هل لفرويد مكان في التقليد الأرثوذكسي؟
الأب أنطوان ملكي
عن النشرة البطريركية، العدد الثالث، السنة العشرون 2011
مدخل
التقليد الأرثوذكسي هو منظومة حيّة من الأشخاص والأطر، يتفاعل مع العصور فيتأثّر ويؤثّر. من هنا وجود هذا التنوّع في الآراء والتعاليم حول العديد من الشؤون طالما أنها تبقى ضمن أطر التقليد ولا تخرج عنه مكتفية بمحاكاة العصر. من مساوئ هذا الواقع أنّه يجعل الكنيسة الأرثوذكسية اليوم تفتقد إلى وحدة التعليم والموقف الرسمي من بعض القضايا التي حملها القرنان الماضيان كشؤون البيئة، أخلاقيات العلوم والطب، والمدارس الفلسفية والعلمية المختلفة، والبدع.
في هذا الإطار تأتي هذه الدراسة حول فرويد. فهو العبقري الذي يرى الكثيرون أنّه وَسَم القرن العشرين من خلال مدرسة التحليل النفسي التي أوجدها، وكان له تأثير أكثر عمقاً وديمومة من تأثير “أينشتاين وهتلر ولينين وروزفلت وبيكاسو وآليوت والبيتلز وبوب ديلان”، وأنّه “غيّر المفردات التي بها نفهم نفسنا والآخرين” (Kihlstrom, 2003). وبسبب تفاوت المواقف عالمياً من هذا الشخص ومدرسته، كان من الضروري التطرّق إلى فكره وتعليمه لاستكشاف مدى ملائمته مع تقليد كنيستنا.
بدايةً يعرض هذا البحث سيرة فرويد كما كتبها صديقه أرنست جونز (Jones, 1953-1957). من ثمّ يتوقّف عند عدد من مواقف العلماء المعاصرين والجامعات، يتبعها عرض لأغلب مواقف الأرثوذكسيين من هذا الرجل وتعليمه، والخاتمة هي تلخيص هذه المواقف التي تظهر عدم ملائمة فرويد مع التقليد الأرثوذكسي.
قراءة في سيرة فرويد وآرائه
يروي جونز أنّ صديقه تأثر بداروين وفويرباخ الذي قال أن الله هو اختراع الناس، وأنّ الملكوت هو وسيلة لتحقيق رغباتهم. كما يظهر من السيرة التي كتبها أنّه اهتمّ كثيراً بالسحر وغيره من الظواهر الغامضة. فقد كان يخصص مساء السبت للعب التاروك، وهي لعبة ورق مرتبطة بالكابالا [1] (Drob, 1989). كما أنّه عُرِف بتعاطيه المخدرات.
كان لدى فرويد كراهية ثابتة للدين عبّر عنها بشكل واضح. فالدين بالنسبة له هو نفسانيات الإنسان خارجياً، أي في العالم، كما أنّه اعتبر أنّ هناك تشابهاً بين السلوك العصابي والطقوس الدينية. من هنا مثلاً، اعتبر الشوق إلى الأب جذرَ كلّ أشكال التديّن وهذا ما يؤدّي بشكل لا مفرّ منه إلى عقدة أوديبوس والشعور بالخوف والذنب.
يظهر موقفه من المسيحية واضحاً جداً في كتابه “الطوطم والمحرمات” [2] الذي كتبه في 1913. وفقا لهذا العمل، قد أنشأت المجتمعات البدائية محرّمات معينة بما في ذلك الحظر لمنع العلاقات الجنسية بين أفراد العشيرة. يرتكز في تظرية الطوطم على قصة مفادها أن إخوة اجتمعوا وقتلوا اباهم المتسلّط الذي كان يمنعهم عن النساء. من ثمّ أحسّوا بالذنب فاتفقوا على عدم قتل الطوطم، وهو حيوان اتّخذوه رمزاً إلى والدهم. من هنا يبدأ لدى فرويد التناقض الضمني في عقدة أوديبوس. ويستنتج أنّ عقيدة الكفارة المسيحية تمثّل اعترافاً بالذنب البدائي، فيما تضحية المسيح تقود إلى المصالحة مع الأب. وعليه، الجريمة التي ينبغي التكفير عنها هي قتل الأب. كما يرى أنّ القداس هو إعادة إحياء الوجبة الطوطمية القديمة. وما يثير الاهتمام هنا هو أنّ كل هذا التفسير لا يستند إلى أي دليل، أو اختبار علمي كما هو شأن النظريات العلمية والطبية تحديداً. في المقابل، يرى جونز أنّ ما عاشه فرويد في طفولته، من حيث أنّ أخاه من غير أمّه كان بعمر أمّه، وأنّ أباه مات وهو في سن الطفولة، سهّلا عليه تبنّي نظرية عقدة أوديبوس.
