الشيخ المبارك تافريون الذي من ريغا (1898- 1978)
نقلها إلى العربية الأب أثناسيوس بركات
البدايات
حياة الشيخ تافريون ريغا ملؤها الاضطهادات والمعاناة. هو تيخون باتوزسكي المولود في مدينة كراسنوكوستك التي تجاور مدينة خاركوف، وكان ذلك في 10 آب سنة 1898. يصف لنا الشيخُ سنوات طفولته بما يلي:
كانت عائلتُنا الكبيرةُ العدد مؤلفةً من عشرة أولاد، كنت أنا أصغرَهم. مرةً، كنت متمدّداً على المدفأة أُصغي إلى إخوتي يتلون دروسَهم بصوت عالٍ، فقالت أمي: “أترون كيف أنكم تدرسون طوال الوقت، بينما تيخون قد حفظ كلَّ شيء بدون أن يدرس. فقاموا بامتحاني، وكان الأمر صحيحاً، فقد أجبتُ على كلِّ شيء: تاريخ روسيا وتاريخ العالم القديم وكلّ ما كانوا يدرسونه. بعدها، عندما ذهبتُ إلى المدرسة، كنت أنبطحُ تحت مقعدي، في حصة التاريخ، وأبدأ بالرسم. فقد كنتُ أعشق الرسم. حدث مرةً أن اكتشف المعلمُ أمري فأخرجني ممسكاً إياي من أذني. “ماذا تفعل؟”. أجبته: “أعرف الدرسَ كلَّه”. قال المعلم: “كيف هذا؟”، وبدأ يمتحنني، وكان الأمرُ صحيحاً: فقد أجبته على كل شيء، حتى الدروس التي لم يكن قد أعطاها بعد. حينها، سمح لي بالرسم أثناء حصّته.
كنا نعملُ بجِد، وبشكل خاص، أمي التي كانت عاملة مُجِدَّة. لم يكن أحدٌ يعرف متى تنهض من فراشها. في الصباح، كانت تُحَضّرُ لنا الفطائر فنأخذها ونركض إلى المدرسة ونحن نأكلها في الطريق. كنا نعملُ طوال النهار، وفي المساء بعد العشاء، كنا نجلس ونغَنّي. كنا جميعاً موهوبين موسيقياً، حتى أن أحدَ أشقائي كان يعزف على الكمان. فكنا نُنشِدُ أناشيد دينية فيما هو يقوم بالعزف. كلُّ الجيران كانوا يحسدون والدتي قائلين: “إنكِ محظوظة. ليس لأحد عائلةٌ كما لك”، ذلك أن أبي كان يريد كلَّ الصبيان أن يصبحوا ضبَّاطاً، وكلَّهم صاروا كذلك ما عداي، وقد أوقِفَ خلال الحرب الأهلية وأُودِعَ السجن حيث توفّي. بعض الأولاد قُتِل والبعض الآخر سُجِنَ. أما أنا فمكثتُ في دير ثم في معسكر اعتقال. وتوفيت أمي في بيت غير بيتها.
أذكر كيف أنه، في صغري، كانت عرابتي المسنّة التقية تَمضي بي إلى الكنيسة. كنت أجلس في حضنها وحولي الأيقونات واللهب المتصاعد من قناديل الزيت والشموع. كان ذلك غايةً في الرَّوعة والجمال. كنت أعشق ذلك الأمر لدرجة أنني، في السابعة من عمري، هربت من البيت إلى دير في غلينسك. لكنهم أعادوني إلى البيت، ذلك أن أبي كان يريد كلَّ ابنائه أن يصيروا ضُبّاطاً. ثم دخلت الدير في غلينسك، للأبد، في عمر العاشرة. أما أمي فكانت تقول عن أولادها العشرة: “علينا أن نُعطيَ العُشْرَ لله”.
