك، ولست مستحقًّا بعد أن أُدعى لك ابنًَا”. عندها، يأخذه في الأحضان، ويلبسه الخاتم، ويضع في رجليه حذاء، أي يحوّله من عبد إلى ابن، لأنّ العبيد كانوا حفاة في الماضي. أمّا الّذي يلبس، فهو السّيّد، وهو الابن. الرّبّ الإله يريدنا جميعًا أن نكون أبناءه، ونحن نصير أبناءه بتواضع القلب، وبطلب الرّحمة من الله. بهذا نعرف الميلاد والظهور الإلهيّ وجوديّاً.
عظة في السّبت 29 آب 2009، حول مرقس 6: 14- 30