أمّا كتابه “موسى والإيمان بالله الواحد” [3] فهو عمل مميّز من الخيال. فموسى كان مصرياً آمن بعبادة إله الشمس. رفضه المصريون فاختار اليهود شعباً له. تركوا مصر لكن الشعب لم يحتمل هذا الدين الروحاني فقتل موسى. بعد بعض الأجيال دخل اليهود في عبادة يهوه الذي كان إلهاً شيطانياً متعطّشاً إلى الدم. عندها ظهر موسى جديد من اليهود، وحلّ محل موسى المصري، وأعطي الفضل في تحرير الشعب من مصر إلى يهوه. ولإظهار أن يهوه كان دائماً مع شعبه تمّ اختراع أساطير إبراهيم وإسحق ويعقوب. أمّا الشوق إلى مسيح ما فيعود إلى الشعور بالندم على قتل موسى المصري.
في 1927 كتب “مستقبل وهم” [4] حيث كان السؤال الأساسي: أيمكن التخلّي يوماً عن أوهام المعتقدات الدينية؟ جواب فرويد هو أنّ المعتقدات الدينية تقوم على الشهوات التي لا يمكن التغلّب عليها والتي تكمن في ماضي الإنسان الطفولي حين كان يطلب الحماية من الأب والأم. لاحقاً، خوف الإنسان من الموت يعيد إليه القلق والتوق إلى أن يحبه الأب. هذا المصدر غير العقلاني للدين يعطيه رائحة القداسة مع أنه قد أثبت أنّه غير مساعد لأغلبية الناس. كما رأى فرويد أن تقديم الدين للأولاد قبل عمر العقل يقود إلى حظر الفكر والسيطرة العصبية على الحوافز من خلال الكبت. “الدين صبياني بشكل جليّ، وغريب جداً عن الحقيقة. من المؤلم الاعتقاد بأنّ الأغلبية الساحقة من الناس ليسوا قادرين على الارتفاع فوق هذه النظرة إلى الحياة”.
بعض الملاحظات حول السيرة
بدايةً، لا بدّ من التساؤل حول مصادر معلومات، أو بالأحرى آراء، فرويد وخاصةً التاريخية منها. كما لا بدّ من ملاحظة تلاقي أقواله مع الكثير مما يُنشَر اليوم في أدب العصر الجديد (New Age) والشيع التي تطاول المسيحية. يرى عدد من الباحثين وجود شبه كبير بين التحليل النفسي والكابالا، حيث التركيز على عناصر التذكير والتأنيث مع الولع بالأرقام واكتشاف الرموز. أكثر ما يظهر هذا الشبه في كتاب “الزوهار” الكابالي الذي يستفيض بالكلام عن الازدواجية الجنسية ونبضات الطفولة الحاقدة وتفسير الأحلام. ومن المثير للاهتمام تصريح نُقِل عن فرويد، بحسب سيرته، أنّه إذا عاد إلى الحياة فسوف “يكرّس نفسه للبحث العقلي وليس للتحليل النفسي” (Thevathasan).
شأن كلّ المدارس الفكرية، ينبغي التوقف عند نتائجها قبل الاكتفاء بالحكم عليها بمعزل عن ثمارها. بعض أتباع الفرويدية طوروا مواقفه من الدين حيث نجد اختزالاً ثابتاً للتقليد المقدّس إلى دوافع جنسية وعدائية. فبالنسبة للودفيغ لافي، قصة التكوين هي ضد الجنس بشكل متعمّد حتّى يتحرر الدين من طقوس الإخصاب والتقاليد الوثنية. أمّا بالنسبة لثيودور رايك (Reik, 1962)، فقصة الفردوس تتألّف من موت يهوه، الإله الشجرة، ويحلّ الطوطم مكان الأب المقتول، كما أنّ قايين لم يقتل هابيل بل بالحقيقة مارس سفاح القربى مع أمه وقتل أباه.
مواقف العلماء اليوم
فيما لا يناقش أحد عبقرية فرويد، يتزايد عدد العلماء الذين لا يرون فيه عالِماً ولا في نظريته علماً، كما يرتفع عدد الجامعات التي أسقطته من مناهجها.
