تعاليم فصحية
القديس ثيوذوروس الستوديتي
نقلها إلى العربية الأب إفرام كرياكوس
الآلام
أيها الآباء والأخوة، إن آلام ربنا يسوع المسيح لها من القوة ما يولّد دائماً تخشعاً في النفس، خاصةً عندما يتأمّلها الإنسان على حدة واحدةً واحدة، في هذه الأيام التي تحققت فيها: المشورة للتسليم، القبض عليه من قبل اليهود، المحاكمة أمام بيلاطس، الاتهام، الضرب، البصاق، التعيير، الهزء، الصلب، المسامير في الرجلين واليدين، مذاق الخل، طعن الجنب وأشياء أخرى لا يستطيع أن يصفها أيّ لسان بشري باستحقاق، بل وأيضاً ألسنة الملائكة كلّها معاً.
يا لها من أسرار كبيرة تثير العجب! لقد رأتها الشمس فانطفأت، رآها القمر فأظلم ولم يعد يعطي نوره، شعرت بها الأرض فارتعدت، شعرت بها الصخور فتفطّرت. لقد ارتعدت الخليقة كلّها من أجل الإهانات ضد السيّد. إن كانت عناصر الطبيعة غير المتنفّسة وغير العاقلة قد تزعزعت خوفاً من الرب ومن رؤية الأحداث وتغيّر شكلها، فكم بالأحرى نحن المكرَّمين بالمنطق والعقل، الذين مات من أجلهم المسيح، هل نبقى بدون تخشع، بدون دموع في هذه الأيام؟ كيف لا نُعتبر أجهل من المخلوقات غير العاقلة وأقل إحساساً من الحجارة؟
لا يا أخوتي، لا! بل ليكن لنا شعور بالتخشّع اللائق، لنسكب دموعاً، لنتحوّل التحوّل الحسن ولنُمت أهواءنا.
المحبة الإلهية
ترى مَن حُبس من أجل أصدقائه؟ ترى مَن قد ذُبح من أجل أحبائه؟ ومع ذلك فإن إلهنا الصالح قد كابد لا واحداً أو اثنين من الآلام، بل عدداً كبيراً من أجل المحكوم عليهم. ولمّا لم يكن لدى القديسين ما يقدمونه بدلاً عن هذه المحبة، فقد قدموا أجسادهم ودماءهم نسكاً واستشهاداً مرتلين مع داود النبي: “بماذا نكافىء الرب عن كل ما أعطانا؟” (مز115: 3). لنردّد هذه الآية باستمرار أيها الأخوة عاملين للرب بعزم محبة لا يفتر. ولنسرع باستمرار إلى ما هو أعلى حتى نصبح شهداء للمسيح وللقديسين.
مجيء الفصح
ومع ذلك فقد أدركتنا القيامة المقدسة. لننتبه كثيراً حتى نعيّد العيد ببهجة وبلياقة إلهية – لأن الفصح هو الهبة الأولى والأعظم من بين هبات التدبير الإلهي – أما الجسد فلنلجمْه عن طريق التقوى حتى إذا غيّرنا الأطعمة لا نغيّر مع ذلك حالتنا الروحية. تفرح النفس لمجيء الفصح لأنها تستريح من أتعابها الكثيرة. لكن لماذا ننتظر بلهفة مجيء الفصح؟ فهو يأتي ويعبر. ألم نعيّد له منذ سنين؟ ألم يأتِ ويعبر كما قلت. لا يوجد شيء دائم في دهرنا الحاضر. الأيام تمضي كالخيال وحياتنا تركض كالخيل السريع الجريان لكي تقودنا إلى نهاية الحياة الحاضرة.
الفصح المستمر
ماذا إذاً يقول المرء: يجب علينا أن لا نرغب بمجيء الفصح؟ كيف ولا نشتهيه كثيراً؟ نعم ذلك الفصح الذي يتم كلّ يوم. وما هو ذلك؟ أعني تطهير خطايانا، انسحاق قلبنا، دموع التخشّع الضمير النقي، إماتة الأعضاء الأرضية، الزنى والنجاسة والهوى والرغبة الرديئة وكل شرّ آخر.