الثورة والاضطهاد
في سنة 1920، وكان لا يزال مبتدئاً في غلينسك، استُدعي تيخون من الحكومة السوفييتية للخدمة العسكرية. فذهب إلى كورسك وأوضح للسلطات أنه لن يخدم في الجيش كونه راهباً. فسُمِح له بالعودة. في طريق العودة كاد أن يغرق في مياه الفيضان الربيعي، وكان ذلك بالضبط خارج الدير. في وقت لاحق، كتب يَصفُ تجربته شاكراً الله على إنقاذه حياتَه.
في غلينسك، كان أول إتمامه لنذر الطاعة هو رسم الأيقونات. على أي حال، رُسِمَ سنة 1921 رئيس شمامسة في دير نوفوسباسكي في موسكو على يد المطران بولينوس (كريشاخين)، وبقي معه حتى وفاة هذا الأخير. في سنة 1925 رُسِمَ كاهناً، ومنذ ذلك الحين كان يقيم الذبيحة الإلهية يومياً. في سنة 1926، أصبح الأب تافريون- وهو ما صار عليه اسمُه- رئيس دير القديس مرقس في فيتابسك، وفي سنة 1927 صار كاهن كنيسة والدة الإله. في تلك السنة نفسِها، كان له دور في محاولة انتخاب بطريرك جديد، وذلك عن طريق جمع أصوات الأساقفة المنفيين.
في سنة 1928، رُقّيَ الأب تافريون إلى رتبة أرشمندريت “من أجل معاناتك المستقبلية” كما أسرَّ إليه المطران بولينوس، وهو قد نُفي مع ذلك المطران إلى بيرم. بعد ذلك بوقت قصير، أوقِف وحُكِمَ عليه بالذهاب إلى معسكر اعتقال. أمضى الشيخُ ما يزيد على 27 سنة في المنفى في السجون ومعسكرات الاعتقال حيث ساعد في حفر قناة إضافة إلى مهام أخرى. فيما يخص حياته في السجن، روى ما يلي: “ما أعظمَ سرَّ الاعتراف! هناك، كنا نستلقي على أسِرَّتنا وحولنا القذارةُ والسُّباب والشتائم. لكن بالنسبة لنا كان ذلك مشرقاً كالفردوس. همَسَ أحدُ السجناء في أذني: “أبتي، ما أعظم سروري لأنني جئتُ إلى هنا! أعلم أنهم سيأخذوني، غداً، إلى الاستجواب مرة أخرى وسيقومون بتعذيبي، وأعلم أنني لن أخرج من هذا المكان حياً، لكنها المرة الأولى في حياتي التي حرَّرتُ فيها نفسي عَبْرَ سر الاعتراف!”
بخصوص سني حياته في معسكر الاعتقال، قال الشيخ: “كان الناس يموتون كالذباب. أما أنا، فقد حفرت قلايةً في الأرض، وكنت يومياً في الصباح الباكر أقيم الذبيحةَ الإلهية”. روى، لاحقاً، رهبانُ ريغا عن زوار الدير الذين كانوا يرسلون العنب إلى الشيخ في معتقله لكي يصنع منه النبيذ. سنة 1953، نُفي الشيخ إلى كازاخستان حيث أمضى أصعب سني حياتِه يعملُ حارساً في إحدى المدارس. سنة 1956، وبعد موت ستالين، تحسَّن وضعُ الشيخ وعُيِّنَ كاهناً في الكاتدرائية في بيرم.
في سنة 1957، أصبح بمقدور الشيخ العودةُ إلى غلينسك حيث كان قد بدأ حياته الرهبانية تحت اسم المبتدىء تيخون، قبل حوالى خمسين سنة. عُيِّنَ رئيس الدير، إلا أن الرهبان، الذين لم يعودوا معتادين النظام القاسيَ، بدأوا يتذمّرون: “نحن مُسنّون ومرضى، لذا فمن الصعب علينا النهوض باكراً”. نُقِلَ الشيخ إلى ياروسلاف. أما دير غلينسك فقد أُغلِقَ وتفرق الرهبان كلٌّ إلى دير مختلف. في سنة 1958، أمضى الشيخُ عدة أشهر في دير بوخاييف. وبعد أن اشتد الاضطهادُ في عهد خروتشيف، ذهب، في السنة نفسها، إلى أوفا وصار متقدماً بين كهنة الكاتدرائية، وأيضاً سكرتيرَ الأبرشية. في سنة 1961، خدم في أبرشية ياروسلاف في بلدة نيكراسوفو، وسنة 1964، في بلدة نيكوس. هناك، منعه الميتروبوليت يوحنا (ويندلاند) من الوعظ، إذ كان العديدُ من الناس يأتون لسماع عظاته مما أزعج السلطات الشيوعية.