أغلب الأنكلوساكسونيين لا يعتبرون فرويد عالِماً بالمطلق لأن طرقه ليست تجريبية ولا كميّة بشكل موضوعي. أغلب أفكاره في علم النفس لم يثبتها البحث التجريبي، كمثل عقدة أوديبوس، حتّى أنّ بعض علماء النفس الحديثين يرون أنّ كل أفكاره خاطئة، أو في أفضل الأحوال ليس لها التأثير الذي يراه فرويد على النفس البشرية (Hoffman, 1994).
يرى C.S. Lewis أنّ مفهوم فرويد عن الكبت (repression) بحاجة إلى تصحيح إذ لا يجوز المزج بين الكبت والقمع (suppression). فالرغبة المقموعة، بحسب علم النفس، تشكّل خطراً، من حيث أنّ القمع يأتي بمعنى المقاومة أو الإنكار. ويذكر لويس أنّه “عندما ينخرط المراهق أو البالغ في مقاومة رغبة واعية، لا يتعامل مع كبت ولا هو في خطر خلق كبت. على العكس، الذين يسعون جدياً لبلوغ العفّة، يزدادون وعياً ويتعرفون بشكل سريع على جنسانيتهم…” (Armand, 2003).
وفي الإطار نفسه، نشرت شبكة ABC في أيلول 2010، بحثاً يذكر خلاله الدكتور غرانت دافيلي، من وحدة أبحاث الصحة النفسية في جامعة غريفيث، أنّ نظرية الذكريات المكبوتة قد تمّ إثبات عدم صلاحيتها. ويرد في التقرير نفسه مذكرة قدّمها البروفسور ريتشارد ماكنلّي من جامعة هارفرد إلى المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأميركية، يرِد فيها قوله أنّ نظرية الكبت هي الجزء الفولكلوري الأكثر خبثاً الذي أفسد علم النفس والطب النفسي. (Berkman, 2010)
من أهمّ الشهادات العلمية على موت فرويد، كنظرية وكتطبيق، الرأي الذي يذكره العالم النفسي جون كيلستروم (Kihlstrom, 2003)، في كتاب “Atkinson & Hilgard’s Introduction to Psychology”. هذا الكتاب يأتي في الدرجة 42 لدى Amazon.com على لائحة الكتب الأكثر مبيعاً في العالم، وهو عالمياً أحد أهم كتابين بالإنكليزية لتدريس مادة المدخل إلى علم النفس، ويُستعمل في ما يزيد عن المئة جامعة، ومن بينها جامعة البلمند. كيلستروم هو أستاذ في جامعة بيركلي وله تاريخ من الأبحاث وعضو في بعض أهم المجموعات العلمية التي تتعاطى دراسات علم النفس وعلم النفس المعرفي والصحة النفسية والعقلية. يذكر كيلستروم تحت عنوان “أما زال تأثير فرويد على علم النفس حيّاً؟ فرويد حِمْل ميت على علم النفس”: “إذا كان القرن العشرون هو القرن الأميركي فهو أيضاً قرن سيغموند فرويد… فيما كوبرنيكوس أظهر أن الأرض ليست مركز الكون، وداروين أظهر أن البشر أتوا من حيوانات <دون البشر>، ادّعى فرويد إظهار أنّ الخبرة البشرية والفكر البشري والعمل البشري، لا تحددها عقلانيتنا الواعية، بل ما يحددها هو قوى غير واعية خارج معرفتنا وسيطرتنا الواعية.. قوى لا نفهمها إلاّ بعملية علاجية شاملة يسمّيها هو التحليل النفسي… إن تأثير فرويد الحضاري يقوم، أقلّه ضمنياً، على افتراض أنّ نظريته قائمة علمياً. لكن من وجهة نظرٍ علمية، التحليل النفسي التقليدي الفرويدي مات، كنظرية عن الدماغ كما كطريقة للعلاج. لا يوجد أيّ أدلة تجريبية تدعم أيّاً من افتراضات هذه النظرية، كمثل أن التطور يتمّ عبر المراحل… أو أنّ الصبيان الصغار يشتهون أمهاتهم ويكرهون آباءهم ويخشونهم… تظهر الدراسات التاريخية أنّ تقديم فرويد لمواده كان مشوّهاً ومنحازاً بشكل منهجي، بسبب نظرياته حول الصراع اللاواعي والجنسانية الصبيانية، وأنّه أساء تفسير ما لديه من الأدلة العلمية كما أساء تقديمها… القول بأنّ المحرّكات اللاواعية تلعب دوراً في السلوك شيء، بينما القول بأنّ كلّ فكرة أو عمل يتحرّك بدوافع جنسية أو عدائية مكبوتة هو شيء آخر… في أفضل الأحوال، فرويد هو شخصية تاريخية في علم النفس، وأن يُدرَس ككاتب في دوائر اللغة والأدب، أفضل من أن يُدرَس كعالِم في دوائر علم النفس، حيث باستطاعة علماء النفس تدبر أمورهم من دونه.”