كل من استحقّ أن يصل إلى هناك، لا مرّة واحدة بل كلّ يوم، ذاك يعيّد الفصح باستمرار، فصح الرب يسوع المسيح. وكلّ من ليس عنده الهبات المذكورة، بل هو عبد للأهواء لا يستطيع أن يعيّد. كيف يعيّد من أَلَّه بطنَه؟ كيف يعيّد من يلتهب بشهوة الجسد؟ كيف يعيّد من هو غارق في محبة المال؟ كيف يعيّد من هو عبدٌ للمجد الباطل، وكل هوى آخر؟
نحن نؤمن أن لكم أيها الإخوة كل ما هو خير للخلاص. طالما أن حياتنا هذه ليست سوى مقدّمة للعيد: الترتيل يواصل الترتيل، القراءة تتلو القراءة، والدرس الدرسَ، والصلاة الصلاةَ كل ذلك شبيه بدائرة لولبية تقودنا إلى الله وتتحِدُنا به.
كم هو لذيذ وفائق اللذة عيشنا الرهباني! كم هي مطوّبة ومثلّثة الطوبى حياتنا هذه! لنسرعْ إذاً أيها الأخوة إلى الفصح، إلى العيد، كل مرّة أفضل من المرة السابقة من أجل إماتة الأهواء وقيامة الفضائل تشبّهاً بالرب الذي “تألّم لأجلنا تاركاً لنا مثالاً لكي تتبعوا خطواته” (1بطرس 2: 21).
زينة القيامة: الفضائل
مع القيامة تخلع الخليقة عنها الوشاح الشتوي كمثل ميت وتتجدّد وتحيا من جديد. وها نحن نرى الأرض مخضرّة، البحر هادئاً، الحيوانات تتهلّل، كل شيء يتحوّل إلى الأفضل. لم أقل كلّ ذلك عن طريق الصدفة. أريد أن أؤكد على أن الأشياء غير المتنّفسة، غير العاقلة تحتفل معاً تتجمّل مع القيامة الحاملة البهاء الفائق.
كم بالأحرى نحن الذين أُكرمنا بالعقل على صورة الله؟ علينا أن نزيّن أنفسنا ونفوح رائحة طيب روحيّة زكيّة؟ في الحقيقة، رائحة المسيح الزكية هي في ذاك الذي يتزيّن بالفضائل. يؤكد الرسول بولس على ذلك بقوله: “لأننا رائحة المسيح الزكيّة لله” (2كور 2: 15). لنضف أن آدم قبل المعصية كان رائحة زكية لله مزيناً بعدم الموت وبعدم الفساد مأخوذاً بالتأملات السماوية. لذلك مثل وردة كثيرة الشذى وكثيرة الزهور كان يقطن الفردوس. لنتزيّن نحن أيضاً أيها الإخوة بالعطر الروحي الذي يجعل كلّ واحد يعطّر نفسه بمجمل الفضائل، بمثابة طيب ذكي نادر. هذا الطيب مبارك هو. هذا الطيب مرضيّ لله يجلب لنا الملائكة ويبعد عنا الشياطين.
التعييد الروحي المستمرّ
وعندما يمضي الفصح وينتهي العيد لا نعتقدنّ أنّ الفرح قد مضى ومعه الاحتفال لأنه باستطاعتنا أن نفرح باستمرار وأن نعيد كل يوم روحياً. كيف يكون ذلك؟ إن كان عندنا على الدوام ذكر آلام مخلّصنا يسوع المسيح، أي أن ربّ المجد قد صُلب من أجلنا ونزل إلى القبر ومات في اليوم الثالث مقيماً إيانا بحيث نقول مع الرسول: “فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ. فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان إيمان ابن الله الذي أحبّني وأسلم نفسه لأجلي” (غلا 2: 20). هذا هو معنى السرّ بالنسبة إلينا: أن نموت بالنسبة للعالم وأن نعيش فقط لله. ينبغي لنا بعد الفصح أن نتيقّظ ونصحو، أن نصلّي، ونتخشّع، أن ندمّع ونستنير، أن نموت كل يوم إرادياً، أن نخرج من الجسد، أن نخرج إلى الرب مميتين اهتماماتنا الجسدانية.