دير التجلّي
في شهر آذار من سنة 1969، عُيّن الشيخُ الأبَّ الروحيَّ لدير التجلي بقرب ريغا في لاتفيا. وصل إلى هناك وبرفقته عددٌ كبير من النساء كنَّ يتبعنه، وكانت العديدات منهن راهبات في السِّرّ. في أقل من عشر سنوات قضاها هناك، أصبح هذا الدير مَحَجّةً لكل روسيا.
هنا في هذا الدير، أدخل الشيخُ عادةَ أن يشترك كلُّ زوّار الدير، يومياً، في الأسرار المقدسة. لذا، كان الطعامُ صيامياً بالكامل وتقشّفياً، يتألف من الحساء والعصيدة والشاي، رغم أن ذلك كان يتم ثلاث مرات يومياً. بينما الراهبات، في المقابل، لم يكنَّ يتناولن بتواتر، لذا كانت أوقات طعامهن متباعدة. بالرغم من أن الأب تافريون أنشأ معظمَ الأبنية، إلا أن الظروف كانت غايةً في الصعوبة. كان الزوار يوضعون في غرفٍ كبيرة- أربعون شخصاً لكل غرفة- حيث كانوا ينامون على الأرض. لم يكن هناك كَراسٍ في الكنيسة، والخِدَمُ كانت طويلة. يبدأ القداس الساعة السابعة، إلا أن الذين سيتناولون عليهم قراءةُ القانون الساعة الرابعة والنصف صباحاً، ومن ثمَّ الاعتراف. كان الشيخ يطلب أن يأتيَ الجميع، حتى الأولاد، في هذا الوقت الباكر.
أحدى زائرات الدير روت ما حصل معها في نهاية أول زيارة لها: “سألني بلطف: حسناً، ماذا لديك؟ فقلت: أبتي، لدي سبعةُ أولاد. فأضاء وجهُه: سبعة أولاد! يا لَلأمر الرائع! لا بد أن زوجَك يحبك كثيراً. ثم ارتسمت على وجهه ابتسامةٌ بهِجة. فقلت: كلا يا أبتي. لقد هجرني زوجي. فقال: هجركِ! لا يهم. ربما الأولادُ صالحون. ثم صار أكثر بهجةً. فتنتهدتُ قائلة: كلا يا أبتي. فإن أولادي عاصون. فقال لي الشيخ وهو، حتى، أكثر بهجة: حسناً، كل شيء سيكون على ما يرام. سبعة أولاد- يا للروعة! فتشجّعت. هل الأمرُ صحيح، يا أبتي، بأن كلَّ شيء سيكون على ما يرام؟ ابتسم فقال: حسناً، ربما لن يكون كذلك.
أسعدني قولُه هذا أكثر مما حدث عندما قال بأن كلَّ شيء سيكون على ما يرام. ثم، فجاةً، نظر إلي (عادةً ما يتكلم مع الناس دون النظر إليهم) وقال: “أترغبين بخلاص نفسِك؟ أرى أنك ترغبين بهذا. أحِبّي أولادَكِ”. ثم أعاد قوله: “أترغبين بالخلاص؟ أحِبي أولادَكِ. لا يبدو أن كل الأمور عادلة في هذه الحياة. ذلك أن الجميع عادةً ما ينظرون إلى الأمور من وجهة نظر هذا العالم، وهم ينسَون أنها ما هي إلا دقيقة صغيرة، كلا، إنها بُرهةٌ وجيزة، إنها لحظة مقارنةً مع الحياة الأبدية”. لاحقاً، قال لي: “لا تظني أن الله قاس أو أنه يرغب بتعذيبنا. الله أَبٌ محبٌّ، يقوم بكل شيء لخلاصنا. لا تنسَي أن هذه الحياة العابرة قصيرةٌ مقارَنةً بالحياة الأبدية”.