وفي الإطار نفسه، تخصص موسوعة الإنترنت للفلسفة فصلاً لفرويد، وفيه يستنتج الكاتب ستيفن ثورنتون أنّ نظرية فرويد ليست علمية، وأن هناك شكوك جديّة في ما إذا كانت نظريته تقدّم أيّ شروحات سببية أصيلة”.(Thornton, 2010).
من الناحية العلاجية، ظهر عدد من المدارس العلاجية في الطب النفسي والتي تناقض وتنتقد الفرويدية. من أهم هذه المدارس هي العلاج الإدراكي (cognitive therapy). أمّا الأرقام فتظهر فشل التحليل الفرويدي في العلاج، حيث أظهرت دراسة في 2002 أنّ بالرغم من أن عدد الحالات المسجّلة للعلاج النفسي في الولايات المتحدة الأميركية هي بالملايين، لم يتخطَّ عدد الحالات التي عاينها أعضاء جمعية التحليل النفسي الأميركية (American Psychoanalytic Association) الخمسة آلاف (Grossman & al., 2003).
فرويد والأرثوذكسية
بالإجمال لم يقبل الأرثوذكسيون فرويد. الأب جورج موريللي، هو دكتور في الطب النفسي العلاجي وصاحب براءة لطريقته العلاجية التي وضعها استناداً إلى آباء الكنيسة، تحديداً القديس مكسيموس المعترف، ويشغل اليوم رئاسة مركز الخدمة والإرشاد الرعائي في الأبرشية الأنطاكية في أميركا الشمالية، كما أنه منسّق جمعية الطب الأرثوذكسي. لا يستند الأب جورج موريللي إلى فرويد في أي من كتاباته، ولا يعترف به ولا بطريقته كعلم. الأب سارافيم روز، خصّص فصولاً طويلة لضحد فكر فرويد وتأثيره وطريقته التي لا يرى أنّها توصل إلى شفاء النفس البشرية. الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس، كاتب “الطب النفسي الأرثوذكسي”، يكرر في أكثر من مكان في كتبه التي تحكي عن علاج النوس والنفس، أنّ التحليل النفسي كطريقة علاجية فاشل.
الشيخ أبيفانيوس ثيودوروبولوس هو من أهمّ الرعاة الذين عرفتهم اليونان في النصف الثاني من القرن العشرين وقد خصص الكثير من تعليمه للكلام عن الأمراض النفسية وعلاجها والأدوية التي يستعملها الناس في هذا العلاج. سؤل الشيخ عمّا إذا كان ممكناً شفاء الإنسان من خلال التحليل النفسي، فأجاب: “إن التحليل النفسي يقوم على افتراض أن اضطرابات النفس هي نتيجة كبت النشاط الجنسي وغريزة الإنسان الجينية… فمع الأسئلة المناسبة والتنويم المغناطيسي، تتمّ مساعدة الإنسان الذي يعاني، لإخراج خبرات النفس القديمة السلبية من لاوعيه. وهناك يكتشف سببَ شعوره بالذنب الذي هو بالطبع مرتبط بعدم إشباع نشاطه الجنسي. ومع هذا، فإن زماننا، الذي هو للأسف منزوع اللجام بالكليّة، يثبِت بصوت عالٍ أن فرويد مخطئ في نظريته. فاليوم لا يوجد أيّ كبت للغريزة الجنسية، بل على العكس هناك تحرر كامل وإشباع مفتوح، ما يفترض وجوب تناقص الأمراض النفسية. لكن، ما يجري هو العكس تماماً: بحسب المعلومات الأخيرة، يرتفع عدد المصابين بالأمراض النفسية. إنّ التحليل النفسي هو مضيعة للوقت وهدر للمال… إلى اليوم لم يتوصل التحليل النفسي إلى إثبات قيمته الشفائية.” (Epiphanios, 2004)
تاتيانا غروريتشوفا هي فيلسوفة، كاتبة، ومبشّرة من ليننغراد ترى أنّ فرويد لم يفتح أيّ جديد في دراسة الإنسان. فقبله بمئات السنين، وصف كلّ آباء الكنيسة ما كتبه في أبحاثه. إن نصوص الفيلوكاليا تسبر داخلَ الإنسان الخاطئ بشكل أكثر عمقاً من التحليل النفسي. إنّ أطروحة فرويد الأساسية هي أنّ على الإنسان أن يجلب اللاوعي إلى الوعي. من هنا أنّ التحليل النفسي لا يستطيع أن يشفي الإنسان لأنّه هو في ورطة لكونه عاجزاً عن الإجابة على التحديات التي تجابه البشر المعاصرين. فالتحليل النفسي قد يريح الإنسان من بعض الشرور لكنه بالمقابل لا يعطيه أيّ نعمة، وغالباً ما يؤدّي إلى الانتحار لأنّ التبسيطية والفراغ في هذه الممارسة يجعلان من المستحيل احتمال المعاناة. (Goricheva, 2010)