لا تقلْ أبداً لم يعدْ اليوم الصوم الكبير. إنه قد مضى. كل وقت هو صوم كبير بالنسبة للمجاهد. لا تقلْ: لقد عشتُ سنين طوال في النسك لأسترحْ قليلاً. لا مكان هنا للراحة. لا تقلْ شختُ في الفضيلة ولا أخاف. الخوف من السقوط دائمٌ. كثيرون قد شاخوا في الفضيلة فهدمهم الشيطان بلحظة واحدة وأسقطهم إلى عمق الخطيئة. “ومن يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط” (1 كور 10: 12).
الجهاد الروحي المستمرّ بعد الصوم الأربعيني
لذلك نحتاج إلى انتباه وقياس في النوم وفي الطعام والشراب وفي كل شيء آخر حتى نلجم الجسد ولا نسقط – مثل الحمار الوحشي الذي فلت من قيده – في عمق الخطيئة. إن سقطنا وقتاً ما من جراء عدم انتباهنا فلنتطلّع للحال إلى يسوع المصلوب وربّ المجد، للحال تشفى نفوسنا. هذا لأن الإسرائيليين وقتاً ما عندما كانت الحيات السامة تلدعهم كانوا يتطلعون إلى الحية النحاسية ويشفون. ألا تعلمون أنّ الأفكار الشريرة تلدع كالحيات ساكبة سماً داخل النفس وعلينا أن نقذفه خارجاً حتى لا نتعرّض لخطر الموت. ألا تعلمون من جهة ثانية أن الربيع يولّد في النفس دماً وشهوةً في الإنسان “لأن الجسد يشتهي ضدّ الروح والروح ضدّ الجسد” (غلا 5: 17).
وكل تقوية للجهة الأولى يولّد أضعافاً للجهة الأخرى. لذلك فلنحرص حتى لا يقوى الجسد على الروح. إن المسابق الذي يركض لا يغلب إن كان قد قطع حاجزاً أو اثنين بل إن كان قد قطع رابحاً الشوط كلّه. ونحن أيضاً لا يكفي أن نجاهد فقط خلال الصوم الأربعيني لأنه إن لم نقطع حياتنا كلّها في الجهاد الروحي لن نهرب من مكائد الشيطان ولن نحصل على جائزة الغلبة. لذلك أيها الأخوة لنتابع الجهاد الحسن ولنعرق من أجل الفضيلة ونقسُ على جسدنا ونلجمه لكي نقضي على أهوائنا: “حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع” (2 كور 4: 10).
الفصح الأبدي
إذا انتهى الفصح لا ينتهي ذكرُه بل ليكن أمامنا دائماً آلام ربنا الخلاصية، الدفن والقيامة حتى بذكرنا المتواصل لها نبقى غير مستعبدين من الأهواء. ومن جهة أخرى حياتنا كلّها تنظر إلى الفصح الأبدي لأنّه، وإن كان الفصح الحاضر عظيماً وجديراً بالوقار، كما يقول الآباء القديسون، يبقى رسماً لذلك الفصح الفصح الأبدي. الحاضر هو اليوم وهو يمضي أما ذلك فهو أبدي. “حين ينتفي كل وجع وحزن وتنهّد”. هناك فرح وابتهاج، تهلّل أبدي. هناك لحن المعيّدين ورقص المحتفلين ورؤية النور الأزلي. هناك مائدة المسيح المغبوطة مع غزارة الخيرات الأبدية. كل ذلك كان ينتظره القديسون محتملين الشدائد كمسرّات، الضيقات كتعزيات، الاستشهادات كتنعّم، النسك كتمتّع، الموت بمثابة الحياة. ونحن إذاً لنتطلع إلى الفصح الأبدي، لنصبر، أرجوكم أيها الأخوة، على الآلام الحاضرة بشجاعة، والسيد المحسن إلهنا لنخدمه حتى النهاية. وهو يؤهلنا أن نتمتع بذلك الفصح الأبدي السماوي الذي نرجو أن تتمتعوا به كلكم بنعمة ربنا يسوع المسيح ومحبته للبشر، الذي كابد الصلب والدفن وقام، الذي يليق له المجد العزة مع الآب والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين. آمين.