الملكوت بالقوّة لا بالكلام فقط!
الأرشمندريت توما بيطار
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
يا إخوة، هناك العالم، وهناك ملكوت السّموات. في العالم، القوّة هي قوّة الخطيئة، والسّيادة هي للشّيطان. والعالم مُغلَّف بالموت. وكلّ ما له علاقة بالموت، من قريب أو من بعيد، كالأمراض، والضّعفات، والقلق، والهموم، والمشكلات، والحروب، والضّيقات، والكوارث… هو من تأثير الشّيطان، ومن فكره، ومن نتائج اقتبال الإنسان، في العالم، لروح الشّيطان. هذا بالنّسبة إلى العالم. أمّا ملكوت السّموات، فهو ملكوت البرّ، حيث لا خطيئة، ولا موت، بل حياة أبديّة. الكلّ، فيه، مُشبَع بنعمة الله، ومُغلَّف بنوره. والسّلطان هو للرّبّ يسوع المسيح الّذي هو السّلطة، وصاحب السّلطة. سلطة إبليس، في العالم، هي سلطة الخداع، والرّياء، والعنف، والقتل. أمّا سلطة المسيح، فهي سلطة المحبّة، والبَرَكة، والحياة.
من هنا أنّه إذا كان على التّلاميذ أن يكرزوا بأنّ ملكوت السّموات قد اقترب، فهذا معناه أنّ الخطيئة قد انغلبت، ولم يعد هناك موت بعد، وأنّ السّيادة باتت، منذ الآن، للرّبّ يسوع. والعلامات أنّ الملكوت قد أتى تتمثّل بالبركات الّتي يعطيها الرّبّ يسوع لتلاميذه ليمرّروها للنّاس. وهي، في الدّرجة الأولى، السّلطان الّذي أُعطي لهم على الأرواح النّجسة لكي يخرجوها: “أخرجوا الشّياطين”. الشّياطين هي وراء الخطيئة. قوّة الخطيئة من قوّة الشّيطان، وفكر الخطيئة من فكر الشّيطان. لذلك، إخراج الشّياطين معناه أنّ الخطيئة قد غُلبت بالرّبّ يسوع المسيح، غلبتها قوّة الله، الّتي نستمدّها بالإيمان بالرّبّ يسوع، والثّقة به، وقول كلمته، والسّلوك في وصاياه، ومحبّته. الإنسان الّذي يسلك في الإيمان الفاعل بالمحبّة، هذا لا قوّة للخطيئة حياله. الخطيئة انغلبت. أمّا نحن، فنتّخذ الغلبة بالإيمان بالرّبّ يسوع. هذه هي القوّة الّتي تغلب العالم: إيماننا! وتاليًا، ملكوت السّموات يعني أنّنا قد اقتبلنا الرّبّ يسوع سيّدًا، واقتبلنا كلمته، واتّخذنا نعمته، وتمنطقنا بقواه. وعرش الرّبّ يسوع قلب الإنسان. لذا، قيل: “أنتم هيكل الله، وروح الله ساكن فيكم”، و”ها ملكوت السّموات في داخلكم”.