الدكتور جان كلود لارشيه، وهو أستاذ جامعي في العلوم الإنسانية والأمراض النفسية والفلسفة وآباء الشرق، وهو صاحب خبرة سريرية في عدد من العيادات النفسية، وفوق كل هذا، هو لاهوتي كتب عدداً من الكتابات والدراسات المتميّزة. في مقابلة حول علاقة “الطب النفسي” والأنثروبولوجيا الأرثوذكسية، يرى: “في ما يختصّ بتحليل فرويد، هناك الكثير من عدم الانسجام مع الأنثروبولوجيا المسيحية. قبل كل شيء، لأن فرويد ينطلق من نظرة إلى إنسان ينكر الله والعلاقة معه، ومن جهة أخرى، لأنّ الإنسان عنده مادي بالكامل. وإلى هذا، فإنه يتطلّع إلى تحويل خصوصية الإنسان، وهو أمر معاكس للمفهوم المسيحي… على سبيل المثال، يرى فرويد أن بالأصل يوجد فئتان، أو نزعتان، أو وضعيتان هما الجنسي والعدواني. يؤمن فرويد أنّ كل الشواذات في حياة الإنسان يمكن تفسيرها من خلال هاتين الوضعيتين. حتّى الوضعيّات المثالية تأتي عنده من ضمنها. مثلاً، كل ما يظهره الإنسان في حياته الكنسية وتفكيره الفلسفي وإبداعه الفني… هي أشكال وتوجّهات للقوة الجنسية عند الإنسان، فيما نعرف بوضوح في الكنيسة الأرثوذكسية أن الجنسانية هي تعبير سلبي عن قوة، هي انحراف عن القوة الموجَّهة أصلاً نحو الله… بحسب فرويد، يوجد في الإنسان عدائية متأصّلة موجّهة نحو كل الآخرين؛ أمّا في المسيحية فالوجهة الصحيحة للعدائية هي في جهاد الإنسان ضد الشرّ، ضد الخطيئة، وإذا وُجّهَت هذه العدائية نحو الآخرين، تصير نوعاً من الانحراف وتكيّفاً شريراً. هنا عندنا بشكل طبيعي رؤية مضادة بالكامل. من جهة أخرى، يوجد في مفهوم فرويد مبدأ آخر متضارب تماماً مع المسيحية. إذ فيما الأنثروبولوجيا المسيحية تركّز على حرية الإنسان، أي على حقيقة امتلاكه القَدَر على تحديد المصير، وعليه امتلاك هذه الحرية بالتعاون مع نعمة الله لكي يتطوّر، نجد فرويد، من الجهة الأخرى، يؤمن بأنّ مصير الإنسان محدد مسبقاً في بنيته النفسية وحياته النفسانية منذ سني حياته الأولى وهو بالتالي خاضع لنزعات قد انغرست في لاوعيِه وبالتالي هو واقع في شرك ولا يستطيع تحرير ذاته بذاته… لا يمكن أن يساهم الطب النفسي في العلاجات الكنسية… بل الكنيسة هي القادرة على تقديم بعض الأشياء للطب النفسي الزمني… عندما ندرس سلّم القديس يوحنا السينائي، ونقرأ كتابات أفاغريوس البنطي، نجد تحليلاً لعمل النفس البشرية، وهو تحليل رائع ودقيق وعميق جداً. كما أنّه بإمكاننا الاستفادة بالكثير من هذه النصوص، ولكن للأسف، هذا التقليد الآبائي غالباً ما هو منسي… الاعتراف هو الفرق بين التحليل النفسي وما يجري في الكنيسة… الشخص الذي يخضع للتحليل النفسي، عليه أن يفهم في النهاية ذلك الوضع، من دون أن يُعطى الوسيلة لفهم ما وراءه، أو ما هو أفضل، عليه أن يتخطّى تلك الحالة بدل من أن يقبلها… لكن، في إطار الكنيسة، يتلقى إرشاد أبيه الروحي، أي التمييز، من جهة، ومن الجهة الأخرى يتلقّى نعمة الله… بالحقيقة، قد تنتهي بعض هذه التحاليل النفسية إلى خواتم مأساوية: انتحار أو تطور سلبي للحالة بدل المعافاة. إن هذه الفكرة بالضبط، أو هذه الحقيقة، أي استفادة الإنسان من معونة خارجية فعّالة، كما هي الحال في الكنيسة، مفقودة في العلاج النفسي.”