الخدم الكنسية
كان الشيخ يولي أهتماماً كبيراً بزينة الكنيسة الخارجية وبالترتيل والخدَم. طوال السنة، كانت الزهور النَّضرة تزيّن الكنيسة والهيكل. أمام أيقونة والدة الإله المحاطة بالشاروبيم، كانت تنتصب مزهريتان تحويان زنابق بيضاء. وكانت هذه الزنابق، مجتمعةً مع أجنحة الشيروبيم، تترك انطباعاً يصعب محوُه.
كان الشيخ أرشمندريتاً يحمل ثلاثة صلبان، وله حق الاحتفال بالذبيحة الإلهية وأبواب الهيكل مفتوحة.( يبدو أنّ هذه العادة موجودة في روسيا وليس عندنا في أنطاكية: المترجم) وكان يستعمل هذا الامتياز يومياً. خلال القداس، كان الشيخ يبدِّل ملابسه الكهنوتية ثلاث مرات، فيبدأ الخدمة بثوب يناسب اليوم (الأصفر أو الأزرق أو الأخضر الخ…)، أما الذبيحة فكان يقيمها باللون الأحمر، ثم يناول الشعب باللون الأبيض كما لو أنه في الفصح. كان يقوم بكل هذا ليجعل الناس الواقفين أمامه، على مختلف مشاربهم، والذين لا يفهمون، تقريباً، أيَّ شيء، أن يزدادوا تقوى وحباً لجمال الخدم الكنسية.
في عيد الميلاد، كانت الكنيسة تُزَيّنُ بطريقة متميزة في مَهابتها. كانت توضع شجرتا تَنّوب صغيرتان مزينتان بخيوط ذهبية على جانبي الهيكل، أما وراء الهيكل فتُستبدلُ الأيقونةُ الكبيرةُ بواحدةٍ عن الميلاد مساوية لها في الحجم. كانت تلك الأيقونة من رسم الشيخ الذي كان رسّاما بارعاً. كانت العذراء والدة الإله ويوسف قد رُسِما، في الأيقونة، بثياب رهبانية سوداء. على اليسار خلف الجوقة، كانت توجد أيقونة صغيرة للميلاد، وعلى جانبيها صور على كرتون للرعاة والمجوس كان الشيخ، أيضاً، قد رسمها. كانت خدمةُ الميلاد تقام في نصف الليل، وبعد القداس كان كل واحد يُنهي صومه بالمشاركة بالفطور. حينها، يكون الطعام بطاطا وسمك الرنكة وقطعة من الجبن وزبدة وبيضاً. كان ذلك احتفالاً مُرَفَّهاً بالعيد، لأنه، في مساء عيد الميلاد، لا يكون أحد قد أكل أو شرب أيَّ شيء.
في عيد رقاد السيدة، كان يقام زياحٌ لأيقونة الرقاد (الإبيتافون)، حول كنيستَي الدير. وعندما يعود الإبيتافيون إلى الكنيسة، كان يُحملُ عالياً عند الباب ويقوم الجميع بالعبور من تحته. الشيء نفسُه كان يحدث في الفصح. أما في العنصرة، فكان السجّاد يُخرَجُ من الكنيسة، ويوضع مكانه سجاد من العشب الطويل الأخضر. بدلاً من سجادة الممشى في صحن الكنيسة كان هناك ممَرٌّ من الزهور يبدأ من المدخل وينتهي بأبواب الهيكل. وكانوا يصنعون وسادةً من العشب ليركع الشيخُ عليها أثناء قراءته أفاشينَ السجدة.
