يسوع وسياسة اللاعنف
ماريـَّا قبارة
العنف واللاعنف، المقاومة والثورة، الحرية والتحرّر… كلمات مثيرة ومغريّة قلمّا حظيت في بلادنا بثقافة التحليل والفهم الضروريَين.
إنّ العنف مهما تعددت أشكاله، فردياً كان أم جماعياً، هو كلّ مبادرة تتدخل بصورة خطرة في حريّة الآخر وتحاول أن تحرمه حريّة التفكير والرؤيا والتقرير، وتحوّله إلى آلة أو أداة.
هذه الفترة في حياة الشعوب عامّة أشبه ما تكون بالفترة التي عاشها يسوع المسيح وأعلن رسالته الخلاصية للأمم وبني اسرائيل. وكما لكلّ شعب وفي كلّ عصر مواقف ثابتة من المحتل: إمّا المقاومة المسلحة (العنف)، أو الوصولية، أو الاستسلام. وكان الشعب اليهودي ينتظر من مخلصه التحرّر من الرومان وإعادة مجد اسرائيل.
رأى بيلاطس أنّ يسوع خطراً محدقاً بحكمه والقيصر، فأراد محاكمته قبل اليهود. ووجده الكهنة خطراً على نفوذهم، فاتهموه دينيّاً بالتجديف، وجُرّم سياسياً بتهمة التمرّد على السلطة، فصُلب باعتباره “داعية سياسية” في نظر الرومانيين!
رفضَ يسوع استراتيجية العنف. دعا إلى موقف اللاعنف الذي يفرض شجاعة أدبيّة ” إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيًّا فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ، وَإِنْ حَسَنًا فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟ ” (يو23:18).
قاوم الإغراء بتأسيس ملكوت الله باستخدام الوسائل العنيفة، فلم يريد أن يحوّل الحجارة خبزاً، ولو كان لإشباع الجموع (مت 3:4-5)، كما أنّه رفضَ أن يكون سياسياً ثائراً لينال المجدَ دون أن يعبر ذبيحة الصليب ” وأما يسوعُ فإذ علمَ أنهم مزمعونَ أن يأتوا ويختطفُوهُ ليجعلوهُ ملكاً انصرفَ أيضاً إلى الجبل وحدَهُ “(يو15:6).
ملكوت الله لا يقوم على العنف ولكن على القوة الإلهيّة التي أثبتت قدرتها على الانتصار على الموت عندما أقامت يسوع. “وإذا واحدٌ مع الَّذينَ مع يسوعَ مدَّ يدهُ واستلَّ سيفه وضربَ عبدَ رئيسِ الكهنةِ فقطع أذنَهُ، فقالَ له يسوعُ رُدَّ سيفَكَ إلى مكانِهِ. لأنّ كلّ الّذينَ يأخذونَ السَّيفَ بالسيف يهلكون” (مت51:26-53).
عندَ يسوع العنف يجرّ العنف بفعل الغريزة، ويدخل الكلّ في حلقة مفرغة؛ حلقة تدمير الذات والآخرين والطبيعة. ودعوة المسيحيّة احترام دور العقل خدمة للحريّة بمعناها السليم والعميق. فيسوع حرّر الإنسان من الأنانيّة فأخرجه من الفرديّة إلى المحبّة، ومن اليهوديّة إلى الإنسانيّة، ومن الرومانيّة الاستغلاليّة إلى المسيحانية. لقد كشف صليب الربّ عن الحبّ الوحيد الصادق القادر على تخليص الإنسان من حالة العنف الراهنة.
أمام المشاهد العنيفة التي تطالها أعيننا يومياً وتقتحم ضمائرنا من خلال مشاهدة قنوات التلفزيون الفضائية أو من خلال الانترنيت ووسائل الإعلام المتنوعة، تأخذنا بمواقف بعيدة أشدّ البعد عن مواقف يسوع من العنف.
إنّ رسالة الكنيسة تحتّم عليها اتخاذ موقف يدين العنف، وكلّ ما يمكن أن يزيده أو يحرّض عليه أو يدفع إليه. وانطلاقاً من الثوابت والتعاليم الإنجيلية والإيمان بالربّ يسوع عليها أن تدين أيّ فعل يحاول أن يحطّ ويهين الإنسان وكرامته.