الأرثوذكسية ونظرية التطوّر: تطوّر الإله-الإنسان
القديس يوستينوس بوبوفيتش
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
أنتَ تطلب مني أن أجيب على هذا السؤال: أيمكن أن يتعايش الفهم العلمي لتطوّر العالم والإنسان مع الخبرة والمعرفة الأرثوذكسيتين التقليديتين؟ وأيضاً أنت تسأل عن موقف الآباء من هذا الأمر، وما إذا كان هناك حاجة شاملة إلى هذا النوع من التعايش. باختصار سوف أكتب ما يلي:
إن أنثروبولوجيا* العهد الجديد تستند إلى أنثروبولوجيا العهد القديم أو تقف عليها. كلّ إنجيل العهد القديم: الإنسان صورة الله، كلّ إنجيل العهد الجديد: الإله – الإنسان صورة الإنسان. كلّ ما هو سماوي، إلهي، أزلي، أبدي وثابت في البشر هو صورة الله، شَبَه الإنسان لله. اغتُصِب هذا الشَبَه الإلهي بالخطيئة الطوعية بالشراكة مع الشيطان عن طريق الخطيئة والموت الذي ينتج عن التعدّي. لهذا السبب صار الله إنساناً: لكي يستعيد صورته الفاسدة من الخطيئة. لهذا السبب تجسّد وعاش في عالم الإنسان كإله-إنسان، كالكنيسة، ليقدّم لصورة الإله – الإنسان كل الوسائل الضرورية حتّى يتمكّن هذا الإله المشوّه – الإنسان الناشئ في الكنيسة جسد الإله – الإنسان من أن يبلغ، بمعونة الأسرار المقدّسة والفضائل، “إلى إنسانٍ كامِلٍ. إلى قياسِ قامَةِ مِلءِ المَسيحِ” (أفسس 13:4). هذه هي أنثروبولوجيا الإله – الإنسان. هدف الكائنات التي على شبه الله المسمّاة بشراً هو واحد: أن يصيروا تدريجياً كاملين كما الله الآب، أي أن يصيروا آلهة بالنعمة، أن يبلغوا التمجيد (theosis)، التألّه، التمسحن (Christification) الصيرورة ثالوثاً (Trinitification). بحسب الآباء القديسين، “الإله صار إنساناً حتّى يصير الإنسان إلهاً” (القديس أثناسيوس الكبير).
لكن الأنثروبولوجيا المسمّاة علمية لا تعترف بشبه الوجود الإنساني بالله. بهذا، يُنكَر تقدّم الكائن البشري في تطور الإله-الإنسان. إن لم يكن الإنسان صورة الله، فالإله-الإنسان وإنجيله يكونان شيئاً غريباً لهذا الإنسان، شيئاً آلياً ولا يمكن بلوغه. الإله-الإنسان يصير متنمّراً لأنّه يريد من الناس، بالقوة، أن يصيروا كائنات كاملة مثل الله. في الجوهر، نحن نتكلّم عن يوتوبيا شرعية، أو وهم ومثال لا يُبلَغ إليه. في النهاية، يُختَزَل إلى خرافة وحكاية.
إن لم يكن الله كائناً على مثال الله، فالإله-الإنسان نفسه يصير غير ضروري لأنّ النظريات العلمية حول التطوّر لا تقبل الخطيئة ولا الذي يخلّص من الخطيئة. في عالم “التطوّر” الدهري، كلّ شيء طبيعي ولا مكان لوجود الخطيئة. لهذا السبب يكون مزاحاً الكلامُ عن مخلّص وخلاص من الخطيئة. في التحليل الأخير، كلّ شيء طبيعي: الخطيئة، الشر، والموت. إذ، إذا كان كلّ شيء يصير في الإنسان هو نتيجة التطوّر، فلا يوجد في هذا الإنسان أي شيء بحاجة إلى الخلاص، لأنّ لا شيء خالد وثابت فيه، بل كلّ شيء أرضي وتراب وبالتالي عابر وفانٍ ومدرَك بالحواس.
في عالم مثل هذا، عالم “التطوّر”، لا مكان للكنيسة، التي هي جسد المسيح الإله-الإنسان. اللاهوت الذي يرتكز على أنثروبولوجيا التطوّر كنظرية “علمية” لا يملك إلا مناقضة ذاته. في الجوهر إنّه لاهوت من دون الله وأنثروبولوجيا من دون الإنسان. إذا كان الإنسان أبدياً، خالداً وصورة إلهية-بشرية لله، فكل اللاهوت والأنثروبولوجيا ليسا إلا مزحة سخيفة، وكوميديا محزنة.
اللاهوت الأرثوذكسي وعلاقتنا بالآباء القديسين هو الطريق لصعودنا إلى الإله-الإنسان، الحقيقة الأرثوذكسية الكاملة. هذا أمر يحتاج إلى تحليل وهو لأولئك الذين يتعاطون شؤون الإنجيل على المسكونة. كلّ مسائل الإنجيل تركّز على مشاكل الإنسان بشكل جوهري. كل مسائل الإنسان تركّز على أمر واحد هو الإله-الإنسان. وحده الإله-الإنسان هو الحلّ الكوني للغز المسمّى إنساناً. من دون الإله-الإنسان وخارج الإله-الإنسان، يكون الإنسان دائماً، عن وعي أو من دون وعي، متحوّلاً إلى ما هو دون البشر، إلى تمثال بشري، إنسان خارق، إنسان-شيطان. أمّا الإثبات والدليل على ذلك؟ كلّ التاريخ البشري.
* انثروپولوچيا (Anthropology) أو علم الإنسان، الذي يدرس أصل الجنس البشري والظواهر المتعلّقة به، كما يدرس الثقافة.