رغم كلِّ الجهود التي بذلها الأب تافريون، كان الترتيل في الدير فظيعاً. كان هناك جوقتان. على اليمين، كانت الراهبات، وعلى اليسار الراهبات في السرّ اللواتي تبعنه من ياروسلاف، إضافة إلى الزائرات اللواتي يرغبن بالترتيل. كانت المشكلة،ُ في جوقة اليسار، عدم وجود قائدة وكذلك تغيُّر المرتلات بشكل مستمر، إذ أن تراتيل عديدة كانت ترتَّل بطريقة مختلفة بحسب المكان الذي تأتي منه المرتّلة. لذا، كان على الشيخ أن يقف بنفسِه مع الجوقة. أما على جوقة اليمين فكانت هناك قائدة، إلا أن المرتلات لم يكن يصغين إلى إشاراتها فكن يرتّلن بشكل حزين كما لو أنهن- وهذا ما عبَّر عنه الشيخ- “يَجرّوننا إلى القبر”.
كانت التفاصيل الصغيرة للخدم التي يؤديها الشيخُ جميلةً بشكل مميز، مما جعلها تختلف عن أي خدمة يقوم بها كاهن آخَر. مثال على ذلك أن ترتيلة “قدوس الله” كانت تبدأ بها جوقةُ اليمين، فيستدير الأب تافريون نحو الشعب هاتفاً: “لترتّلْ كلُّ الكنيسة!”، ويقود الترتيل بنفسِه. والمرة الثالثة من “قدوس الله” ترتِّلها الجوقةُ. أما المرة الثانية التي يطلب فيها من الناس المشاركة فهي عندما تُقالُ “أبانا الذي في السماوات”.
المقاومة
لم يكن الأب تافريون يقاوم السلطات السوفييتية بشكل علني، إلا أنه لم يكن يسايرهم في أي أمر. ففي سنة 1977، في الذكرى الستِّين للثورة، أُصدِرت الأوامر إلى كل الكنائس لكي تقيم خِدَماً احتفالية متضرِّعة من أجل حفظِ السلطة. فأُقيمت تلك الخدم الاحتفالية في كل الكنائس. أما الشيخ فأشار إلى الحدث بكثير من الاختصار: “ترون كم أنّ الأمر حسن وهو أننا سوف نمجّد اللهَ من خلال القداس الإلهي في الصباح الباكر. أما في المدن فماذا يفعلون الآن؟ إنهم يهتفون قائلين: المجد، المجد! لكن، لمن المجد؟” طبعاً، لم يُقِم أيّةَ خدمة تشفعية.
لِمَ كانت السلطاتُ تحتمل وجود دير كهذا؟ هناك أسباب عديدة:
قبل كل شيء، هناك المقدرة غير العادية عند الأب تافريون على التحدّثِ إلى ممثلي الحكومة. عندما استُدعي الشيخُ، مرةً، إلى موسكو، اضطرب الجميع وانتحبوا، إذ ظنوا بأنهم فقدوه. أحدُ الرهبان، الذي كان، حتى ذلك الوقت، ينفر بشدة من الشيخ حتى أنه كان لا يتوقف عن الشكوى عليه لدى رئيسة الدير، أصابه الاضطراب أكثر من أي أحد آخَر، واستقلَّ بالسِّر القطارَ نفسَه الذي كان فيه الأب تافريون.
كانت الاتّهامات ضد الأب تافريون كلُّها سخيفة بالكلّية. فمثلاً، اشتكى بعضُ زائري الدير بأن الشيخ قد أخذ منهم مالاً من أجل الذكرانيات دون أن يُعطيَهم إيصالاً بذلك. كان رجال الاستخبارات الروسية KGB يظنون بأن الشيخ سوف يضطرب ولن يستطيع أن يقدّم تبريراً، وبالتالي سوف يتم احتجازُه. إلا أن الشيخ، وكأنه كان يعرف مسبقاً ما ينوون فعله، تظاهر بأنه خادمٌ مَدَنيٌّ مُخلِصٌ للسلطات السوفييتية: “ولكي تتأكَّدوا من الأمر، جلبتُ لكم دفاتر الحساب لتدقِّقوا فيها”. فكان عليهم تخلية سبيله.
