اللاهوت الليتورجي
المتقدّم في الكهنة جورج ميتالينوس
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
الإيمان، ليس كإيديولوجيا كَنَسية وكإخلاص فردي للمسيح المخلّص وحسب بل كتعليم أيضاً، هو شرط مسبَق أساسي وغير قابل لأن تُنتَهَك حرمته في العبادة الكنسية. إنّه القوّة المحفّزة للمؤمنين المتعبّدين، يُعَبَّر عنه بأعمال خارجية وحركات تشكّل طقسها. العبادة تجسّد الإيمان وتحوّله إلى حدث جماعي، فيما تحفظه في الوقت نفسه وتزيده، وبهذا تساعد الإنسان على الولوج إلى عمقه أكثر.
تتمحور العبادة الأرثوذكسية حول الثالوث في مواضيعها وبنيتها. قوتها ورجاؤها ينبعان من إلهها الثالوثي إذ ترفع الكنيسة ليتورجيّاً “المجد للآب والابن والروح القدس”. الإفخارستيا (الأنافورا – الاستحالة) موجّهة إلى الله الآب. الابن أيضاً يتسلّم التقدمة لكونه من الجوهر نفسه وعلى العرش مع الآب، وهو المحور الأساسي لهذه التقدمة. إنّه “المقدِّم والمقدَّم والقابل” خلال القداس الإلهي. العبادة الإفخارستية هي استمرار عمل المسيح الفدائي، وهي تدخِل في شركة سر التدبير الإلهي. المسيح هو “المقدِّس” الذي يجمعنا في جسده والمؤمنون هم “المقدَّسون” الذين يشتركون في عبادته ويتلقّون مجده. الذين يتناولون عن استحقاق (2كورنثوس 16:3) يثبتون أنّهم هيكل للمسيح، وأن سرّ الإيمان يعمل في قلوبهم.
لكن العبادة الكنسية تتمحور حول الروح لأن الروح القدس حاضر أيضاً خلال العبادة، كما كانت الضبابة المنيرة حاضرة عندما ظللت التلاميذ وكل الجبل حين التجلّي الإلهي (متى 5:17). العبادة الأرثوذكسية الحقيقية هي صلاة الروح القدس التي تنشّط القوة داخل قلب المؤمنين، كما هي حالة القديسين، الذين هم المتعبّدون الحقيقيون لله لكونهم يشتركون في العبادة السماوية. العبادة بكليّتها هي عمل الروح القدس، الذي “يجمع كلّ أساسات الكنيسة”. لهذا، صلاة “أيها الملك السماوي، المعزّي، روح الحق…” هي الصلاة التي تدخلنا إلى كل الخدم.
تتمّ في العبادة الإلهية “الشركة مع الروح القدس”. كلّ شيء يقع تحت سلطة المعزّي المقدِّسة. في لحظة قمّة السرّ، نستدعي الروح القدس “ليحلّ علينا” وعلى “القدسات المقدّمة” (الخبز والخمر)، كما على “كل الشعب”، ولينجز التقدمة الروحية، بتحويل التقدمات إلى جسد المسيح ودمه واتحاد كلّ المشتركين فيها في جسد واحد.
تبرز عبادة الكنيسة بسبب “تقليديتها”. إنّها الحامل الأكثر ديناميكية للتقليد. التقليد في الكنيسة هو تخليد طريقة الوجود المسيحي. إنّه الحياة في الروح القدس، الذي يمكن أن يقود إلى هدف الكنيسة الحقيقي: تألّه الإنسان وتقديس الخليقة. يثبت المؤمن الحقيقي في هذه المكوّنات التي تشكّل الموقف الكنسي الأصيل. هذا هو موضوع الإيمان بشكل أساسي: أن يبقى الإنسان مخلِصاً وثابتاً من جهة إرادة الله وتقليد القديسين. إن معيار أصالة العبادة الكنسية هو درجة “تقليديتها”. هذا يساهم أيضاً في وحدة الكنائس المحلية، الكائنة في العصر نفسه أو عبر الزمن.
تزوّد النصوص الليتورجية اللاهوت الليتورجي الذي يشكّل تعبيراً أصلياً عن العقيدة الكنسية. لهذا السبب تصير العبادة “مدرسة للتقوى” تعلِّم الإيمان مدعومة بمواد الفن، خاصة الإيقونات – كتاب الكنيسة الأكثر بلاغة، بحسب قول القديس يوحنا الدمشقي. العبادة الأرثوذكسية عبر الأجيال صقلت عقلية المؤمنين، ما يمكن رؤيته عند الكثيرين من الشخصيات… حيث يظهر أن ارتباط الإنسان بالعبادة هو دليل على سلوكه الكنسي.
إذاً من المنطقي الكلام عن عبادة أرثوذكسية وأخرى غير أرثوذكسية، لأن العنصر الأرثوذكسي المتضمَّن في العبادة ليس مؤلَّفاً من بنى مجهولة الهوية، بل الإيمان هو ما يتجسّد في هذه البنى. منذ العصور القديمة، ارتبط اعتراف الإنسان بإيمانه بالعبادة بشكل مباشر. تبقى العبادة خطبة الحق عبر العصور بشخصنتها للقديسين واستذكارها الأحداث الخلاصية في العهدين القديم والجديد. مع هذا، لكونها خطبة الإيمان، تساهم العبادة الكنسية أيضاً في دفاعها عن ذاتها، بضحدها المغالطات الهرطوقية. إنّه لأمر معروف أن التعبير عن اللاهوت الكنائساني تكوّن كردّ على الاستفزازات الهرطوقية. هذا الأمر تثبته الأعياد والخدم الخاصّة بالآباء القديسين والمجامع المسكونية. يتزوّد المؤمن من خدمتي الغروب والسحر بلاهوت كلٍ من الأعياد، كما من مستودع لاهوتي، وبها يصير المؤمن المواظب على الصلوات لاهوتياً في الكنيسة، بغض النظر عن نواياه وأهدافه.