أمّا فلاديمير موس، وهو أرثوذكسي إنكليزي وأستاذ جامعي، فيتوقف عند واقع أنّ المسيحيين يتّفقون مع فرويد على أنّ القمع سيء للنفس، كما أنّ رفض مواجهة النفس بالحقيقة هو سيئ. من هنا، أنّ البعض يجد بعض أوجه الشبه بين التحليل النفسي وممارسة الاعتراف. فالتحليل النفسي يساعد الإنسان على نبش المخاوف المخبّأة، كما الاعتراف، لكن من دون الموافقة على الافتراضات المسبَقة عند فرويد التي تحلل الأمور بشكل لا يؤدّي إلى التوبة التي لا يعترف بها.(Moss, 2010).
الميتروبوليت هيلاريون ألفاييف في دراسة له عن آباء الكنيسة والعصرنة يورِد موقفاً رافضاً لفرويد والتحليل النفسي في قوله: “معرفة الآباء تساعد المسيحيين الأرثوذكسيين ألاّ يضيّعوا الطريق في خضمّ كثافة التيّارات في الفلسفة الحديثة… تساعدهم على فهم أنفسهم وإقامة علاقة صحيحة مع الله وبناء حياتهم الروحية. على عكس وصفات التعاليم الحديثة، كالتحليل النفسي مثلاً، نصائح الاباء تشعّ روح عافية لكونها تقوم على فهم سليم للفكر البشري وللحاجة إلى مقاومة الميول الخاطئة وممارسة الأعمال الصالحة. تعاليم الآباء أكثر شموليّة من مسلّمات الفرويديّة الأساسية وتنطبق على الناس القاطنين في أكثر الأطر تنوعاً من جهة الحضارة والزمان” (Alfeyev, 2001)
وفي بلادنا، المثلّث الرحمات الأرشمندريت الياس مرقص يرى أنّ “عيب الفرويدية الكبير هو أنها تسيّر بلا نهاية وهدات النفس بدون مساعدة نور آخر ومحبة أخرى… إنها تحكم على الإنسان عبر الجنس لا على الجنس عبر الإنسان، إنها بتحويلها الروح إلى الجنس تذلّ وتحقّر الروح بدون أن تفتدي الجنس وترفعه” (مرقص، 2003).
ندرة من الكتّاب الأرثوذكسيين وافقت فرويد وبعضهم تبنّاه وحاول تسخيره للتعليم في الكنيسة في محاولة لا بدّ من تقييمها علمياً على ضوء ما ورد في هذه الدراسة. من الذين وصلنا إليهم، ميخائيل درونوف الذي رأى أنّ ما يسمّيه فرويد باللاوعي هو صورة الخطيئة الجدية، ومع هذا فإن خطأ الإنسان في لاوعيه ينبغي أن يتبعه توبة في الوعي. بالطبع، الجزء الأول من هذا الكلام لا يتّفق مع نظرة الكنيسة التي لا تعترف بالخطيئة الجديّة بل بسقوط الطبيعة البشرية الذي يفترض إمكانية ارتكاب الخطايا وليس حتميتها. أمّا الجزء الثاني، أي وجوب أن تتبع التوبةُ الخطأ، فمقبول.
هل من مكان لفرويد في التقليد الكنسي؟
يمكن اختصار الأفكار الرئيسية التي يختلف فيها فرويد مع التقليد الأرثوذكسي بالتالي:
• انتماء الإنسان إلى العالم الحيواني: هذه الفكرة ورثها فرويد عن داروين وهي ضرب لإيمان الكنيسة القائم على خلق الإنسان على صورة الله ومثاله. ما من شيء في الكتاب المقدس أو الآباء يقول أنّ العالم الحيواني مخلوق على صورة الله ومثاله. على العكس، الخلق في الكتاب المقدّس يشير إلى أن العالم خُلِق ليملك الإنسان عليه. ومع أن الله أرسل ابنه الوحيد ليخلّص العالم، إنّما ابنه لم يتّخذ إلا الجسد البشري، ولم يصر إلا إنساناً. كلّ هذا إن دلّ على شيء، فهو على أنّ الإنسان وإن انتمى إلى العالم الحيواني بيولوجياً، إلا إنّه يملك عليه أنثروبولوجياً.