أما الأمر الثاني الذي كان له دور في حماية الدير فهو المال. كانت هناك مبالغُ كبيرة من المال من كل أنحاء روسيا لدعم الأبرشيات الثلاث (لاتفيا وليتوانيا وإستونيا). تروي الراهبات بأن حمولات شحن كاملة من الطحين والحنطة السوداء وغيرِها كانت تُرسَلُ إلى الدير المجاور في بيوختيستا في إستونيا. كل سائقي سيارات التاكسي كانوا يعرفون الدير جيداً ويقومون بتوصيلاتهم بكل سرورو إلى “الشيخ الصغير الذي يَمنحُ بسخاء”.
بشكل عام، استطاع الشيخ الحصول على أي شيء يحتاجه الدير من السلطات المتعطّشة للمال. مثلاً، كان من المحظّر، في الإتّحاد السوفييتي، تشييدُ الكنائس أو أي أبنية أخرى في الأديرة، لكنّ الشيخ “كان يتحيَّنُ الفرص” بحسب تعبيره. فكان يَدعو المسؤولين الرسميين، وفيما يقدّم لهم شيئاً ليأكلوه، كان يَذكر أمامهم أنه بحاجة لبناء حمَّام. كان اللاتفيّون (أي الذين من لاتفيا) بالِغِي النظافة والترتيب، لذا كانوا يمنحونه الإذن لبناء الحمّام، فيبدأ مشروع البناء. وبدون أن يلحظ أحد، كان يُضافُ طابق آخَر إلى بناء الحمّام، ليتسنّى لزوار الدير المبيت فيه. وعلى المنوال نفسِه، كان يتم إنشاء مطبخ وغرفة طعام كبيرين داخل مخزن الحطب.
أما السببُ الثالث للاستقرار الذي كان يسود حياة الدير فهو الموقف الودّي الذي يكنّه مطران الأبرشية للشيخ تافريون. لم يكن الشيخُ يُعلِّمُ الناسَ أن يَكرهوا الشيوعيين، بل أن يكرهوا روح الشيوعية، روح ضد المسيح. فكان الناس الذين يأتون إلى الدير من رعايا متحرِّرة يَلقون منه توبيخاً أكثر مما تَلْقاه زوجاتُ وأمهاتُ الشيوعيين اللواتي يأتين للزيارة.
حدث، مرةً، أن جاء إلى الدير اثنان من الفنانين التجريديين. لم يتوجّه الشيخ إليهما شخصياً بأيِّ كلام، لكنه قال في عظته المسائية (فقد كان يَعِظُ مرّتين في القداس: مرةً بعد الإنجيل، وأخرى في نهاية الخدمة؛ ثم مرتين في المساء): “علينا المحافظةُ على قوانين الكنيسة حول كيفية الاشتراك في القدسات والصوم وغيره. أما إذا لم تكونوا ترغبون بالمحافظة على هذه القوانين، فما الذي ينبغي عليّ، كنبيّ، أن أقولَ لكم؟ ثم نظر مباشرة إلى الفنّانَين وكأنه كان يصيح بهما: فلتخرجا من الكنيسة!” فما كان من أحدِهما إلا أن غادر في اليوم التالي، أما الآخَر فبقي وقتاً أطول، إلا أنه كان يتقيَّدُ بقوانين الدير. في سنواته الأخيرة، وعندما كان الشيخُ يتلقّى رسائلَ من هكذا أشخاص متحرِّرين، كان يقول وكأنه يتأوّه: “أحرقوا الرسائل، أحرقوها! ارأَفوا بي أنا المريض، لا وقت لدي”. إلا أنه، في الوقت نفسِه، كان لديه الوقت والقوة للإجابة على رسائل البسطاء من الناس المؤمنين أو الذين هم في طريق الإيمان.