إذًا، يا إخوة، نحن، الآن، في الملكوت، إذا كنّا لنسيّد الرّبّ يسوع على أنفسنا، ونطيع كلمته، ونحبّه، ونسلك بحسب وصاياه. الملكوت لا علاقة له بالوقت، بل هو واقع كيانيّ جديد، أنشأه الرّبّ يسوع بجسده ودمه، وجعلنا شركاء فيه. لهذا، نحن نساهم الأسرار المقدّسة. وبمساهمتنا الأسرار المقدّسة، نرسّخ الملكوت في حياتنا. وبالكرازة بالملكوت الّذي هو فينا، أو الّذي يُفتَرَض أن يكون فينا، نمدّ هذا الملكوت حتّى إلى أقصى الأرض. هذا هو معنى التّلمذة والكرازة بالإنجيل: “اذهبوا وتلمذوا كلّ الأمم”. التّلمذة ليست تلمذةً كلاميّة على أفكار وعقائد، بحسب هذا الدّهر، بل هي العمل، أوّلاً وأخيرًا، على مساعدة النّاس على الدّخول في ملكوت السّموات، لأنّ كلّ إنسان يؤمن بالرّبّ يسوع يصير مطرحًا للملكوت، ويقيم فيه الرّبّ يسوع. الرّبّ يسوع صعد إلى السّماء، لكنّه استقرّ بيننا، مرّة وإلى الأبد، إذ إنّه قال: “ها أنا ذا معكم كلّ الأيّام، وإلى منتهى الدّهر”. الله معنا في قواه، في طاقاته. وهذه لا تنفصل عن شخصه. نحن لا نتعامل مع قوى الله باعتبارها صمّاء، بل باعتبارها حضور الله، وعمل الله بيننا. وفي آن معًا، الرّبّ يسوع صعد إلى السّماء، وهو بصفته ابن الله كان في السّماء، منذ الأزل، لكنّه صعد إلى السّماء بالجسد، ليجعل لنا مقامًا عن يمين الله الآب. هكذا، يكون الرّبّ يسوع قد استقرّ معنا وفيما بيننا، هنا. وفي آن معًا، يكون قد ارتقى بنا إلى السّماء. لهذا، ملكوت السّموات هو السّماء على الأرض. وبحلول الرّبّ يسوع عن يمين الآب السّماويّ، تكون الأرض قد استقرّت في السّماء. من هنا، إنّ الكرازة بالإنجيل لا تأتي إلاّ من قداسة، ولا تأتي من تعاطي الكلام الإلهيّ كمادّة دماغيّة. الرّبّ يسوع، إذ كرز بملكوت السّموات، كرز بنفسه، أعطى نفسه لنا. ونحن، بالكرازة بملكوت السّموات، نعطي أنفسنا. لا معنى، إطلاقًا، أن نتكلّم على محبّة الله، إن لم تكن محبّة الله فينا. ولا معنى، أبدًا، أن نحدّث عن رحمة الله، إن لم تفعل رحمة الله من خلالنا. لهذا، كان طبيعيًّا جدًّا أن يتكلّم الرّبّ يسوع على الكرازة بملكوت السّموات، مقرونةً بشفاء المرضى، وتطهير البرص، وإقامة الموتى، وإخراج الشّياطين. الكرازة بملكوت السّموات ينبغي أن تترافق وعلامات وجود هذا الملكوت معنا وفيما بيننا. كلّ آبائنا القدّيسين الّذين خرجوا للكرازة بملكوت السّموات، بشكل أو بآخر، بقَدْرٍ أو بآخر، كانوا يشفون المرضى، ويطهّرون البرص، ويقيمون الموتى، ويخرجون الشّياطين، وكانوا متفانين إلى درجة أنّهم بذلوا أنفسهم، وكانوا معترفين وشهداء؛ وتاليًا، قدّيسين، بدءًا بالرّسل، وامتدادًا إلى كلّ الّذين بشّروا في الشّرق والغرب، ككيريلّوس وميثوديوس، مثلاً، ونيقولاّوس الّذي بشّر شعب اليابان، وإينوكينديوس الّذي بشّر الألاسكا مع رفاقه، وباتريكيوس مبشِّر إيرلندا… إذًا، كلّ هؤلاء الّذي بشّروا كانوا قدّيسين، وقد جرت على أيديهم علامات الملكوت، كما جرت على أفواههم كلمات الملكوت.