• إعادة كل تصرفات الإنسان إلى فترات سابقة من حياته أو إلى لاوعيه: في هذا المبدأ شيء من القدرية والحتمية النفسية. فكل عمل يقوم به الإنسان تحدده حوافز غير واعية، كأن يكون عمل الإحسان مثلاً رغبة دفينة في حب الظهور. وأن يكون الزنا نتيجة بعض الخبرات العائدة إلى عمر الطفولة وبالتالي الزاني مريض وليس آثماً. من هنا أن الذين يخضعون لعلاجات نفسية قد يُقال لهم أنّهم في لا وعيهم مثليون، أو قد يُنصَح الأزواج بترك نسائهم، وقد تُُنصَح النساء بإيجاد عشّاق لهن وغيره. وبالتأكيد هذا لا يتماشى مع التقليد.
• الموقف من الأخلاق: مع أنّ فرويد لم يتكلّم عن حرية الحب كما فعل بعض معاصريه، إلا إنّه تبنّى النظرة القائلة بوجوب إبراز محتوى اللاوعي من دون الحكم عليه على أساس أي نظرة أخلاقية. وكما يعبّر لويس عن الأمر: “ما يسعى التحليل النفسي إلى إتمامه هو التخلّص من المشاعر غير الطبيعية، أي منح الإنسان مواد أساسية أفضل لخياراته، بينما الأخلاق تهتمّ بالأعمال التي تنتج عن الخيارات”.
• الضمير: أيضاً، في المقاربة الفرويدية للأخلاق، نجد اختلافاً مع الأرثوذكسية حول موضوع الضمير، الذي يرى فيه فرويد “الأنا العليا” (super-ego) وأحد أشكال اللاعقلانية، فيما ترى الكنيسة أنّه “عين الله في نفس الإنسان” والإعلان الأكثر عقلانية لإرادة الله، وعلى هذا الأساس لا يمكن إهمال أحكامه أو رفضها بالمنطق، بل يجب قبولها كونها ذات شرعية موضوعية. ففي الاعتراف، يذكر المعترِف ما يتوافق هو والمعرِّف على اعتباره خطيئة، فيما التحليل النفسي لا يستعمل في لغته كلمة خطيئة ولا مفهومها ولا أي تعابير قد تحمل معنى الإدانة. فالخطأ الذي يحس به المعالَج هو أحد ظواهر المرض التي ينبغي التخلّص منها، وبالتالي لا مكان عند التحليل النفسي للتوبة. بينما في الاعتراف، فعملية سرد الخطايا هي جزء من كلٍّ قوامه النسك والصلاة والتوبة.
• غياب معيار الطبيعية: لا يقدّم فرويد نموذجاً للإنسان الطبيعي، بينما لدى الكنيسة نموذجاً مفصّلاً عن الإنسان الطبيعي وهو القديس. وعليه، ليس لدى فرويد أي سبب لاعتبار شعور ما بأنه حسن أو سيء، طبيعي أو غير طبيعي، طالما أن وجوده لا يتضارب مع أي من العمليات النفسية الأخرى. وعليه يكون المقياس في التحليل النفسي هو الشخص نفسه، بكل خطاياه وأوجه قصوره، ويكون بالتالي بلوغه إلى الهدوء هو الهدف، حتى ولو كان على حساب النزاعات مع ضميره. وكما يعبّر الأسقف الروسي غريغوري غراب: “في التحليل النفسي يحاولون أن يتخطّوا كل النزاعات ويمحوها عن طريق تنويم الضمير ومصالحة الإنسان مع الخطيئة التي تحيا في داخله”. المصالحة مع الخطيئة لا تترك أي مكان للكلام عن التوبة. (Moss, 2010)
• يظهر عدم توافق الفرويدية مع الأرثوذكسية بجلاء عند قراءة افتراضات فرويد الفلسفية. ففرويد يؤمن أن نفس الإنسان تنعكس في عمل الدماغ، ما يؤدّي إلى دمج علم الأعصاب وعلم النفس (Kalb, 2006). هذا الاعتقاد هو المادية بحد ذاتها حيث يُرفض وجود النفس العاقلة وبقاؤها بعد موت الجسد.