تعليمه
كان روح تعليم الشيخ حَمْل الصليب. دائماً ما كان يحب تكرار أنَّ مكان المسيحي الحقيقي هو الجلجلة، حيث عليه أن يتوِّج حياته بموته على الصليب. لأننا “إذا متنا مع المسيح، فسنقوم معه أيضاً”… “على كل امرىءٍ القيامُ بواجباته، فيكون ذلك صليب الخلاص بيسوع المسيح”… “إذا كنتَ راعياً، عليكَ أن ترعى قطيعَكَ بكل حميّة، باذلاً نفسك من أجل الخراف. إذا كنتَ راهباً، فعليك أن تصير ملاكاً أرضياً، إنساناً سماوياً؛ على الراهب معرفة كلمتين: سامِح وبارِك. أما إذا كنتَ ربَّ عائلة، فعليك الاعتناء بها، فالعائلةُ هي أساس الحياة: أنتم تشكِّلون كنيسةً صغيرة، أنتم ركنٌّ في مؤسَّسة الكنيسة”. وكان الشيخ يثور تجاه أيّ انتهاك لقانون الكنيسة، ومن ثوراته أنه يطلق على الكهنة، الذين يغيّرون أماكن خدمتِهم بسبب المال، لقبَ المتبدلون لقاء المال. أما بخصوص الأساقفة فقد قال مرةً: “لقد سمعتم خدمةَ القديس يوحنا الذهبي الفم. كم هي رائعة وتعليمية بالطريقة التي كُتِبَت بها! يا لَلمستوى الذي كان عليه الأساقفةُ فيما مضى!”
دائماً ما كان يتحدَّثُ الشيخُ عن حياة العائلة: “يقول بعضُ الناس: ليس بمستطاعنا إنجابُ الأولاد، فشُقَّتُنا فقيرة. لكن، كيف كانت حالُ المعيشة السابق؟ كان هناك غرفةٌ فيها سريرٌ كبير ينام عليه الأبُ والأمُّ، والأولاد ينامون عند أقدامهما. أما في الليل، فكان ملاكٌ يأتي ليوقظَ الأبَ قائلاً له: انهض وهلمَّ أنت وزوجتك وأولادك لتُصَلّوا أمام الله”. لم يبارك الشيخُ الطلاقَ مُطلقاً، أما النساء اللواتي كنَّ يتزوّجن للمرة الثانية بينما رجالُهن لا يزالون على قيد الحياة، فكان يدعوهن “الهيروديات(نسبة إلى هيروديا التي تزوّجت هيرودسَ، وكان زوجُها-أخوه- لا يزال على قيد الحياة) المتعدّيات الشريعة”. وكان يذكر أنّه رغم أن يوحنا المعمدان وقف بوجه هيروديا، إلا أنها تزوجت، وذلك خلافاً للشريعة. وقد صارت تعيش على مزاجِها، لذا، جاءتها فكرةُ أن: “أعطِني رأسَ يوحنا المعمدان على طبَق!” هذا ما تقود إليه المشيئةُ الذاتية.
كان هناك العديدُ من الزوجات اللواتي تخلّى عنهن أزواجُهن أو الأولاد المتخلفين عقلياً أو المعاقين جسدياً، وكان الشيخُ يساعدهم روحياً ومادّياً ليستطيعوا الاستمرار. عائلاتٌ عديدةٌ كانت بالكاد تستطيعُ تحمُّلَ آلامِها وحالات أولادها المتخلفين والمرضى. كان الشيخُ يُعَلّمُ أنه يجب النظر إلى هؤلاء الأولاد المرضى بأنهم خلاصُ العائلة كلِّها. “لا شيء يحدث، في حياتِنا، صِدفةً، فاللهُ يعمل كلَّ الأشياء من أجل خلاص نفوسنا”.