في مقابل ذلك، كلّ الّذين يبيعون النّاس كلامًا مستقًى من الإنجيل، وليسوا في القداسة، ولا تجري على أيديهم علامات ملكوت السّموات، هؤلاء مفترون ومضلّلِون، لأنّهم يحوّلون ملكوت السّموات إلى تجارة كلام، وبدلاً من أن يُعينوا النّاس على الدّخول في ملكوت السّموات، يزرعون في عقولهم أفكارًا وعقائد ونظريّات من عندهم، واعدين إيّاهم بأنّهم إن اقتبلوا هذه الأفكار وهذه النّظريّات، فإنّهم سوف يشتركون في ملكوت السّموات، في المستقبل. هذا كلّه تشويه وتضليل. لذلك، المبشّر، عندنا، هو، أوّلاً وقبل كلّ شيء، مَن سكن فيه روح الله. ومن ثمّ، صار آلة إلهيّة، وخرج إلى النّاس بتوجيه روح الرّبّ، وعمل بقوّة الله، واهتمّ، أوّلاً وأخيرًا، بمدّ ملكوت السّموات في النّاس. لا يهمّه أن يفتخر بأعداد النّاس، ولا بأجسادهم. المبشّر إنسان مبذول. وفي الزّمن الّذي نحن فيه، هذا الزّمن العقلانيّ المدّعي، صار هناك شرخ بين ملكوت السّموات، باعتباره سيادة الرّبّ يسوع المسيح من جهة، والكلام عليه من جهة أخرى. كلّ النّاس يتهافتون للكلام على ملكوت السّموات. وقلّما يجد الإنسان الملكوت في حياة النّاس، في حياة الّذين يتكلّمون باسم الله، أو يبشّرون بكلمة الإنجيل. لهذا، العالم امتلأ كلامًا في الهواء على ملكوت السّموات، فيما نفوس النّاس رتعت في الضّعف. الإيمان صار كلاميًّا، ولم يعد دخولاً في حياة جديدة، في نور الله، ونعمته، وبَرَكته، وحضرته. الشّيطان يشوّه حتّى الكرازة، حتّى البشارة، ويزيّفها، وهذه علامة من علامات سيادة “ضدّ المسيح”، في العالم، حتّى يصبح الكلام على ملكوت السّموات كلامًا في عقول النّاس، كلامًا في الكتب، كلامًا في الأيقونات، ولا يعود حقيقةً جديدة معيشة في مستوى قلوب النّاس، في مستوى تسييد الرّبّ يسوع المسيح على حياتهم. اﻻهتمام بات بالشّكل لا بالمضمون، بالكلام لا بالمعنى، بالظّاهر لا بالحقيقة الجديدة المزروعة في واقع الإنسان. لهذا، علينا أن نحذر وننتبه، لكي يعود الكلام على ملكوت السّموات ليقترن، من جديد، بالمسعى للقداسة، وحفظ الوصيّة، والأمانة لله، والسّلوك في نعمة الله، وفي ما يرضيه. فقط، إذ ذاك، نختبر ملكوت السّموات كواقع جديد، ونصير ممتلئين من الحياة الأبديّة.
ما هو الفرق بين الإنسان الّذي يؤمن، بالرّوح والحقّ، بالرّبّ يسوع، والإنسان الّذي لا يؤمن، كائنًا مَن يكون؟! – الفرق هو أنّ الأوّل باتت الحياة الأبديّة ساكنة فيه في شخص الرّبّ يسوع، بينما الأخير ليس من أبناء الحياة الأبديّة، بل هو من هذا العالم، من هذا الدّهر. لذا، نسعى ونتابع السّعي لنتوب، لننقّي ذواتنا، لنحفظ الأمانة، لنسلك في الوصيّة، لنحبّ الرّبّ يسوع لا كأنفسنا، ولا من أجل أنفسنا، بل أﮐثر من أنفسنا، لأنّ المسيح هو ذواتنا الجديدة. الإنسان يبذل نفسه العتيقة، لكي يقتني ذاته جديدةً في الرّبّ يسوع. هذا هو المسرى، وهذا هو المسعى، وهذا ما علينا أن نتابع السّلوك فيه إلى المنتهى، وما علينا أن يعين أحدُنا الآخر عليه، وأن ننشّئ الّذين يأتون إلينا والأجيال الصّاعدة عليه، حتّى يبقى ملكوت السّموات ممدودًا بين النّاس فينا ومن خلالنا. آمين.
عظة في الخميس 11 شباط 2010 حول متّى10: 1، 5- 8.