خاتمةe
الفكر في الكنيسة هو نتيجة تفاعل العقيدة مع الممارسة. لهذا السبب، فكر الكنيسة هو فكر المسيح، وهدف الاجتهاد هو اقتناء فكر المسيح وليس أي فكر آخر. نحن نحكي عن التعليم عند الآباء وليس عن آراء لديهم، لأن فكرهم هو فكر المسيح. أما لدى غير الآباء فنحكي عن فكر هذا أو ذاك. هنا يصير التساؤل مشروعاً: إذا كان فرويد لا يتناغم مع التقليد، ما حاجة الإنسان لتبنّي فكره؟ إذا كانت طريقة الكنيسة، أي الاعتراف والتوبة، قد أثبتت خلال عشرين قرناً، أنها ناجحة في شفاء الإنسان وتقديسه، لمَ يبحث المرء عن طرق أخرى لم تثبت صحتها بالتجربة؟ إذا كانت الشكوك في شخص فرويد وفكره على هذا الحجم من الشك، وإذا كان الرب صادقاً في قوله أن الإنسان يُعرَف من ثماره، أيّ ثمار تشدنا إلى فرويد؟ إذا كنّا نعلم أنّ فكراً ما يأتي من مصدر دهري، وإذا كنّا مؤمنين بأنّ في تقليدنا ما يكفي خبرتنا، فلمَ نقصد ذلك الفكر لنعمل به “هل تقدِرُ يا إخوَتي تينَةٌ أنْ تصنَعَ زَيتونًا، أو كرمَةٌ تينًا؟ ولا كذلك يَنبوعٌ يَصنَعُ ماءً مالِحًا وعَذبًا”؟ (يعقوب 12:3)
المراجع
• Alfeyev, Bishop Hilarion (2001) The Patristic Heritage and Modernity. Paper delivered at the 9th International Conference on Russian monasticism and spirituality, Bose Monastery (Italy), 20 September 2001. http://orthodoxeurope.org/page/11/1/2.aspx
• Armand M. N. (2003) The Question of God: C.S. Lewis and Sigmund Freud Debate God, Love, Sex, and the Meaning of Life. Free Press.
• Berkman, K. (2010) Research Finds Repressed Memories Don’t Exist. Australian Broadcasting Corporation. http://www.abc.net.au/news/stories/2010/09/06/3003364.htm. On 14/02/2011.
• Drob, S. (1989) Freud and the Chasidim: Redeeming The Jewish Soul of Psychoanalysis. Jewish Review 3:1. p. 61
• Father Epiphanios (2005). Counsels for Life: From the Life and Teachings of Father Epiphanios. Orthodoxos Kypseli Publications.
• Goricheva, T. (2010) “Freud or Homo Liturgicus”, interview in Interfax religion. http://www.interfax-religion.com/?act=print&div=10937.
• Grossman, L., Horowitz, J. and Sachs, A. “Talk Therapy: Can Freud Get His Job Back?”, Time. Jan. 20, 2003.
• Hoffman, E. (1994). The drive for self: Alfred Adler and the founding of individual psychology. Reading, MA: Addison-Wesley.
• Jones, E. (1953-1957). Sigmund Freud : Life and Works (3 vols). Basic Books.
• Kalb, Claudia. (2006) “The Therapist as Scientist”, Newsweek, March 27, 2006, p. 42.
• Kihlstrom, J.F. (2003). Freud is a dead weight on psychology. In E.E. Smith, S. Nolen-Hoeksema, B.L. Frederickson, & G.R. Loftus, Atkinson & Hilgard’s Introduction to Psychology, 14th Ed. (p. 487). Pacific Grove, Ca.: Wadsworth.
• Moss, Vladimir. (2009) Orthodoxy, Freudianism and Original Sin. http://www.orthodoxchristianbooks.com/. on 14/02/2011
• Reik, T. (1962) Ritual: Four Psychoanalytic Studies. Grove Press edition.
• Thevathasan, P. Christianity according to Sigmund Freud. http://www.theotokos.org.uk. On 14/02/2011.
• Thornton, S. (2010) Sigmund Freud (1856—1939). Internet Encyclopedia of Philosophy (IEP). http://www.iep.utm.edu/freud/ On 14/02/2011.
• مرقص، الأرشمندريت الياس. “آمنوا بالنور لتصيروا ابناء النور”. تعاونية النور للنشر والتوزيع. أميون. 2003.
الحواشي
1 الكابالا مدرسة فكرية مرتبطة باليهودية الربانية، وهي مجموعة من التعاليم الباطنية وتستند إلى ممارسات أقرب إلى الشعوذة.
2 Totem and Taboo: Resemblances Between the Mental Lives of Savages and Neurotics
3 Moses and Monotheism
4 The Future of an Illusion