كانت تحدث معه حالات عديدة من المعرفة المسبقة، فكان الشيخُ، في أكثر الأحيان، ينادي الناسَ بأسمائهم عند رؤيتهم للمرة الأولى. وكان يرسم إشارةَ الصليب على الجبهة عندما يريد جعلَ أحدهم يفهم. بعضُ أقواله كان: “تحاول النعمةُ أن تدخل فينا، لكننا نقاومها”… “إن الدورة السنويةَ لقراءات الإنجيل المقدس هي مرتّبة بعناية حتى أن مَن يُصغِ إليها بانتباه يسمعْ ما يحتاج إليه في تلك اللحظة”… “أحبّوا الإنسانَ حتى في سقوطه”. كان الشيخُ يُقَدّرُ كثيراً بعضَ الأدباء. فكان يقول عن سولجنستين: “إنه نبي، هو بوشكين الكنيسة” (ألكسندر بوشكين، كاتب روسي من بداية القرن التسع عشر، يعتبره البعض أعظم الشعراء الروس، كان تأثيره على اللغة روسياً عظيماً). كان، أيضاً، يحب دوستويفسكي فيقول: “كُتِب في مؤلفات دوستويفسكي بأنه إذا حصل للإنسان، في طفولته، تأثيرٌ تُقَويٌّ صالح فإن هذا التأثير، مهما كانت حياتُه مظلمة وقذرة، لن يجعلَ هذا الإنسانَ يَهلِك بالكلّية”.
رقاده
في ميلاد 1977- 1978، صار الشيخ يلاقي صعوبة في بلع الطعامَ. بدا، أول الأمر، أنه يستجيب للأدوية، لكنه كان يقترب من نهايته. لسبعة أشهر، منذ الميلاد وحتى 13 آب، لم يَأكلْ أو يشرب أيَّ شيء باستثناء قليل من العصير أو نصف بيضة. في الفصح، توقف الشيخُ عن الخدمة اليومية في الكنيسة. حضر في الصعود وسبت الأموات الذي قبل العنصرة، ويوم العنصرة. ولم يعد ينهض من الفراش بعد إثنين الروح القدس.
في الثالث من آب، وعند الساعة الخامسة صباحاً، طلب الشيخُ كاهناً ليناوله ويمسحَه بالزيت ويصلّي عليه صلاة النفس في النزع الأخير. في الساعة السادسة والنصف، وخلال تلاوة الصلاة، أسلم الروحَ بسلام. بعد معاناة طويلة، وكان هذا صليبه، توفي الأرشمندريت تافريون بسبب سرطان المريء. كان الشيخُ يسمّي تلك الآلام المبرّحة كالسرطان ﺑ “جراحات المسيح”. رقادُه يوم الأحد كان عظتَه الأخيرة. فهو دائماً ما كان يَدعو الناس لتحضير أنفسِهم بكل انتباه لكي يلاقوا يوم الرب- الأحد وكأنه فصحٌ حقيقي. لأننا، بحسب ما يقول، إذا ما عشنا هذا اليوم كما لو أنه الملكوت المنتظر، وذلك بتناولنا الأسرار بشكل متواتر، نكون قد هيَأنا نفوسنا للموت بأفضل ما يمكن.
بعد عدة أيام ماطرة ومقيتة، أتى يومُ الدفن متلألئاً بإشراق، وكان في 16 آب. كان ذلك قبل عيد التجلّي بثلاثة أيام، وهو عيد الدير. وقد أكَّد كثيرون من المشيّعين الحزانى بأنهم شاهدوا الشمسَ تتراقص. خلال الدفن، الذي ترأَّسه الأسقف يعاونه اثنان وعشرون كاهناً، تُلي إنجيلُ اليوم، وكان قراءةً من إنجيل يوحنا الذي طالما كان يرددها الشيخ: “من يأكل جسدي ويشرب دمي له الحياةُ الأبدية وأنا أقيمُه في اليوم الأخير”. أمّا خدمة الأربعين فكانت أيضاً مُفرِحة وذات دلالة، فقد صادفت عيد ميلاد والدة الإله وهو عيد دير ميلاد والدة الإله في غلينسك، حيث دخله الصبيُّ تيخون مدفوعاً بمحبته العظيمة لله قبل كلّ تلك السنوات الماضية، أي قبل سبعين عاماً من بداية تلك الحياة المميزة في قرن الآلام، القرن العشرين.
أيها الأب القديس تافريون صلِّ إلى الله من أجلنا.